ديباجة المؤلف
الناسُ يُهدون على قدْرِهم ... وإنَّني أُهدي على قدْري
يُهدون ما يفنى وأُهدي الذي ... يبقى مدى الأيامِ والدَّهْرِ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. يا من أودع كنوز الأرض أسرار حكمته، يطلع عليها من جاب البلاد بحسن فطنته، وخص كلّ بقعة بخاصة لا توجد إلا فيها، وجعل لهذا رغبة عن هذه فينأى عنها، ولهذا رغبة في هذه فيصطفيها، صلِّ على نبيك ورسولك وحبيبك وخليلك سيدنا وسندنا محمد، الذي شرَّفت به كثيرًا من البقاع، وعطرت بآثاره الشريفة الأكم والقاع، وعلى آله وصحبه وشيعته وحزبه أكرم من ساروا في أقطار الأقاليم فعمروها، وأقاموا بالأراضي المجدبة وبهاطل بركاتهم غمروها، ما اهتز بها أغصان الآمال بنسمات الإقبال، وما تذكر مجروح الفؤاد على مر المنازل لذة الوطن والمناهل.
(أما بعد) فإنه لا يخفى على من سبر الدهرَ وخبر أحواله، ورأى تغيراته وشاهد في ذوي الفضل أفعاله، أن من ارتدى بمحامد الخلال وتحلَّى بحلي الفضائل والكمال نصب له الزمان مصايد المصايب، وأوقعه في شرك الهوان متجرعًا غصص النوى والنوائب، وفي وهاد حسراته محترق زفراته:
1 / 3
وكَمْ للدَّهْرِ من فعلٍ عجيبٍ ... بهِ فيهِ أُولو الألبابِ حاروا
وأَعجبُ ما يُرى فيهِ فقيهٌ ... مهانٌ والجهولُ هو المشارُ
أمورٌ لا يتمُّ لها قياسٌ ... أرانا شأنها الفلكُ المدارُ
وكنت ممن ناواه الزمان، وكرّ عليه بسيف حيفه الحَدَثان، أتقلب من الحسرات على فرش الغضا، وأجد لما بي أضيق ما يكون سعة الفضاء، فأعلل النفس بالأماني، وأتسلَّى بذكر من لم يَصْفُ له التهاني، ولما عيل مني الصبر وأعياني هذا الأمر دعاني داعي الأماني والآمال، وحرَّكني فيه الرجاء والالتجاء إلى الكريم
المتعال، أن أمتطي غارب الاغتراب، حسب فامشوا والبركة في الحركة والله مسبب الأسباب وأنشدني لسان الحال قول من قال:
إنَّ العُلى حدّثتني وهي صادقةٌ ... فيما تحدِّث أنَّ العزَّ في النقلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَى ... لم تبرحِ الشَّمْسُ يومًا دارةَ الحملِ
فاقتضى الأمر العزم على السفر، واقتحام مهامه المشقة والخطر، وقصد الأبواب الشريفة السلطانية، والتملِّي برؤية الموالي والأركان بالدولة المنيفة الخاقانية، والوقوف على تلك المنازلِ والمناهلِ والأطلال، وما أبرزته القدرة الإلهية من القوّة
1 / 4
إلى الفعل ومن عالم المثال إلى عالم الأشكال.
ومن قبل تركيب الهوى كنت ساكنًا ... ولكنْ برغمي حرَّكتني العواملُ
وسلَّكني دهري على غيرِ منهجي ... ألا في سبيل اللهِ ما الدهرُ فاعلُ
فامتطيت غارب الأمل إلى الغربة، وركبت مراكب المذلة والكربة، قاصدًا استعتاب الدهر الكالح، واستعطاف الزمان الغشوم الجامح، اغترارًا بأن في الحركة بركة، وأن الاغتراب داعية الاكتساب.
على المرء أن يسعى لما فيه نفعُه ... وليس عليه أن يساعده الدهرُ
فإن نال بالسعي المُنى تمَّ قصدُه ... وإن خالف المقدور كان له عذرُ
وهيهات مع حرفة الأدب، بلوغ وطر أو إدراك أرب، أو مع عبوس الحظ، ابتسام الدهر الفظِّ.
فما كُلُّ غادٍ نحو قصدٍ ينالُه ... ولا كلُّ من زار الحِمى سمع الندا
وكنتُ مهما وقفتُ عليه من خبر لطيفٍ سطرته، وأيَّما شعر ظريف ظفرت به قيَّدته وحبَّرته، حتى وجدتُ لديَّ جملةً من اللطائف والظرائف، قد جمعتها أيدي الأقلام، وأوقعتني عليها الأيام.
إنَّ الغريبَ إذا ما كان ذا قلمٍ ... فليس سلوتُه إلا بقرطاسِ
فيهِ يُقيِّدُ ما يلقاه من نكتٍ ... ومن ظرائفَ يُبديها من الراسِ
فخطر لي أن أجعلها رحلةً تعرب بحسن معانيها عن لطيف المعاني، وتفصح عن عذوبة السجع بما يفوق رنَّات المثاني، وأودعها ما أقف عليه في سفري من لطائف الأشعار، وغرائب النكت التي هي لدى طالبها غالية الأسعار، إلى غير ذلك من منثور ومنظوم، إلى حين قدومي من الروم. لتكون نزهةً لي ولأصحابي، وتحفة أخص بها خُلَّص أحبابي، بل عبرة لكلّ طامع في غير مطمع، بل عبرة تعبر عن مكتوم سر طالما تكلم وتوجع.
إن الفؤادَ إذا تكدّر لم يكنْ ... يصفو بغير شكايةٍ وعتابِ
فإذا تحصل من ذلك ما تحصل، وصح ما دار وتسلسل، سميّتُه:
1 / 5
رحلة الشتاء والصيف وناسبت فيها مناسبة خلت من الخلل والحيف، وما أشبهها بما قال:
رحلةٌ لم يزل يفنِّدني الصَّيْ ... فُ إذا ما نويتُها والشتاءُ
يتَّقي حرّ وجهي الحرّ والبرْ ... دُ وقد عزَّ من لظى الاتقاءُ
ضقتُ ذرعًا مما جنيت فيوميْ ... قمطريرٌ وليلتي درعاءُ
كنتُ في نومةِ الشبابِ فما اِستيْ ... قظتُ إلا ولِمّتي شمطاءُ
وإذ أذن فجرها بالصباح، وصاح مناديها بالفلاح، جعلتها خدمة لجناب من أناخت بِفِناه ركائب الأفاضل، ووضعتْ على عَليِّ أعتابه جباهها الأماثل.
حافظُ السُنَّة حفظًا لا ترى ... معه أن تُعْمِلَ الناسُ الأسِنَّه
مَركز الدائرِ من أهلِ النُّهى ... فإلى ما قد حوى تُثْنَى الأعِنَّه
كيف وهو المولى الذي ارتفع مقداره على فرق الفرقدين، وعلا مقامه على مقام النيّريْن، منهاج وصول الأحكام، معراج حصول المرام، مجموعة الكمالات النفسانية، خريدة السعادات الإنسانية، فاتحة إحياء علوم الدين، ومحكم خاتمة قلوب العارفين، شيخ الإسلام الذي إذا أفتى أفنى المهج وأحيا الأرواح، وإذا أفاد أجاد
وأظهر من الإحسان ما يروق في الغدو والرواح، وإذا فسَّر أحيا مآثر القاضي أو المفتي بحسن سيرته، وحلّ من المشكلات ما يعجز كلّ ماهر عن إبداء خفاياه وموضع نكته.
راضَ العلومَ فسلْه عن دقائِقها ... فعنده للخفايا أيُّ إدراكِ
تذلَّلي يا فروع الفقه مثمرةً ... لَهُ ليدنوَ منه حلوُ مجناكِ
1 / 6
في النَّظم والنثر ما زالت فصاحتُهُ ... تقابلُ الدرَّ أسلاكًا بأَسلاكِ
وفاتحُ البابِ في فنِّ البيان فلا ... يحتاجُ يومًا إلى مفتاحِ سكَّاكِ
هو سيدنا الذي لا زال مقدارهُ عليًّا، مولانا شيخ الإسلام يحيى بن زكريّا، مَتّع الله المسلمين بطول بقائه ودوام أيامه، وعطّر الأكوان من ذكره الشريف بمسك ختامه، ولا زالت ظلاله على الأيام ممدودة الرواق، وبدور سعادته وسيادته آمنة من الأفول والمحاق، ومناقبه الجميلة سائرة الأمثال في الآفاق.
ولا برحت تزداد عزًا ورفعةً ... بمنصبه العالي صدور المجالسِ
فقد قال الإسكندر في حق الحكيم الأول لمَّا دوَّن الحكمة وزين ديباجتها بألقابه: من ذَكَرَني فيما يبقى فقد أبقاني أبدًا.
ما تنسجُ الأيدي يبيد وإنَّما ... يبقى لنا ما تنسجُ الأقلامُ
وعسى أن يلحظها حظ فتشرف بمطالعته، ويصلني دهري الخؤون من بعد مقاطعته، وإذا كان علو مقامه يمنع من ذلك، وما بي من القصور يقول لست هنالك:
إن الملوك وإن جلَّت مناصبُها ... لها مع السُّوْقةِ الأسرارُ والسَّمَرُ
فقصة الأعرابي بإهداء قربة ماء إلى خليفة الزمان، وإهداء رجل جرادة إلى حضرة السيد سليمان، معلومة عند سمو شأنه، وعلو مكانه، ولقد قيل:
لو أنَّ كلَّ يسيرٍ رُدَّ محتقرًا ... لم يقبلِ اللهُ يومًا للورى عَملا
المرءُ يُهدي على مقدار طاقتِهِ ... والنَّملُ يُعذرُ في القدرِ الذي حملا
على أن الهدية ما كانت أقل، فهي أجمل للأجل، كما أن العطية ما كانت أجلّ، فهي أفضل للأقل، وإن كنت في ذلك كمن أهدى الزهر إلى رياضه، والقطر إلى
1 / 7
حياضه، ولنا القول وهو أدرى بفحواه، وأهدى فيه من القطاه، على أن الغرض من ذلك هو الالتجاء إلى ذلك الظل الظليل، من جَوْر الزمان الظلوم، وظلمة ليالي هذا الدهر الغشوم.
فاللَّيالي من الزمان حُبالى ... مُثقلاتٌ تلدن كلَّ عجيبةْ
قال الإمام زين العابدين نفع الله به هَلَكَ من ليس له كريم يعضده، وضَلَّ من ليس له حكيم يرشده.
تعدو الأعادي على من لا خفيرَ له ... وتتقي مربضَ المُستأسدِ الحامي
هذا والمرجو من فتوة من وقف على ذلك، ونظر رياض هذه المسالك، أن ينظر بعين الرضا إليها، ولا يتحامل لتفريط أو إفراط عليها، فإن السخط يقلب أعيان المحاسن بالقبايح، ويفتح أبواب السيئات والفضايح، وكان يقال: من رضي عن شيء تنعَّم به، ومن سخط على شيء تعذَّب به.
وعينُ الرضا عن كلّ عيب كليلةٌ ... كما أن عينَ السُّخط تُبدي المساويا
يروى أن القاضي عبد الرحيم البيساني، كتب إلى العماد الأصفهاني، يعتذر عن كلام استدركه عليه: وقد وقع لي شيء ولا أدري أوقع لك مثله أم لا؟ وذلك أني رأيت أن لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غدٍ لو كان غير هذا لكان أحسن،
1 / 8
ولو زيد هذا المكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أجمل، ولو ترك هذا لكان أفضل، وهذا من أعظم العبر، ودليل استيلاء النقص على جملة البشر.
ما خطَّ كفُّ امرئ شيئًا وراجعهُ ... إلا وعَنَّ له تبديلُ ما فيهِ
وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا ... وإن يكن هكذا تسمو قوافيهِ
والله تعالى المسؤول، أن يهبَّ نسيمها بالقبول، وأن يُسهِّل لنا القدرة على الإتمام، ويجعل من مسك القبول حسن الختام.
ما زال هذا البَيْنُ يسقي كأسَه ... من رقَّ من بين البريَّةِ طبعُهُ
والدَّهْرُ يقضي في الكِرَامِ بجوره ... حتَّى خلا من كلِّ حُرٍّ ربعُهُ
هذه الرحلةُ التي قَدْ تسامتْ ... وحوتْ نزهةَ الشِّتَا والصَّيْفِ
أوّلُ كأسٍ تجرعته من مرامر البين، فراق المنازل الحرمية الذي كاد يكون من سكرات الحين، بعد أن قضيت الحج ببيت الله الحرام، وتملّيت بالمآثر المحترمة الكرام، وذلك في سابع عشر محرم الحرام، افتتاح عام غلط من هجرة أشرف مرسل عدل وما قسط، صلوات الله عليه وعلى آله الميامين وعلى من قال آمين.
كان رحيلي عن طيبة عجبًا ... وحادثًا من حوادث الزمنْ
من قبل أن أعرض الفراق على ... قلبي وأن أستعد للمِحنْ
فبرزت من المدينة الشريفة، والآثار الوريفة، بروز من ضل رشده، واحترق حشاه بفراقٍ قد بلغ أشدَّه.
1 / 9
وفارقت حتى لا أراع من النوى ... وإن غاب جيران عليّ كِرامُ
وقد جعلتُ نفسي على اليأسِ تنطوي ... وعيني على هجرِ الصَديق تَنامُ
فواهًا لزمن الاجتماع ما كان أغضّه، وآهًا من انصداع الشمل فما أمضّه، فيا لتلك المنازل التي سمت أن تسامى، ويا لهاتيك المسامرة التي بها هواطل السرور تهامى.
فارقتها لا عن رضى، وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزقٍ في البلاد مشتتٍ ... ومن العجائبِ أن يكون مقتّرا
وأصون وجه مدائحي متعففًا ... وأكفُّ ذيل مطامعي متستّرا
لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحُه الكرى
فسرت مع بعض الإخوان، من ذوي المروءة والإحسان، صحبة الركب المصري، والعيون بالمدامع تذري، لبعاد تلك المنازل، وفراق هاتيك المناهل.
فمنّي إليها كلَ وقت تحية ... وساكنها في كلِ آنٍ له السنا
ثم لم نزل سائرين في المنازل الحرمية الشريفة، والمناهل السعيدة المنيفة، والمقادير تقودنا كيف جرى القلم، وأنا المنقاد إلى حيث المشقة والألم.
أمامي من الحرمان جيشُ عرمرمٍ ... ومنه ورائي جحفلٌ حين أركبُ
فلو تهتُ في البيداء والليل مسبلٌ ... عليّ جناحيه لما لاحَ كوكبُ
ومازلنا كذلك نجوب الفيافي والمسالك، إلى أن وصلنا ينبع النخل، وروينا من مياهه التي هي كمُجاج النحل، ولكن بعد أن تجرعنا المرامر، وكادت تنشق منا المرائر، مما قاسيناه في النقب من ضيق الطريق، وازدحم القطر الذي فرق بين الرفيق، إلى غير ذلك من الأوعار، ومصادمة الأحجار، في ليل مظلم، وهول مؤلم، ولسان الحال ينادي في تلك الشعوب والبوادي:
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغنى عن الحيل
ينبع النخل
(فائدة) يَنْبُع: بصيغة مضارع نبع الماء، إذا ظهر، من نواحي المدينة المنورة على
1 / 10
أربعة أيام منها، سميت بذلك لكثرة ينابيعها وعدتها مائة وسبعون عينًا، ولمّا نظر إلى جبالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لقد وضعت على نقب من الماء عظيم. وأقطعه النبي ﷺ العشيرة من الينبع، ثم اشترى قطعة أخرى، وكانت بها أمواله عيونًا تصدق بها. ومن محاسن الفيومي:
إن كان قد قضي الفراق وصدّني ... عنكم حجاز من نوى لا يرفعُ
فأنا الذي دمعي العقيق وناظري ... يا بدر بعد البعد عنكم ينبعُ
والنقب مضيق كثير الأوعار، يسلكه الركب المصري في أيامه، وهو على نصف مرحلة من خيف بني عمرو، وهذا الخيف يشتمل على عيون جارية، ونخيل باسقة، ومنازل عامرة بسكانها. (ولنرجع إلى ما كنا بصدده) فأقمنا بينبع المحروسة، ومرابعها البهية المأنوسة، ثلاثة أيام، نهارنا تحت ظل النخيل، وليلنا في مسامرة الصديق والخليل، وكان ذلك آخر عهدي بالمنازل التي بها كلّ قصدي.
وكان أول عهد العينِ منذ نأت ... بالدمعِ آخر عهدِ القلبِ بالجَلَد
ولما كان وقت العصر من اليوم الثالث، الذي هو آخر العهد بأيام الثالث، وأوله بالليالي العوابث، زعق نفير الحاج، وأخذ الركب في الحركة والهياج، فلحق العشاق من ألم النوى لمفارقة الحجاز، ما أجرى دمعهم رملًا على ذلك الصعيد الطيب، وأخرجهم من الحقيقة إلى المجاز، ثم في أقل من نظر محب إلى حبيبه، أو شكوى عليل إلى طبيبه، حَمّل الركب وسار، ولم يبق له أثر في الدار.
كأنَّما حجلٌ كانت بسفح ربى ... فرّت كأنَّهم بالسفحِ ما كانوا
فارتحلنا في تلك الساعة البهية، متوجهين إلى نحو الديار المصرية، فقاسينا في السفر ما لا يطاق، واحتملنا من نخع النعم ما لزورته حمل المشتاق:
1 / 11
ولما تناءت بالأحبةِ دارهم ... وصرنا جميعًا من عيانٍ إلى وهمِ
تمكّن مني الشوق غير مُسامحٍ ... كمعتزليٍّ قد تمكن من خصمِ
ثم تمادى بنا السفر من بعد العصر إلى أن أسفر الفجر، ورقَّ جلد ما معنا من الدواب، وتفرق شمل رفاقنا بين تلك الروابي والشعاب، ثم أنخنا الركاب، بقفر خلا من المياه والأعشاب، فقِلْنا به ذلك اليوم، وقُلنا نأخذ فيه راحة ما بالنوم، ومن أين يجد الخاطر به القرار، وهو المعروف بوادي النار.
ما طاب عيشي بروضٍ زاهرٍ خضرٍ ... حتى يبيتَ بقفرٍ لا نباتَ به
وادي نبط
ولما هبت الطوارف، نفر الركب متطايرًا كالوجل الخائف، فاقتحمنا تلك القفار، وانطوى بنا في السير الليل والنهار، حتى أسفر الفجر ولاح، وتشعشع بضيائه الصباح، فأنخنا بوادٍ يقال له نبط، خال من الأثل والخمط.
فائدة
في كتاب برهان الإعجاز في منازل الحجاز: نَبْط بفتح النون وسكون الموحدة مفازة عرضها الميل وطولها سو، وهي شرقي الجنوب، بها الآبار عذبة المياه، وفيها يقول أبو عبد الله الفيومي:
روِّ من نبط لهيبي ... واسقنا ثم توجه
1 / 12
ودع الحورا فإني ... صرت أشنأها وأكره
الحوراء
ثم لم نزل كذلك، نقطع هاتيك المسالك، غورًا ونجدًا، ومفازة ووِرْدًا، حتى أنخنا بالحوراء، وهي ساحل خليج القلزم، المعروف ببحر السويس، ومبدؤه من باب المندب إلى أن يتصل بالبحر الهندي، وطوله ألف وأربعمائة ميل كما في الخريدة، وفي الخطط ألف وخمسمائة ميل، وعرضه من أربعمائة إلى ما دونها، وهو بحر كريه المنظر والرائحة، وفيه مصب الدجلة والفرات، وعلى جوانبه السند واليمن، كأنَّها جزيرة أحاط بها الماء من جهاتها الثلاثة، وهو يروع نهر مهران كروع البحر الرومي نهر النيل، وسمي القلزم باسم مدينة كانت بساحله الغربي بشرقي مصر، ويعرف موضعها اليوم بالسويس.
والقُلْزُم بضم القاف وسكون اللام وضم الزايّ، وكانت فرضة مصر والشام، ومنها يحمل إلى الحجاز واليمن، وهذا البحر إنَّما هو خليج يخرج من المحيط، ويعرف ببحر الظلمات لتكاثف البخار الصاعد وضعف الشمس عن حله، ولم يوقف من خبره الأعلى ما عرف من بعض سواحله، وما قرب من جزائره طال الكلام، وخرج عن سلك النظام:
ولربما ساق المحدّث بعض ما ... ليس النديم إليه بالمحتاج
1 / 13
وبالجملة فإن الحديث شجون، والجنون فنون، والأمر كما قال، في تأليف القيل
والقال:
لو لم أقل هذا وهذا وذا ... بأي شيء كنت أملي الكتاب؟
والحوراء هذه تشتمل على أشجار ملتفة وبها شجر الأراك، وأطيار متنوعة، إلا أن ماءه في غاية الكدورة، مفرط في الإسهال، وقلت لما ذكرت بها فضيلة العين الزرقاء:
قد أتينا الحوراء في يوم حرٍ ... شمسه كالعقيقةِ الحمراء
وشربنا مياهه وحمدنا ... إذ عرفنا فضيلة الزرقاء
ويعجبني قول القائل:
مدينةُ خير الخلق تحلو لناظري ... فلا تعذلوني إن فُتنتُ بها عشقا
يقولون في زرق العيون شآمة ... وعندي أنَّ اليُمْن في عينها الزَرْقا
فائدة
العين الزرقاء منسوبة إلى الأزرق، مروان بن الحكم، لأنَّه أجراها وهو والٍ على المدينة المنورة، وأصلها من غربي مسجد قبا، تجري إلى المصلى، وعليها قبة، الماء منها في وجهين شرقي وشمالي، كذا قيل. ولعل الزرقاء صفة للعين لأن جميع مياه ذلك الوادي تُرى كالنيل الأزرق، ولأنّ ذلك الماء قبل مروان وآبائه، وكانت بالمدينة عيون متنوعة متعددة وقد صارت في خبر كان، إلا أن ذيولها وآثارها تشهد لها، قيل: وكان يُجذّ بالمدينة وأعراصها مائة وخمسون ألف وسق بعير من التمر، ويحصد مائة ألف وسق من الحنطة. ويروى أن بالمدينة من عيون النبع غير الجارية ستة عشر ألف ساقية.
(حكى) السمهودي في الخلاصة أنه لما قدم المدينة تتبع إحصاءها فكانت كذلك، وهذه الخلاصة من أحسن تواريخ المدينة الشريفة، وأنشدني في ذلك إجازة لنفسه الشيخ إبراهيم أبو الحرم:
1 / 14
من رام يستقصي معالمَ طيبة ... ويشاهدُ المعدومَ كالموجودِ
فعليه باستيفاء تاريخِ الوفا ... تأليف عالمِ طيبةَ السمهودي
يقول أبو عبد الله الفيومي المكي:
إني إذا نَزَحتْ ديارُ المصطفى ... وازداد شوقي نحوها وحنيني
طالعت في تاريخه السامي لكي ... أمشي على آثارهِ بعيوني
وبالجملة فإن في التاريخ مشاهدة ما، فهو كما قيل:
أملياني حديثَ من سكنَ الجز ... ع ولا تكتباه إلا بِدمعي
فاتني أن أرى الديارَ بطرفي ... فلعلي أرى الدّيارَ بِسمعي
وما أطيب قول النيسابوري:
يا عينُ إنْ بَعُدَ الحبيبُ ودارهُ ... ونأت مرابِعُهُ وشطَّ مزارهُ
فلقد ظفرتِ من الحبيبِ بطائل ... إن لم تريه فهذهِ آثارهُ
عودًا إلى ما كنا بصدده، وانعطافًا على ما يستعان بمدده، فأقمنا بها يومين لما قاسته الرحال والرجال، ولم تكن دار إقامة.
أكْرَه
ثم ارتحلنا قاصدين أكره، متأملين بعين الفكرة، ناظرين إلى الأنفس والآفاق، وما فيها من سرّ تدبير الخلاق، حتى وصلنا إليها، لا أعادنا الله عليها، وأكره بوزن جمرة، مسيل قفر، وماؤه مرٌّ زعاف لا تقبل عليه النفس إلا بالكره، وقد توجد بتلاعه ديم.
وفي البرهان: أكرا بألف مفردة من أعمال الحوراء، وبينهما منزل للركب يعرف بـ الحُرَيْرَة مصغر الحرة، وهي منتهى أحكام الحجاز الشريف.
ثم ارتحلنا سائرين في بوادٍ وقفار، ومفاوز وحِرار، إلى أن واجهنا الوجه
1 / 15
المبارك بعون الله تعالى وتبارك، ولاقينا فيه الأزالمة بالمبرات، واتصلت بنا أخبار مصر
بالمسرات، ويباع فيه العليق بأقل من سعره في مصر، والوجه هذا شِعْبٌ فيه قلعة لطيفة فيها بئر وخارجها بئران، وكلها مطوية وماؤها من السيول، وربما لا يوجد بها أيام المحل، وهي منتهى أحكام مصر، وسمي بذلك لأن به تكون مواجهة الركب وكانت أوّلًا بالأزلم.
أنشد الحافظ ابن حجر العسقلاني وقد مرّ به فوجده متسنيًا:
أتينا إلى الوجهِ المُرجّى نواله ... فشحّ ولم يسمح بطيب نداهُ
وأسفر عن وجهِ وما فيه من حيا ... فقلتُ دعوهُ ما أقلَّ حياهُ
ولما عاد إليه ممطورًا قد صفت مشاربه، واخضرت جوانبه، وطاب به المقيل فقال، وذلك مقال المستظل في الكلال:
أرانا الجميلَ الوجهِ مُعتذرًا لنا ... فأَوليتُه شكرًا وما زلتُ مُثنيا
وأَطرقتُ نحو الأرضِ رأسي خجلةً ... وما اسطعتُ رفعَ الرأسِ من كثرةِ الحيا
قلت: وإذا كان الحياء بمعنى ضد الوقاحة ممدودًا، كما قيل في الحديث الحياء من الإيمان والحيا بمعنى المطر مقصورًا، فما تمت التورية في النظم، اللهم إلا أن يقال ذلك على رأي من يرى قصر الممدود في الشعر، وهو أكثر من مد المقصور، فلا كلام. وفي المعنى لأبي عبد الله الفيومي:
ولما وجدنا الوجه عند ورودهِ ... خليًا من الماءِ القُراحِ فَناؤهُ
زممتُ مطيّي ثم قلت ترحّلوا ... فلا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ
وقال آخر:
أقولُ ووادي الوجهِ سالَ من الحيا ... وقد طابَ فيه للحجيجِ مقامُ
على ذلك الوجهِ المنيرِ تحيةٌ ... مباركةٌ من ربِّنا وسلامُ
1 / 16
وما أرجح قول القيراطي:
أتيتُ إلى الحجاز فقلتُ لمّا ... تَبدّى وجههُ لي وارتويتُ
وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ ... ولكن مثلَ وجهكَ ما رأيتُ
الأزلم
ثم ارتحلنا منه ونزحنا عنه، حتى أتينا على الأزلم وتحملنا المشقة والألم، وهو وادٍ فيه قلعة يودع فيها ودائع الحاج للرجعة، وخان خراب كان قد بناه الناصر، فهدمه الغوري، والأمر دائر بيّن هدم وبناء، لا الباني يكل ولا الهادم يمل، يا حيرتي ما أعجب ما قال:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وماء هذا الوادي مرّ يكاد يفطر الأكباد، وهو كثير السنا، ونصف الطريق من مكة المشرفة، ومنه إلى الينبع ربع ثالث، وبينه وبين الوجه فضاء بين جبل يقال له اصطبل عنتر، ووادٍ آخر يسمّى السماق والدخاخين وهو كثير الشوك والحطب. ومما قيل في الأزلم:
الأزلم المشهور قُبِّح ذكره ... لم تصف عيشة مَن بِواديه ألمّ
ما زال عن قلب مرارة مائه ... إلا وأهدى من قساوته ألم
المُوَيْلِح
ثم لم نزل نجوب البوادي، ونقطع الفدافد خلف الدليل والحادي، حتى أتينا على المُوَيْلِح، ولا أدري أهو مشتقٌ من الملاحة أم الملوحة، أم الحال كما قال: ذاتٌ لها في نفسها وجهان. وبالجملة فهو ساحل رَاقَ ماؤه وصفا، وطاب به العيش حتى كأنَّه ما ذاق طعم الجفا، قد اخضرّت جوانب بقاعِه، وتحقق لدى روضه ما نسخه الورد الذكيّ برقاعه، فأقمنا به ثلاثة أيام تحت البواسق، ونَشْرُ تلك الرياض العبيرية عابق، نهارنا على الماء والخضرة والوجه الحسن، وليلنا على ارتشاف كؤوس الآداب ونفي الوسن، حتى انقضت تلك الليالي كأنَّها سِنَةٌ، وقلنا في نفوسنا
هذه أول مسرات هذه السَّنة، فلله هاتيك الأيام، وما اشتملت عليه من الجمع التام، واتفق
1 / 17
في المُوَيْلِح من الرخاء ما لا تصفه الأقلام، ولا تحويه الأرقام، وفيه السمك الطري، والفواكه المتنوعة، والأراك الكثير، ومما قيل فيه:
سألوا مديح مناهلٍ فأجبتهم ... هذي المناهلُ مدحُها لا يصلحُ
وأقول إن ألزمتمُ بمديحها ... هذا المويلحُ في المناهلِ أملحُ
وبالجملة فإنه لم يكن في تلك المنازل، أحسن من هذا الساحل، مياهه بالنسبة إلى تلك المنازل مستعذبة، وبساتينه مزهرة طيبة، جوّه فسيح، وهواؤه صحيح، فلا زال كذلك، جنة في تلك المسالك.
(قال في البرهان): المويلح بالتصغير ساحل بالقلزم، يشتمل على أشجار متناسقة؛ ونخيل باسقة؛ ومياه سائغة في الجملة؛ وفيه قلعة حصينة ومنازل وعرب، عرضه كح وطوله عب.
عيون القصب
ولما كان آخر اليوم الثالث، وقد رق ثوب الأصيل، رحلنا منه قاصدين عيون القصب. وهي مقصبة ينتهي إليها ماء من عين جارية من مسافة طويلة، على نخيل باسقة، وأشجار متناسقة، قد يؤتى منها بأثمار فتباع على الركب، وقد انقطع ذلك لانقطاع عوائد العرب من صلات السلطنة، فلذلك ارتفعت العرب، وصار الوادي مخيفًا، وماؤه في غاية العذوبة، يجري من بين القصب الفارسي بين نبت مختلف طيب الطعم والرائحة، ومما قيل فيه:
قصب الوادي هبوا لي ماَءهُ ... ففؤادي فيه حرّ الوصبِ
أو قفوا بي برهةً يارِفقتي ... أتروّى من عيون القصبِ
وهذا الماء يجري من أعلى صخرة على ظهر الوادي بمقدار ميل، ثم يغور في الرمل. وزعم بعضهم أنه ثقيل، سريع التعفن، يُكْرَه الإكثار منه. قال الحافظ ابن
حجر في كتاب أنباء الغمر: في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة حفرت بعيون القصب بئر عظيمة، فعظم النفع بها، وكانت عيون القصب تجري من وادٍ عظيم ينبت فيه القصب الفارسي، ويجري الماء من بين تلك الغابات. وكان للحُجاج به رفق، بحيث يبيتون به ليلة، ثم
1 / 18
غمرت تلك العيون وصاروا يقنعون بالحفائر، فأشار ناظر الجيش لَمَّا حَجّ بحفر البئر فخرج ماؤها عذبًا فُراتًا، انتهى كلامه. قلت: وقد أجرى الله تعالى عوائد برّه وعاد الماء إلى مجاريه.
مغاير شعيب
ثم قمنا منه حتى أتينا على مغاير شعيب ﵇، وهي حفائر حلوة تحكي النيل فيما قيل، في وادٍ فيه نخل وأثلٍ ومقل، بين جبال متضايقة كثيرة المخاوف، وفيه بئر دارسة وأبنية متهدمة ورسوم يقال إنها مدين.
قال صاحب تقويم البلدان: مدين على شاطئ بحر القلزم، وهي خراب. وأما البئر التي استقى منها موسى ﵇ فقد بني على أفنيتها بيت من صخر، فيه كهف يسمى كهف شعيب ﵇، وكانت تأوي إليها غنمه، وحولها قبور منقورة في الصخر فيها عظام بالية كأمثال عظام الإبل. ولا أثر لذلك الآن غير تلك الساقية التي بيد بني عطيفة، وحفر الماء العذب. وفيها يقول ابن أبي حجلة:
ولما وردنا ماء مَدْيَنَ بُكرةً ... وجدتُ عليه الناسَ يسقون بالقِرَبِ
فأطرب حادي الراقصاتِ مسامعي ... كما أطربَ التشبيبُ من أعينِ القصبِ
ثم لم نزل نجوب الوهاد، ونقطع هاتيك البواد، حتى أشرفنا على شرفة بني عطيفة. وهي في وادٍ قفر كثير الحطب ممحل، لا يكاد يمرّ به الطير، إتفق أنه لم يكن في الركب إلا من إشتكى الظمأ، إلا من كان في حظيرة إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه. ومما قيل فيه:
وقد حللنا بواد لا أنيس به ... بنو عطيفة قد سموه بالشََرِفَه
فنالنا منه بعد العيّ أربعةٌ ... بردٌ وخوفٌ ظما والريحُ مختلفه
ذكرت بهذه المشقة قول ابن الحاجب:
من ذا الذي تصفو له أوقاته ... طرًا ويبلغ كلّ ما يختار
والمرء في سفر وأي مسافرٍ ... لا يعتريه من الطريق غبار
ثم لم نزل في أسر المسير ومشتاق الأسفار، حتى مررنا بظهر الحمار، وهو محجر صعب، وحفائر الغنم وفيها المياه الكّدرة، والنخل الكثير، والدار الحمرا، وما أدراك ما الحمرا!!
ولقد أرى بين المسمّى واسمه ... نسبًا قد استغنى عن التبيينِ
1 / 19
الحويطات
إلى أن نزلنا تحت العقبة، في شِعْبٍ فيه نخل كثير للعرب - الحويطات - من بني عقبة، نسبوا إلى الحائط وقلعة محصنة على ساحل فصل من خليج القلزم، ويحفر في ذلك الساحل على نحو ذراع فأكثر فيظهر ماء حلو، بل من موضع المدّ إذا كان الجزر، فسبحان الذي أحسن كلّ شيء خلقه. والظاهر أنّ هذا الموضع مصب نهر غائر في الرمل، داخل في البحر، بدليل أنه يحلو ويمر، كما يرى في النيل المتصل بالبحر أيام الملتن.
فائدة
عقبة أيْلَة نسبة إلى مدينة عظيمة في ساحل البحر عفت معالمها وكانت تسمى أيْلَة قال صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار: أيْلَة أول حدّ الحجاز، مدينة بها مجمع حاج مصر والمغرب، وأهلها أخلاط الناس، سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم ﵇، ومنها إلى بيت المقدس مراحل، وإلى طور موسى ﵇ يوم وليلة، وقد جهل الآن موضعها. وثم قلعة بناها الغوري وبئر ماء عذب
ونخيل للحويطات، وهناك ملاقاة غزة والكرك والقدس وأعمالها، بأنواع الفواكه والمأكول والأغنام. فأقمنا بذلك الوادي يومين من الأيام، والشمل بالأحباب ملتام، ونحن في جمع من الأصحاب، نرشف كؤوس الآداب، أنشدني المولى جمال الدين بن زويته:
1 / 20
إنّ علمَ الحساب علمٌ جزيلٌ ... ومُعينٌ إذ تشتري وتبيعُ
لم يضع قط درهم بحسابٍ ... وألوفٌ بلا حسابٍ تضيعُ
وعلى ذكر الحساب فما أوقع ما قال:
لقد قعد الزمان بكل حرٍّ ... وأهدى فضله لذوي اليسارِ
كآحاد الحساب على يمينٍ ... وآلاف الحساب على اليسارِ
وهذا مبني على القلم الهندي، وخرج عن ذلك حساب أبي جاد، فإن الآحاد على اليسار والألوف على اليمين، وعليه قول الفاضل عبد المعين، حيث كتب إلى بعض أصحابه يذكره بوعد وعَدَهُ به ومَطَلَه، وذلك في قوله:
يا سيدًا بالوعد أتحف عبده ... فضلًا، ولكن وعده مثل السحابِ
قد كنت أحسب صدقه فإذا به ... وعدٌ به انخرمتْ قوانينُ الحسابِ
يريد أن لفظة وعد بطريق حساب أهل الفلك عود، لأن العين بسبعين والواو بستة، والأكثر يقدّم على الأقل كما علمت، وانظر إلى المواطن وأحكامها فإنك لا تجد غير مقتضاها، ذكرت بالمطل والشيء بالشيء يذكر بالاستطراد وبالمناسبة قول الأمير أبي فراس:
يا ابن الكرامِ أعد في الدهر ذكرَ فتىً ... له بشطريه تحويلٌ وتقليبُ
لا تعتبنَّ على عرقوب واحدة ... فكل من فوقها بالوعد عرقوبُ
ونعود إلى ما كنا بصدده، ولما كان السحر حمل الركب ليقطع العقبة مبكرًا، وهي عقبة أيْلَة، بفتح الهمزة وسكون المثناة من تحت وفتح اللام بعدها.
قال في الخريدة: وهي قرية صغيرة على جبل عالٍ صعب المرتقى يكون ارتفاعه والانحدار منه في يوم كامل، ولا يسلك طريقها إلا الواحد بعد الواحد، وعلى جانبيها أودية بعيدة المهوى انتهى. وهي مدن التيه، وهو أرض واسعة ليس بها تل ولا قلعة ولا وهدة ولا رابية، وسعتها خمسة أيام في مثلها، وحكى العبدري أنّ مسافة العقبة خمسة أميال، ولا زالت الملوك قديمًا وحديثًا، يمهدونها وتوعرها السيول، ويسهلها التسخير الإلهي. فلم نزل نسير في رمال وأحجار إلى أن أشرق النهار، ثم ارتقينا صراطًا كأنّا نطلب
1 / 21
منه السحاب، ولم نزل من العناء والمشقة في وصب واكتئاب، القائم منا قاعد، والقاعد عن قطاره متباعد، والذي جماله ألقت رحلها، ومدّت رجلها، وقع في حيرة بين أن يترك متاعه أو يستغيث رباعه:
وأين الرفيق الشفيق الذي ... إذا أقعدتْك الرزايا أقاما
والذي تحرر وتقرر، قضت به العقبة، وحكمت به التجربة، إنه ليس لك من الصديق إلا ما فضل عنه. وقد حكي عن جعفر البرمكي أنه لما أصيب قيل له: لو بعثت إلى صديقك فلان ينظر في حال أهلك. فقال: دعوه يكن صديقًا. ومن أراد تحقيق هذا الموقف فليمعن النظر في كتاب الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي، ولله در القائل:
إذا أعرضتْ فالأهلُ مني أجانب ... وإن أقبلتْ فالأجنبيُّ نسيبُ
وما زال الركب في كرب، حتى قطع العقبة، في يوم ذي مسغبة، ثم أقمنا على سطحها قصدًا للراحة، واستطاب كلٌّ مراحه، وقمنا ندك الفيافي من غور إلى نجد، ومن سهل إلى وهد، مع ما لحقنا من البرد الشديد، والجهد الجهيد، حتى وصلنا إلى قلعة نَخِر بفتح النون وكسر الخاء المعجمة بعدها راء، كأنَّه مأخوذ من قولهم ما بالدار ناخر أي أحد، أو من العظام النخرة إذا دخل فيها الرياح لكثرة تهابها، ووادي النخل ولا نخل فيه، لأنَّه لا يخلو من السافي الناعم الذي كأنَّه
منخول، وبه بئر وفسقية تملأ منها، وحصار بناه الغوري زادت فيه العثامنة.
1 / 22