خرجنا به من الدار التي ولد فيها، فألفها منذ كان طفلا يحبو إلى أن صار فتى يمشي بها مشية الخيلاء؛ من الدار التي كان يضيق فناؤها - على سعته - به، فيذهب إلى الشارع وإلى المتنزهات تحيط به الخدم أو يصيبه أذى، إلى ذلك اللحد الضيق الذي لا يستطيع أن يعيش فيه إنسان ساعة من الزمان، ولكنه - مع ما به من وحشة ووحدة - أوسع المنازل بعد الموت وآنسها لمن يلقى الله طاهرا مثل عمر.
خرجنا به، لا كما يخرج في عربته إلى المدرسة يصحبه خادمه، بل محمولا على الأعناق مودعا بجماهير المشيعين، في سرير كما تزف العروس مغشى بالحرير الأبيض مجللا بالزهور، ولكنه كان زفافا محزنا يعلوه جلال الموت خطيبا يصيح: الصبر أجمل. والناس يصيحون، سار مشيعوه جميعا مطرقي الرءوس كأن عليها الطير وتخاف أن يطير؛ إلا رأسين كانا يتلفتان إلى النعش بنظرات الملهوف: رأس والده الحزين في مقدمة الجنازة، ورأس والدته الثكلى في مؤخرتها، فيهما أربع أعين هامية، ودونهما قلبان مستعران ومهجتان زافرتان.
ويشاء القدر لهذه العصامية التي لم تفارقه في تشييع فلذة كبده، وأعز أهله عليه، أن تلازمه إلى أخريات حياته، وأن تسلبه كثيرا كما وهبت له كثيرا، فقد صحبتها دفعة الثقة بالنفس في مغامراتها، فغامر في طلب الحب كما غامر في طلب الكسب، فلم تكتب له السعادة في هذا ولا ذاك؛ لأنه شقي بالحياة الزوجية التي حسبها غاية الأمل نعمة وشرفا.
وشقي بالمال الذي اقتناه فضاع كله بين عثرات الجد وعثرات الطموح والإقدام.
2
من المصادفات التي عرضت لي في حياتي الصحفية، أنني جلست على مكتب علي يوسف أياما في أثناء نيابتي عن الأستاذ أحمد حافظ عوض، الذي كان يتولى رئاسة «المؤيد» في تلك الأيام. وقد دعي الأستاذ أحمد حافظ عوض لمصاحبة الخديو في رحلته التي طاف فيها بأقاليم الوجه البحري على سبيل المظاهرة أمام الإنجليز؛ لأنه أحس أنهم يفكرون في خلعه وتعديل نظام الخديوية وولاية العهد في الأسرة العلوية، وقد كانت سفرته الأخيرة من مصر بعد الطواف بالأقاليم، وزيارة الوجهاء والنواب في مساكنهم، واستقبال الشعب في المنازل والطرقات، والتهويل على الدولة المحتلة بمظاهر الولاء التي أراد أن تحف به قبل رحيله من الديار، ولكنه خلع فعلا بعد سفره بثلاثة أشهر، واحتج الإنجليز لخلعه بانضمامه في العاصمة التركية إلى دول أوروبة الوسطى، متابعة للدولة العثمانية.
وقد عهد إلي الأستاذ أحمد حافظ عوض أن أتلقى رسائله ورسائل وكلاء الصحيفة أثناء تلك الرحلة، وأفهمني أنه يعد العدة لتأليف كتاب عنها يقدمه إلى الخديو بعد عودته إلى الديار.
وتقدرون فتضحك الأقدار!
فلا الخديو عاد إلى الديار، ولا عاد إليها كتشنر الذي رسم الخطة قبل سفره من مصر لتغيير نظام الحكم كله في هذه البلاد، ولا الكتاب «المنتظر» كتب فيه حرف واحد؛ لأنني رفضت العمل فيه، واستقلت من تحرير «المؤيد» أثناء اشتغال الأستاذ حافظ بجمع الصور والتواريخ لتأليفه وتنسيقه.
ومن المصادفات أن يتفق لي الجلوس على ذلك الكرسي، وأن أكتب على ذلك المكتب، الذي لم أكد أفرغ من حملاتي على صاحبه وعلى سياسته أثناء حياته وبعد مماته، ولا أذكر أنني لقيت فيه صاحبه غير مرة واحدة، كانت هي المرة الوحيدة التي حييته فيها لكلام كتبه في السياسة الوطنية.
অজানা পৃষ্ঠা