وقالت أكيلا: هذا صحيح، ولكن اللغة الإنجليزية تذكرنا بالاستعمار الإنجليزي.
قلت: نعم؛ ولهذا بدأتم في الهند بعد الاستقلال تهتمون باللغات الهندية المحلية، ولكن المشكلة عندكم أن اللغات الهندية تزيد على سبع عشرة لغة. ومن المهم توحيد اللغة حتى يمكن للهندي أن يتفاهم مع الهندي (في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب أو الوسط) باللغة الهندية وليس باللغة الإنجليزية.
وقالت أكيلا: إحدى اللغات الهندية - وهي «الهندي»
Hindi - أصبحت هي اللغة الرسمية، وسوف تصبح في المستقبل هي اللغة التي توحد بين اللغات الهندية المتعددة.
قلت لها: حينئذ تستطيع الشاعرات والأديبات والأدباء أن يكتبوا باللغة التي يبكون ويحلمون بها.
وضحكت أكيلا، وكنت في أعماقي أدرك مشكلتها كشاعرة هندية مع اللغة الإنجليزية؛ لقد درست اللغة الإنجليزية مثلما درستها «أكيلا» وكثير من قراءاتي الأدبية والعلمية بالإنجليزية، وقد أكتب في النواحي الطبية والعلمية بالإنجليزية، ولكني حين أكتب الأدب لا أكتب إلا باللغة العربية. وقلت لأكيلا: إن مشكلة اللغة في الهند غير موجودة في مصر؛ لأننا في مصر لنا لغة واحدة هي العربية، نولد بها ونحلم بها ونبكي بها ونتعلمها ونتكلم بها في جميع أنحاء مصر بل في جميع أنحاء البلاد العربية. كما أن الإنجليز لم يعيشوا في مصر كما عاشوا في الهند ثلاثة قرون. وقد لعبت اللغة العربية - لكونها لغة واحدة - دورا في الصمود أمام اللغة الإنجليزية، ولم يستطع الإنجليز أن يفرضوها على المصريين كلغة رسمية كما فعلوا في الهند. لقد ظلت اللغة الإنجليزية في الهند هي اللغة الأولى في المدارس لسنوات طويلة، أما في مصر فقد كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة الثانية فقط. أما اللغة الأولى فقد كانت دائما اللغة العربية.
وقالت أكيلا: إن مشكلتي كشاعرة (وهذه هي مشكلة جيل من الشعراء والأدباء في الهند) إنني لا أشعر أنني أملك زمام لغة واحدة، إنني أعرف أربع لغات (الإنجليزية، البنجابية، الهندية، الأردية) ولكني لا أسيطر سيطرة كاملة على أي منها، واللغة هي الأداة أو ريشة الشاعر أو الأديب، وإذا لم يسيطر الفنان على أداته سيطرة كاملة لا ينتج فنا جيدا، وسوف تظل مشكلة تعدد اللغات في الهند قائمة حتى تصبح لنا لغة واحدة هي اللغة التي نولد بها والحروف الأولى التي تطرق آذاننا ونحن أطفال في الهند، نحلم بها ونبكي بها ونكتب بها أيضا.
وأهدتني «أكيلا» ديوانها الأخير الذي كتبته بالإنجليزية، وقرأت أبياتها العميقة الرقيقة وهي تعبر عن مأساة قرية في البنجاب أغرق فيضان النهر بيوتها وحقولها. لم أقرأ في الشعر الإنجليزي الأوروبي أجمل من بعض أبياتها وهي تصف عيون الأطفال المشردين الجوعى، أو تلك الأبيات التي تصف بها النهر المقدس الذي كان يتطهر فيه الهنود من آثامهم الدنيوية ثم إذا به يحدث الدمار للقرية. رغم بساطة اللغة والكلمات إلا أنها تحمل أخطر المعاني؛ فإن أكيلا تسخر بشعرها من بعض الخزعبلات والمقدسات في بلدها، وكتبت تقول: كان النهر المقدس لا يغسل آثام الناس ولكنه كان يغسل عرق الفلاحين وطمث النساء وبراز الأطفال المرضى بالإسهال صيفا وشتاء. تبدو هذه الكلمات فجة غير أدبية شاعرية ، ولكن الفنان الحقيقي يستطيع أن يحول قطع الصخر إلى أحجار كريمة وجواهر.
قالت لي أكيلا إنها بدأت تكتب الشعر بعد أن اشتغلت مدرسة بإحدى المدارس الابتدائية وحين كانت تنادي أسماء أطفال فصلها لتعرف من الغائب تكتشف كل صباح غياب اثنين أو ثلاثة أطفال. وتطوي قائمة الأسماء وهي مطرقة ويظل الفصل صامتا بعض الوقت. كان الجميع يعرفون لماذا غاب زملاؤهم أو زميلاتهم. الموت في الهند كان يحصد الأطفال حصدا ابتداء من أيامهم الأولى حتى سن السادسة أو السابعة أو الثامنة، وعدد وفيات الأطفال الإناث أكثر من الذكور؛ فالطفلة الأنثى في الهند (كغيرها من البلاد) تنال من الإهمال والتجويع أكثر مما يناله الطفل الذكر. «أكيلا» لا تزال شابة في الأربعين، لكن ملامحها الدقيقة البريئة تشبه ملامح فتاة في الخامسة عشرة، وصوتها ناعم رقيق كصوت الأطفال. أما حين تنظر داخل عينيها تدهشك هذه النظرة العميقة الغائرة الموغلة في السن كنظرة رجل عجوز في السبعين من عمره، وكان ذلك سر جاذبيتها وقوتها. إن الألم هو الذي يصنع الإنسان، لكن الفنان الحقيقي هو الذي يحول الألم إلى فن جيد، ويظل الفنان رغم السنين شابا قويا، بل يظل طفلا بريئا رقيقا رغم تراكم الخبرات في قاع عينه.
وقالت أكيلا: ماتت أختي وهي في الخامسة من عمرها، قبل أن أشتري لها «الساري» الأحمر الذي وعدتها بشرائه، وماتت أمي قبل أن أستلم أول مرتب لي وأعوضها عن شقائها، أما حياتي أنا فهي صراع مستمر من أجل البقاء على ظهر الأرض، أنا لا أتزوج ولن أتزوج ولكني أعيش الحب.
অজানা পৃষ্ঠা