لا زلت أحملق في وجه الشاب الفدائي، عينان مرفوعتان إلى أعلى وفيهما بريق، يتطلع نحو الطريق، وهو جالس إلى جوار السائق وفي يده السلاح، ويده الثانية مبتورة، والسيارة مصفحة من النوع «الجيب»، أجلس خلف السائق وإلى جواري ثلاثة من الفدائيين المسلحين، منهم فتاة فدائية اسمها «أسماء»، عيناها كعيون الشباب؛ البريق والعين المرفوعة تثبت في العين ولا تتذبذب، وخلفي تجلس «أم يوسف»، امرأة متوسطة العمر، ملامحها ريفية تشبه ملامح عمتي بهية، تلف رأسها بمنديل أبيض يسمونها أم الفدائيين. وصلت بنا السيارة إلى الكرامة، خراب وحطام، والصمت كالهواء الثقيل الراكد يتحرك من حين إلى حين على صوت انفجار مكتوم، البيوت كلها متهدمة والأسلاك مقطوعة وعربات الفحم الأسود، ولا أحد من السكان. لا شيء إلا الأحجار، بقايا بيوت متناثرة، وبقايا أثاث، وفردة حذاء طفل ورائحة دم جاف وشجرة محترقة.
سرت مع الفدائيين بين الركام، ثم انشقت الأرض فجأة عن شاب طويل نحيف يلف رأسه بكوفية بيضاء فيها دوائر سوداء، عيناه سوداوان فيهما البريق والنظرة المباشرة، والعين تنفذ في العين وتظل ثابتة، قادنا إلى مغارة قريبة من حافة النهر في بطن الأرض، ومجموعة من الشباب المسلحين في وضع الاستعداد، عيونهم نحو الضفة الغربية شاخصة، وحنين إلى الأرض التي ولدوا عليها ثم طردوا منها بقوة السلاح، تطل الأرض عليهم من وراء نهر الأردن، الضفة العالية الخضراء، الوطن والأهل والأم الممزقة بين الضفتين، الأم المقتولة تحت الجدار، والأب المطعون في الصدر والبطن والظهر، والطفل الذي لم يبق منه إلا فردة حذاء، ومن أرض الوطن حيث إسرائيل الآن تطلق مدافع الهاون تقذفهم بالدانات، وطائرات أمريكية الصنع تلقي الصواريخ وقنابل النابالم.
تلقى أحد الشباب الإشارة، واختفينا جميعا داخل المغارة، صوت المدافع والقذائف يرج جدران المغارة، غبار يتساقط من السقف، أتطلع بعيني فوق رأسي، السقف أسود بلون الأرض، خشن ومشقق كالأرض ، وحروف محفورة فوق الجدار بخط متعرج كشقوق النيل، واسم محمود درويش:
إني مندوب جرح لا يساوم
علمتني ضربة الجلاد أن أمشي وأمشي وأقاوم
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجارا وعتالا وكناس شوارع
ربما أبحث في روث المواشي عن حبوب
ربما أحيا عريان وجائع
يا عدو الشمس، لكن لن أساوم
অজানা পৃষ্ঠা