في كل مكان أذهب إليه يسألونني: هل رأيت التاج محل؟ وحينما أقول: لا. تتسع العيون دهشة وأسمعهم يقولون: إذن أنت لم تري الهند، وتذكرت «الهرم» في مصر، وكيف يتصور الكثيرون أن أهم ما في مصر هو هرم خوفو، كما يتصور الكثيرون أن أهم ما في الهند هو التاج محل. وليست هذه هي الحقيقة في رأيي، ولست من هؤلاء الذين يعبدون الآثار والأبنية، ودائما يرادوني هذا السؤال حينما أرى أثرا ضخما أو بناء هائلا: من الذي بناه؟ ولماذا؟ مهما بلغ البناء من جمال لا أرى جماله إلا بعد أن أعرف القصة وراءه. وكم من قصص أليمة وراء أجمل الآثار والأبنية، وكم من أهرامات وأشباه الأهرامات بنيت بدماء وعرق آلاف العبيد الجوعى.
إن أعظم أثر تاريخي هو الهرم الأكبر في مصر، الذي بني بعرق ودم آلاف العبيد من المصريين الفقراء، وإن أجمل أباجورات في العالم عملت من جلود الرجال والنساء الذين قتلهم هتلر في سجون النازية، وإن التاج محل أجمل بناء في العالم بني بسواعد آلاف الهنود الجوعى لمدة عشرين عاما. ويقولون إن الإمبراطور المغولي قطع ذراعي المهندس الذي بناه حتى لا يبني واحدا مثله لأي إمبراطور آخر. ومع ذلك فقد أصبح التاج محل يرمز في التاريخ إلى الحب، وفي الليالي القمرية ترى أفواجا من العشاق والسياح يتطلعون إلى هذا المبنى الرخامي الأبيض، ويذكرون بإعجاب ذلك الإمبراطور المغولي الذي بناه لزوجته المحبوبة بعد وفاتها. إن التاج محل ليس إلا مقبرة لإحدى زوجات الحكام المغول. لكنه بني بالرخام الثمين، تعلوه قباب رخامية رائعة المنظر، وعلى جدرانه من الداخل والخارج نقوش بديعة متعددة الألوان.
وقد رأيت التاج محل في مدينة أجرا. وكما نصحني الناس رأيته في ضوء الشمس، ورأيته في ضوء القمر، ولمست بأصابعي جدرانه الرخامية الناعمة تشبه في نعومتها بشرة زوجات الأباطرة والملوك، وهبطت السلالم داخله لأرى التابوت الذي دفنت تحته الزوجة والذي رصع بالمرمر والأحجار الكريمة، وقيل لي: إن الأموال التي بذلت في بناء التاج محل كانت تكفي لبناء الهند وجعلها أكثر البلاد تقدما.
وعلى العشاء في بيت الشاعرة أمرتنا برتيام دار الحوار حول هذا السؤال: أيهما كان أكثر فائدة: بناء تاج محل، أم بناء الهند؟ وانقسمت الآراء، بعض الهنود قالوا: إن بناء تاج محل كان أكثر فائدة؛ لأن السياح من جميع أنحاء العالم يأتون إلى الهند لرؤيته، ولأنه يعتبر من الناحية المعمارية والناحية الجمالية أجمل بناء في العالم، لكن البعض الآخر عارض هذا الرأي وتساءل قائلا: ما هو الجمال؟ إن الجمال الذي يقوم على استغلال آلاف الجوعى لا يمكن أن يكون جمالا. وقد كنت مع الرأي الأخير. لكن بعض عشاق التاريخ والآثار قالوا: بهذا المنطق كان من الممكن ألا يكون هناك آثار ترى الآن، ولا تاريخ عريق للهند أو مصر يجسده الهرم الأكبر ويجسده التاج محل، لكني تساءلت: ما هو التاريخ؟ هل تاريخ الهند هو كيف أحب الإمبراطور المغولي زوجته إلى حد أنها حين ماتت بنى لها هذه المقبرة الثمينة الرائعة؟ هل التاريخ هو قصص غرام الأباطرة والملوك بزوجاتهم أو بأنفسهم وتلك المقابر التي بنوها لأنفسهم أو أسرهم على شكل أهرامات أو على أي شكل آخر؟
لا شك أننا في حاجة إلى إعادة فهم التاريخ؛ فالتاريخ ليس فقط حياة الملوك والحكام أو موتهم، والتاريخ ليس مجرد أبنية وقلاع وأهرامات، لكن التاريخ أكبر من هذا، التاريخ هو قصة ملايين الناس في كل شعب وكفاحهم المستمر من أجل البقاء، التاريخ هو صمود هؤلاء الملايين في وجه الأباطرة والملوك والحكام. إن الحاكم الذي يستحق أن نذكره في التاريخ هو ذلك الذي يسعى لتوفير حياة كريمة لملايين الناس في بلده، وليس هو الذي سخر الملايين واستعبدهم من أجل أن يبني مقبرة من الرخام الثمين لجسد زوجة لم تفعل في حياتها شيئا سوى الأكل والنوم.
إن التاج محل في رأيي ليس رمزا للحب الذي حدث في التاريخ، ولكنه رمز للحب الذي فقد في التاريخ، ودفن تحت مقبرة من الرخام الأبيض! •••
في نيودلهي - عاصمة الهند - نزلت ضيفة على زوجي الذي يعمل في الهند منذ عامين، في شقته الصغيرة البسيطة في حي «ديڨنس كولوني»، أدركت لأول مرة أن أفضل وضع للزوجة هو أن تكون ضيفة في بيت زوجها؛ إنها تشعر دائما أنها سعيدة؛ ذلك لأن بقاءها ليس دائما وإنما بقاء مؤقت. عرفت أيضا أن البعد يجدد الحب والشوق. كنت أعرف هذه الحقيقة دائما وأقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في حجرتين منفصلتين لتظل بينهما مسافة، وحينما تطور تفكيري كنت أقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في شقتين منفصلتين، ولكني الآن وبعد أن نضج تفكيري أقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في بلدين منفصلين. إن البعد يضعف العلاقات الزوجية الهشة لكنه يقوي العلاقات المتينة القائمة على أساس من الحب الحقيقي والفهم والتقدير. «نارايان» هو اسم الشاب الهندي الذي يطبخ لزوجي طعامه. إنه شاب أسمر قصير نحيف يمشي على الأرض بخفة غريبة، كأنما هو يشفق على الأرض من أن يدوس عليها بقوة. وقد لاحظت أن كثيرا من الهنود لهم هذه المشية، وعرفت من بعد أنها نوع من التواضع الذي يتميز به الهنود، وأيضا نوع من الرقة والحرص على احترام الكائنات الحية وإن كانت حشرات صغيرة تسعى فوق الأرض.
وعرفت من نارايان أن عمله في الحياة هو الطبخ فقط. إنه مثلا لا يغسل العربة ولا يكنس البيت مهما أخذ من أجر إضافي؛ وليس ذلك لأنه لا يحتاج إلى هذا الأجر، ولكن لأن مثل هذه الأشغال الدنيا لها طبقة معينة. أما هو من طبقة أعلى. وهو لا يغسل إلا ملابس الرجل. كان يمكنه أن يغسل ملابس زوجي. أما ملابسي أنا فهو يترفع عن غسلها؛ لأني امرأة.
إن المجتمع الهندي لا زال حتى الآن يفرق بشدة بين الطبقات، أعلى طبقة هي طبقة البراهميين، وأدنى طبقة هي طبقة الخدم ويسمونهم «طبقة الذين لا يلمسون» أو طبقة المنبوذين، وهم هؤلاء الناس الذين يستنكر الناس لمسهم أو مصافحتهم؛ لأنهم فقراء وملوثون. حاول بعض الرواد وزعماء الهند من أمثال غاندي ونهرو أن يحاربوا هذه التفرقة الشديدة بين الطبقات. وقد خفت حدة هذه التفرقة لكنها لم تختف تماما.
كان يفرض على أعضاء طبقة المنبوذين ألا يقتربوا من أعضاء الطبقات الأخرى، وأن يتحدثوا معهم من على بعد معين حتى لا تصل أنفاسهم إلى أنوف الآخرين، وقيل لي: إن بعض الأثرياء من البراهميين كانوا يستحمون إذا ما وقع عليهم ظل رجل من المنبوذين. •••
অজানা পৃষ্ঠা