48

ومن أشهر الأخبار عن العلاقات المتصلة بين القصور ودوائر الأدب، ذلك الخبر الذي لم يكتب في حينه، ولكنه ورد في مذكرات أحمد شفيق باشا التي نشرها بعد خلع السلطان عبد الحميد والخديو عباس الثاني، وذلك هو خبر الأستاذ الإمام محمد عبده مع شبكة الجاسوسية الصحفية في القاهرة والآستانة، وكان الخديو عباس شديد النقمة على الأستاذ لمعارضته إياه في سياسة الأزهر وديوان الأوقاف، ولكنه لم يكن يستطيع عزله لغير سبب يمكن تقريره والاستناد إليه، ولم يكن نظام مجلس الوزراء يسمح له بالتصرف في المناصب الكبرى بوحي من أهوائه الشخصية، فأراد أن يتمسح بحقوق الخليفة الأكبر - عبد الحميد - في المسائل الدينية، وانتهز فرصة السياحة الصيفية وسفر الأستاذ إلى الآستانة لتوريطه في موقف مريب يؤدي بالاتفاق مع جواسيس «المابين» إلى اعتقاه «متلبسا» بحالة من الحالات الشائنة التي لا تجمل بمفتي الديار، فلا يصعب على الخديو بعد ذلك أن يأمر بإخراجه من المناصب الدينية ومن وظيفة التعليم بالجامع الأزهر، ولا يستطيع المستشارون الذين يشهدون مجلس الوزراء أن يعارضوه باسم القانون المالي ونظام تأديب الموظفين.

وقد تولى هذه المهمة مكاتب «المؤيد» بالآستانة، فقدم نفسه إلى الأستاذ، وعرض عليه خدمته لتمكينه من الفرجة على مناظر البلد التي يجهلها السائح الغريب ولا يهتدي إليها بغير دليل، ولولا يقظة الشيخ محمد عبده وانتباه بعض المصريين في الآستانة إلى خبيئة هذه الدسيسة، لاعتقل الشيخ في جهة من جهات اللهو المنكر يراقبها الشرطة، ويستطيعون على الأقل أن يخرجوا من البلد من يصطدم فيها بالمشاغبين الغرباء، فيحق القول على الإمام «المتهتك»، وتكون هي القاضية على سمعته وعلى جهوده ومشروعاته في سبيل الإصلاح.

وأمثال هذه «المؤامرات» بين سماسرة القصور وحملة الأقلام أكثر من أن تحصى، كنا نسمع ببعضها في حينه، ولكنها لا تنشر في الصحف السيارة إلا بأسلوب التورية والتلميح، أو تنشر عنها الكتب التي تصاغ بأسلوب «القصة الخيالية» وأبطالها جميعا معروفون.

ولم تنقطع هذه المؤامرات كل الانقطاع إلى زمن فاروق، ولكنها ذهبت شيئا فشيئا على مراحل متعاقبة، ترتبط كل الارتباط بتواريخ القصور «ذات الشأن»، كما يقال في التعبيرات الحديثة، وهي مراحل العلاقة بين قصر يلدز وقصر عابدين، ثم مراحل العلاقة بين قصر عابدين وقصر الدوبارة، وهو عنوان دار الوكالة البريطانية المشهور.

ولهذا كانت الناحية الدينية غالبة على هذه المؤامرات في مرحلتها الأولى، وكان محورها الأكبر مسألة الخلافة ومسألة السمعة الدينية أو الدعاية التي لها علاقة بالدين وبالأخلاق.

كان السلطان العثماني يتهم الخديويين بالسعي إلى تحويل الخلافة من الترك إلى البلاد العربية، وكان الخديويون يحذرون من سلطان الخليفة لأنه السلطان الذي كان من حقوقه أن يخلع أمير مصر أو يبدل نظام الوراثة أو يساوم الدول الأوروبية على حساب الخديوية المصرية، كلما كانت له في ذلك مصلحة من مصالح السياسة الدولية.

ومن هنا جاءت تلك القضايا التي ترتبط بمناصب الإفتاء ومشيخة الطرق الصوفية ومنازعات الزوجية والكفاءة لها من وجهة النسب والوجاهة الاجتماعية، كما جاءت تلك الأقاويل التي تدور على اتهام كبار الرجال العاملين في نهضة هذه الأمة، لأنهم ينازعون الخليفة أو الأمير، ولا يسهل التغلب عليهم بغير التشهير وتدبير المواقف التي تنفر الناس منهم باسم النخوة الدينية على الخصوص.

وقد ذهب عهد عبد الحميد، وبقيت لمسألة الخلافة ذيولها التي شهد المعاصرون آثارها في حياتنا الفكرية، فإن الثورة الفكرية التي اشتبكت فيها أقلام العلماء والأدباء شهورا في هذا البلد بعد ظهور كتاب «الإسلام وأصول الحكم»؛ لم تكن لتشتعل هذا الاشتعال لولا طموح أحمد فؤاد إلى الخلافة، واعتقاده أنها توطد مكانه عند الدولة البريطانية لتستعين به على حكم الإمبراطورية الهندية، ولو بلغ من شأنه أن يستفحل حتى يؤدي إلى سقوط الوزارة وإثارة المشكلة الدستورية على وضع جديد.

وللناقد الأدبي - إذن - أن يجعل شعاره «فتش عن القصر» أو «فتش عن قضية الخلافة»؛ ليفهم حقيقة لا غنى عنها في تقدير مدارسنا الأدبية في الجيل الماضي، وتقدير أسباب التجمع والتفرق بين حملة الأقلام في كل مدرسة منها، وبغير هذا «الشعار» يتعذر عليه كل التعذر أن يدرك الأسباب الكامنة وراء تكوين تلك المدارس من مجرد العلم بآثارها المكتوبة وتراجمها المعروفة.

ولنضرب لذلك - مثلا - قصيدة الاستقبال التي قيل في مطلعها:

অজানা পৃষ্ঠা