مدخل
الحمد لله الّذي لا برّ إلاّ برّه ولا جود إلاّ من جوده، الموجود الأوّل الّذي لا أوّل لوجوده والمشهود الآخر الّذي لا آخر لشهوده، والصلاة والسلام على أفضل رسله الكرام سيّدنا ومولانا محمّد المرسل رحمة لجميع الأنام وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ومصابيح الظلام، (وبعد) فهذه رحلتي الشامية أقدّمها لقراء العربية تحفة مرضية مستعينًا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 21
قضيت نحو ثلاثين صيفًا في جو البلاد الأوربية حيث تربّيت في مدارسها صغيرًا، ثمّ تجوّلت في سياحتها كبيرًا، فطوّفت حول حواضرها وقراها كثيرًا حتّى إنّي بمعونة الله لم أدع شيئًا من آثارها التاريخية، ومعاهدها العلمية، ومعاملها الصناعية إلى غير ذلك ممّا يهمّ السائح أن يتعرّفه في تلك البلاد إلا زرته وأخذت منه بالقدر الأوفى والنصيب الأوفر، ثمّ ما من مرّة كنت أزور فيها هذه البلاد إلا وكنت أجتمع بملوكها وأمرائها وأعيانها ووجهائها، وإلا كنت أردّد النظر حول رياضها المنتسقة ومناظرها البديعة، ولقد ساعدني حسن الحظّ أخيرًا على زيارة بلاد اليابان والصين، وهناك وضعت رحلتي اليابانية الّتي فصّلت فيها سياحتي لقراء العربية تفصيلًا، وقد كنت إبّان هذه الرحلات العديدة والأسفار المفيدة أذكر بعض البلاد الإسلامية الّتي لا تزال حتّى اليوم مستقلّة في أيدي المسلمين وتحت سيطرتهم، فكنت أحنّ إليها حنين الشارف على ولدها، وأودّ من صميم قلبي لو أن يجعل الله لي نصيبًا من زيارتها، بل كثيرًا ما هممت بمشارفتها ونهضت لذلك نهوضًا لولا أن صعوبة المواصلات، وما لعلّه يكون من بعد الشقّة وعدم توفر وسائل الراحة ووسائط
1 / 23
الرفاغة، كانت يومئذ عقبة كؤودًا في طريقي، ولولاها ما كان أحوج مسلمًا يحبّ المسلمين ويصبو إلى بلادهم أَن يشدّ رحاله إلى بغداد مدينة السلام، ودمشق عاصمة الشام، كيلا يحرم من مشاهدة مدينتين فخيمتين كانتا أكبر عواصم الإسلام وأعظمها حضارة، وناهيك بهما في عهدي الدولة الأموية والعباسية، وعلى الخصوص في عهد المأمون عهد الحضارة الشرقية والنور، يوم كانت بغداد هذه محطّ رحال العرب ومنبعث أشعّة الحكمة والأدب. على أني ما لبثت قليلًا حتّى قيّض الله لي نفرًا من أصدقائي الكرام وعلية القوم في بلاد الشام فطلبوا إليّ أن أزور بلادهم، وقد كنت لا أزال أخشى من حصول ما عساه يعترض المسافر ممّا ربّما مسّ بالصحّة أو أساء إلى الكرامة، فكاشفت هؤلاء الصحب بما كان يجيش به صدري من ذلك وغيره لعلّي كنت أبلغ من لدنهم عذرا
أو أستطيع إلى السفر سبيلا، فما زالوا يجهدون أنفسهم في إقناعي بضدّ ما كنت أظن حتّى لقد حبّبوا إليّ الرحلة وأوقعوها من نفسي بحيث صارت عزيمتي إليها أشدّ منها إلى سواها خصوصًا بعد ما أنّهم تكفّلوا براحتي فيما كنت أتوقّع التعب من ناحيته أكثر من المعتاد في أسفاري، وما كان ليخامرني ريب في صدقهم، إذ كنت أقرأ على صفحات وجوههم البيضاء آية الإخلاص والوفاء، وحينئذٍ طويت العزم على اِرتياد بلاد سورية وفلسطين والعراق فرحًا مسرورًا بتحقيق رجائي القديم من زيارة بلادٍ طالما تاقت نفسي أن تراها وتشاهد فيها أهلها على الأزياء الفطريّة والعوائد الشرقيّة الّتي لا تزال إلى اليّوم حافظة ما كانت عليه منذ العصور المتقدّمة بفضل ما يعرف في أهلها من الغيرة عليها وحرصهم على أن لا تختلط بتقاليد الغربيّين وعوائدهم. وقد كنت كلّما سمعت النّاس يمتدحون طقس هذه البلاد وما وهبها الله من جمال المنظر ونضارة البقعة وبهاء الطبيعة، فضلًا عن اِتّساع مساحتها وخصوبة تربتها وعذوبة مياهها وغضارة رياضها يزداد شوقي نحوها ويتأكّد
1 / 24
عزمي على اِرتيادها. وكان يجيء في غضون حديث القوم عن وصف تلك البلاد ذكر الخيل المحكّمة الخلقة الكريمة الأصل وأنّها في تلك الجهات تمتاز كثيرًا عن غيرها بسرعة العدو واِعتدال الصورة وكبر القامة، فكان ذلك يزيد في تنشيطي ويقوّي من عزيمتي سيما وأنّي مولعٌ بالخيل ولي غرام عظيم باقتنائها. كما أنّي أميل كلّ الميل إلى الشجاعة والشجعان وأحبّ ملء قلبي الفروسيّة والفرسان. وكان فيما سمعته من غير واحد أنّ بعض الطوائف في تلك البقاع يحسنون اِختيار الخيل ويجيدون ركوبها على أتمّ ضروب الفروسيّة وأكمل خواصّها، وأنّ أخصّهم في هذا المعنى وأشهرهم به فوارس الدنادشة وأبطال العكاكرة.
الدنادشة والعكاكرة
هما قبيلتان يقال إنّ الأولى منهما أصل جدّها من اليمن ونزل حوران منذ ثلاثة قرون، ثمّ هاجروا من حوران وسكنوا برج الدنادشة فوق تل كلخ مقرّهم الحالي. وكان زعيمهم إذ ذاك يسمى الشيخ إسماعيل، ولقّبه التركمان جيرانه باسم دندشلي، لأنّه كان يزين خيله بعذبات مرسلة تسمّى دنادش. ثمّ رحل شقيقه مع بعض قبيلته إلى حوران وهم الفُحيليون إلى الآن، وزعيمهم مقيم في تل كلخ، ثمّ هم مسلمون سنيّون ولهم ولعٌ غريبٌ بالفروسيّة، ولهم أيضًا عقارات واسعة في سهل البقيعة. وهناك طائفة من المتاولة تسمّى الدنادشة أو بني دندش ويقيمون في عكّار وما يجاور الهرمل وحمص. ولعلّ العكاكرة قبيلة من هؤلاء تنسب إلى عكّار البلد المذكور هذا. وكم كنت أشعر باِرتياح نفسي واِنشراح صدري حينما كنت أذكر مروري بين آثار المتقدّمين، وما عساه أن يكون قد غفلت عنه عين الدهر وأخطأته يد الدّمار من مخلّفات الحروب الّتي تعاقبت على تلك البلاد زمنًا طويلًا، خصوصًا من يوم أن فتحها المسلمون إلى أن صارت في أيدي العثمانيّين. نعم، ولعلّي أستطيف حول مواقع الحروب الصليبيّة لأنظر تلك القلاع المتينة، والحصون المكينة الّتي لا تزال تنم على فضل مؤسّسيها نمّ الزجاجة على ما فيها. وهناك تتجلّى مدينة الشرق أوّل أمرها في ما لا يزال يناطح الدّهر إلى اليوم بل حتّى آخر الزمان من آثار العمالقة الأولى
1 / 25
ومخلّفات الرومان. وما بقي يحكي قوّة الأشوريّين، ويذكّر بسلطان الفينيقيّين، وعظمة البيزانطيّين، وتبدو حضارة الإسلام فيما جدّده بعد ذلك غزاته الفاتحون وملوكه السالفون، وهو ما به يسطع نور الحجّة على عظم صولتهم وكبر دولتهم وهمّتهم وسعة علمهم وغزارة حكمتهم.
تلكَ آثارنا تَدلُّ عَلينا ... فانظروا بَعدَنا إلى الآثارِ
وعندئذ ما كان أدعانا أن نحمد الله إلى هؤلاء القوم ونشكر لهم سعيهم الجميل بل نحمد الله الّذي هدانا لهذا ووفّقنا له وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ونعود بجميل الثناء وجزيل الشكر لسموّ الجناب العالي الخديوي الّذي ما كدت أعرض على سموّه الأمر، وألتمس إذنه الكريم بالسّفر حتّى تفضّل - حفظه الله - فزاد على إذنه بذلك أن أتحفني بمرافقة حضرة الفاضل أحمد بك العريس، لمناسبة أن حضرته من أهل الشام، وله مكانة كبيرة من صدور الشاميّين، فضلًا عن كونه من أصحاب البيوت العتيقة في المجد والشرف وعلى علم تام من أخلاق القوم وعوائدها. وكذلك تفضّل الجناب العالي - حفظه الله - فأرسل معنا حضرة محمود خيري أفندي، أحد ضباط الحرس الخديوي، ياورا خاصًا لنا مدّة هذه السياحة. ثمّ إنّي قبل السفر ببضعة أيّام كنت طلبت إلى شركة كوك أن تبعث إلينا رسولًا من قبلها لنستعلمه عن كيفية السفر، وبالأخص عن كيفية السير إلى بغداد من طريق حلب، فأخبرنا بأن الطريق من حلب إلى بغداد من الطرق التي لم تمسّها يد الحضارة إلى الآن، وأنه بلغ من الطول بحيث أن المسافر فيه يظلّ خمسة عشر يومًا راكبًا على متون الدواب، لأنّه لا مركب ثمت إلا الخيل أو عربات البريد. وهذا مركب صعب شاق، خصوصًا إذا كان المسافر ممّن لم يتعوّدوا السفر غير في طريق السكّة الحديديّة. وعند ذلك لم يسعني غير أن عدلت خطتي الأولى وتركت زيارة عاصمة العراق إلى أن يذلّل الله المصاعب ويسهّل للمسافر الطريق.
1 / 26
السفر من بور سعيد
من حسن الاتّفاق أنّ سفرنا من ميناء بور سعيد كان يوم الجمعة ٢١ ربيع الأوّل سنة ١٣٢٨ فكان يومًا ميمون الطلعة حسن الفأل. وكان أوّل طوالع البر والخير لهذه الرحلة السعيدة. فبعد أن أدّينا فريضة الجمعة في الجامع العبّاسي، وتناولنا طعام الغداء لدى سعادة محافظ المدينة، توجّهنا على بركة الله إلى الباخرة الفرنسية، وهي إحدى بواخر شركة (مساجري). وكان يودّعنا جمّ غفير من رجال الحكومة وأعيان البلد ومظاهرها يتقدّمهم مع حضرات العلماء سعادة المحافظ. وحينما وصلنا إلى الباخرة ألفينا رئيس الشركة في انتظارنا من أجل أن يهدينا إلى المخدع الّذي أعدّ لنا هناك. ثمّ ما كدنا نسكن إلى مجالسنا من المكان حتّى استدعى الرئيس قبطان السفينة، وأخذ يلقي عليه من الأوامر والتعليمات اللازمة لراحتنا في هذا السفر ما شاء الله أن يلقي، وكان القبطان يلبّي رئيسه إلى ذلك طائعًا مسرورًا. ولم يمض علينا من وقت وصولنا إلى المركب إلا نصف الساعة تقريبًا حتّى بارحنا الميناء مودّعين من جناب المحافظ ومن كان معه بغاية الحفاوة والإكرام.
بيروت
وما زلنا مسافرين والباخرة تنفذ في أكباد البحر وتمزّق أحشاء الماء، حتّى ألقت مراسيها في وسط ميناء بيروت حيث دخلناها في صباح يوم السبت ٢٢ ربيع الأول. وهناك وقع نظرنا لأول مرّة على الجهات الشاميّة الجميلة. وحينئذٍ لا تسل عمّا كان يتجدّد في صدورنا من الانشراح والسرور بمشاهدة تلك البقاع الّتي لها في تاريخ الإسلام ذلك المكان المعروف، خصوصًا عندما رأينا جبل لبنان مشرفًا على بيروت وضواحيها إشراف الملك على رعيّته والقائد على جنده، وكأنّه لم يكتف بأن يشرف على الدأماء حتّى أراد أن يعانق الجوزاء. وممّا نشكر الله له ونحمده عليه أنّنا ما لقينا من سفرنا هذا نصبًا لأنّ الجوّ كان في غاية الاعتدال، وكان البحر بالمصادفة ساكنًا هادئًا يهدي إلينا في طيّات
1 / 27
أبراد النسيم تحيّة نديّة وسلامًا مزاجه من تسنيم. ولقد لمحنا أثناء وقوفنا مركبًا حربيّة صغيرة من مدرعات الحكومة العثمانيّة كانت راسية في مياه الميناء إلى ناحية من الشاطئ. وكان يلوح لنا من شكلها أنّها من ضمن المراكب التابعة لمصلحة خفر السواحل. ولمّا كان من العوائد المتّبعة قديمًا في هذه البلاد أنّ الوافدين على بيروت من أمراء الحكومة العثمانية وغيرها يستأجرون زوارقهم من هذه السفينة، ويدفعون في أجرة الزورق الواحد ما لا يقلّ عن عشرة جنيهات، وإنّما كان هذا ليمتاز الأمراء عن غيرهم من عامّة النّاس ولكي تظهر أبّهتهم وعظمتهم، حيث يوجد في هذه الفلك من النظام والجند ما ليس يوجد في غيرها ممّا يشبه الرسميات، وقد كنّا نسمع بهذه العادة من قبل وأن أحد أمراء مصر كان قد استأجر زورقًا من هذه السفينة حينما زار بعض جهات الشام، رأينا أن نتبع سبيله في ذلك ونجري تلك العادة إذ لا مانع منها وهي علينا سهلة يسيرة. وبينما نحن في الباخرة ننتظر مجيء الزورق، إذ رأينا ما يقارب الخمسة زوارق آتية تتعاقب في البحر بنظامها قاصدة إلى موقفنا من الميناء. وما أوشكت أن تدنو منّا حتّى رأينا فيها جملة أناس
من الموظّفين بين ملكيّين وعسكريّين، فما ارتبنا وقتئذٍ في أنّ هؤلاء قد أوفدتهم الحكومة المحليّة لاستقبالنا في مرسانا. وقد كان أدرك هذه الغاية من مجيء هذا الوفد حضرة عزيزنا أحمد بك العريس، فأسرع إلى مقابلتهم، ثمّ جاء بهم إلينا، وأخذ يقدّمهم واحدًا واحدًا. وكان أوّل من عرفته منهم جناب كاتب أوّل أسرار الولاية، وقومندان الجندرمه، ومندوب الحكومة العثمانية لدى شركة السكك الحديدية، ثمّ ناموس متصرّف جبل لبنان، ثمّ بعض أعيان مدينة بيروت وآخرين من أعضاء المجلس البلدي فيها.
وبعد أن استقرّ بهم المجلس، وقدّمت لهم لفائف التبغ، وتبودلت بيننا وبينهم عبارات التحيّة والسلام، أخبرنا جناب كاتب أسرار الولاية بأنّ دولة ناظم باشا الوالي وأركان الولاية وأعيانها جاؤوا لانتظارنا على المرفأ. وعندئذٍ لم يسعنا سوى أن نسرع
1 / 28
في الذهاب إليهم حتّى لا نشقّ عليهم بطول الانتظار، فنزلنا في الزوارق بعدما شكرنا للقبطان تيقّظه في خدمتنا واهتمامه المزيد براحتنا مدّة سفرنا في البحر، غير أنّا كنّا تركنا متاعنا في عهدة أتباعنا الّذين كانوا لا يزالون في الباخرة ومعهم أحد ضباط الجندرمة الّذي كان قد خصّص بمساعدتهم في ما عسى أن تستدعيه حاجتهم ويقتضيه ترحالهم. وكانت المسافة من حين نزولنا من الباخرة إلى حين وصولنا إلى الرصيف لا تزيد عن عشر دقائق، مررنا في أثنائها على السفينة الحربية الّتي أسلفنا أنّها للحكومة العثمانية، وقد أدّيت لنا من أهلها مراسم التجلّة وإشارات التعظيم. وعندما حاذينا المرفأ تقدّم إلينا في أوّل المتقدمين صاحب الدولة ناظم باشا الوالي فبادرنا بتحيّة القدوم وحيّيناه كذلك وشكرنا له معروفه وحسن عنايته. وبعد ذلك شرع يعرّفنا بمن كانوا في انتظارنا مع دولته من علية القوم ويقدّمهم لنا واحدًا بعد آخر، ونحن نستقبل الكلّ بما يليق بمكانتهم من الاحترام. فكان من بينهم جناب قومندان الموقع العسكري، وبعض العلماء
يتقدّمهم حضرة قاضي المدينة ورئيس المجلس البلدي وبعض الرؤساء الروحيّين، ثمّ كان مصطفًّا على الرّصيف فرقة من الجند النظامي ومعها موسيقاها. وبعد أن تصافحنا وشكرنا لحضرات المحتفلين لطفهم وحفاوتهم، ركبنا مركبة دولة الوالي الخاصّة الّتي قدّمها إلينا دولته وكان هو صاحبنا فيها. وكان أمامنا إذ ذاك جنديان من السواري ووراءنا أربعة منهم أيضًا، وخلف أولئك كانت مركبة عزيزنا أحمد بك العريس ومعه الياور محمود خيري أفندي ومركبات أخرى لبعض المستقبلين. وما زلنا نسير على هذه الهيئة الرسمية حتّى وصلنا إلى فندق (أوربا). وكان الطريق من الرصيف إلى ذلك الفندق غاصًّا بالأهالي من طبقات عديدة. وقد كان سرّنا جدًّا من هؤلاء المحتشدين ما كنّا نلاحظه أثناء السير من حفاوتهم بمقدمنا وسرورهم الحقيقي القلبي الّذي ما كنّا لنرتاب فيه، وإنّا لنرى البشر كان يتألّق سناه على وجوههم جميعًا، فكنت أحيّيهم كثيرًا نظير ما كنت أجده بين حين وآخر من ترحيبهم وحسن وفادتهم.
1 / 29
في الفندق
دخلنا الفندق، وكان ينتظرنا عند مدخله صاحبه ومديره ومندوب من قبل شركة كوك، وهؤلاء أرشدونا أوّلًا إلى الحجرات الّتي خصّصت لأجلنا هناك، حيث كنّا أرسلنا قبل قيامنا من مصر إشارة برقيّة إلى صاحب هذا الفندق بإعداد الغرف اللازمة لنا فيه. وبعد ذلك دخلنا البهو ومعنا دولة الوالي الّذي كان لا يزال مرافقًا لنا، فجلسنا نتبادل من الحديث ما كان لا يتجاوز الترحيب منه بنا والشكر منّا له. وما لبثنا إلا ريثما تناولنا القهوة مع دولته حتّى وفد إلينا ثانية جميع الّذين كانوا قد خرجوا لمقابلتنا في الباخرة وعلى رصيف الميناء، فاستقبلناهم بغاية الحفاوة شاكرين لهم تكرر الزيارة، معترفين لأصغرهم قبل أكبرهم بذلك الجميل العظيم والمعروف الكبير. ثمّ مكثنا طويلًا نتحدّث، وقد تناول حديثنا أطرافًا عامّة كان
منها أن سألونا عن المدّة الّتي قدّرناها لزيارة مدينتهم. وما كدت أن أخبرهم بأنّي سأبارحهم ثاني يوم قاصدًا إلى مدينة دمشق حتّى نهضوا جميعًا مستغربين ذلك الخبر، وأخذوا يلتمسون منّا بإلحاح شديد أن نطيل إقامتنا بينهم، وأنّ أقلّ ما يرجونه من المكث في ضيافتهم هو أربعة أيام. وإذ وجدت أنّ هذه المدّة كبيرة لا تتّفق هي وما كنت رسمته في خطّتي من قبل، أسفت كثيرًا لأنّي لم أستطع إجابتهم على وفق عرضهم، حيث كان الوقت ضيّقًا وكان السفر أمامنا طويلًا. على أنّي وعدتهم بالإقامة في بلدهم يومين عند العودة، إن شاء الله، إجابة لملتمسهم. ثمّ اِستأذننا دولة الوالي في الانصراف، فرافقناه إلى أن ركب العربة شاكرين له ما أبداه لنا من العناية والاهتمام. وقد اِنصرف على أثره حضرات الزائرين أيضًاَ مودّعين منّا بمزيد الشكر والثناء. كلّ هذا والخدم لم يزالوا متأخّرين، وما ندري وقتئذٍ إذا كانوا في الطريق أم ما برحوا موجودين في الباخرة. وكان يهمّنا حضورهم سريعًا بالمتاع وفيما نحن ننتظرهم بفروغ الصبر إذ رأيناهم يصعدون على سلّم الفندق وبينهم عبد أسود كان
1 / 30
يحمل وحده صندوقنا الكبير فعجبنا من قوّة ذلك العبد لأن الصندوق كان قد وصل من الثقل إلى حيث لم يتصوّر أن يحمله واحد فقط ولذلك أعجبنا بهذا الأسود القوي إعجابًا عظيمًا، وحينئذٍ مالت نفسنا أن نخاطبه ببعض كليمات ترتاح إليها نفسه ويأنس بها طبعه، على عادتنا مع كلّ شجاع نشيط حيث إنّ لنا ميلًا خاصًا إلى الشجعان الأقوياء، فخاطبناه بما دلّ على ميلنا نحوه على أنّنا كافأناه وأجزناه فوق أجره بما شرح صدره وسرّ خاطره.
ردّ الزيارة
وقد كنّا طوينا العزم على ردّ بعض الزيارات في هذا اليوم لمن كانوا قد خفّوا لاستقبالنا وزيارتنا مرّة بعد أخرى، ورأينا أن نبادر بذلك حتّى لا يفوتنا أداء ما استحقه علينا أولئك القوم تلقاء ما لاقيناه من حفاوتهم وكرمهم وحتّى نتفرّغ
لمشاهدة ما يهمّنا أن نطّلع عليه في تلك المدينة إذ ليست مدّة إقامتنا فيها إلا ساعات. لذلك أوعزنا إلى الفندق أن يشعر بعزمنا هذا دولة الوالي الّذي اِستحسنّا أن نردّ زيارته في دار الحكومة ودولة متصرّف جبل لبنان الّذي كان في هذا الحين مقيمًا في مدينة بيروت وجناب قومندان العسكر الشاهانية وقد رأينا أيضًا أن نزور هذا الأخير في مقرّ سلطته، وإنّما أشعرناهم بذلك لكي يستعدّوا لمقابلتنا في المواضع الّتي تخيّرنا زيارتهم فيها، ثمّ إني طلبت إلى بعض خدمي إحضار الملابس المعتادة في الزيارات الرسمية فلبستها وكنت قد اِستوفيت اِستعدادي كلّه لهذا الغرض في مسافة لا تزيد عن ربع الساعة.
نزلنا من الفندق وكنّا نحسب أنّنا سنذهب على تلك المركبات العامة الّتي يستأجرها النزل لمعامليه في ضمن ما يلزمهم، ولكنّا وجدنا جملة عربات خاصّة قد أرسل بها إلينا بعض أعيان المدينة الكرام فركبت إحداها، وكان معي حضرة الفاضل أحمد بك العريس. وركب عربة ثانية البكباشي خيري أفندي وذلك الضابط الّذي أسلفنا أنّه مندوب الحكومة لخدمتنا. وكانت لنا الكفاية من هاتين العربتين. ولعلّ السبب في إرسال تلك العربات أنّهم لم يجدوا من مركبات الإيجار ما كان يوافق
1 / 31
ركابنا في حفلة حافلة، تشخص إليها أبصار المحتشدين على طول الطريق وعرضه. أمّا الموكب فكان رسميًّا منتظما، ً حيث كان يسير خلفنا وأمامنا بعض الجند السواري على الهيئة الّتي وصفناها حال حضورنا من الميناء حتّى الفندق. وكان طريق مرورنا من وسط شوارع المدينة الّتي كانت غاصّة من الجانبين بالأهالي على اِختلاف أعمارهم وتفاوت أقدارهم. وكان سروري يتجدّد كلّما كنت أرى أولئك النّاس متشبثين بالعوائد الشرقيّة ومتمسّكين بالملابس القديمة والأزياء الفطريّة. ثمّ كنت أشاهد كثيرًا من العامّة يتّخذون مجالسهم من المحال العمومية كالقهاوي والحوانيت التجاريّة ويتعاطون من المكيّفات المباحة ما جرت به عوائد
معظم الناس في جميع الجهات تقريبًا. فمنهم من كان يدخن بالأنابيب الّتي تصنع عادة من أغصان الياسمين وتتحلّى مباسمها غالبًا بالكارم الأصفر الجميل، وهي عين ما كان يستعمله المصريّون للتدخين من عهد غير بعيد، ويسمّى في متعارف أصحاب الكيوف بالشبك. ومنهم من كان يدخّن بالنارجيل على نحو ما يشاهد في القهاوي في مصر غير أنّ اِستعمال هذا النوع في بلاد الشام أكثر منه في البلاد المصريّة. وبعضهم كان يتعاطى القهوة وآخر يشرب الشاي إلى غير ذلك ممّا يشبه أن يكون نسخة طبق الأصل من عوائد المصريين في بلادهم. ولهذه المناسبة نذكر هنا كلمة عن الأخلاق ممّا تعرّفناه في تلك الرحلة، لعلّ القارئ يدرك منها نسبة ما بين العناصر الشرقية بعضها إلى بعض على ما بينها من تباعد المواطن وشتات الأماكن وتباين الأسباب والعلل واِختلاف الملل والنّحل، ثمّ نعود فنذهب في طريقنا إن شاء الله.
استطراد في الطريق إلى بحث أخلاقي
إن ما صادفناه من عوائد أولئك الشاميّين في محافلهم ومجالسهم ليس في الغالب ممّا يختص بالشاميّين دون سواهم، بل هو يكاد يكون عامًّا يشاهده الإنسان في جهات كثيرة ويعرفه في عوائد أكثر الآدميّين الشهيرة. غير أنّ الناقد الّذي يتبيّن فاضل الأشياء من مفضولها، ويميّز أجناسها من فصولها ويرجع بفروعها إلى أصولها، عندما يعنى بالتنسيب ويقايس بين أخلاق أهل الشام وبين أخلاق أهل مصر لا يجد
1 / 32
من مسافة الفرق بينهما بعد ما يجده من غيرهما. ولا نستغرب أن نجد أنّ مجموعة العوائد والأخلاق في الشام تشبه من معظم الوجوه مجموعتها في مصر، إذ كان الشرق أبا القبيلتين ومربّيهما معًا، على أنّ علّة اِكتساب الأخلاق والصّفات لا بدّ أن ترجع إلى اِختلاط الناس وامتزاجهم بعضهم ببعض مهما اختلفت مطالع الشموس وتباينت منازع النفوس، وأنه كما قد تتقوّى العلائق
وتتوثّق الروابط بين الناس وتتضاءل وتضعف على نسبة ما يكون من المعاشرة، ويقع من الاختلاط قوّة وضعفًا وكثرة وقلّة، كذلك يكون الحال في تشابه أخلاق الناس وعاداتهم سواء في ذلك ما كان من التشابه بين الآحادِ والأفراد وما كان منه بين الأمم والجماعات. ومن أجل هذا نشاهد أنّ كثيرًا من الغربيّين قد أكسبهم طول العشرة لأهل الشرق خلقًا غير خلقهم وعادة خلاف عادتهم حتّى تراهم فلا تكاد تفرّق بينهم وبين الشرقيّين إلا في قليل ممّا قويت فيه ملكاتهم وفطرت عليه غرائزهم. كما أنّا نرى مثل ذلك في كثير من أبناء الشرق وما كان يكون هذا أصلًا لولا شدّة الاختلاط وطول المعاشرة، وإن كنّا لا ننسى أيضًا أنّ من المراجع القويّة والأسباب المهمّة في ذلك عشق العادة والميل إلى تقليدها في الغير كما يشاهد في كثير من المقلّدين الّذين بالغوا في تقليد الأجنبي إلى حدّ أنّهم عادَوا عوائدهم وكرهوا تقاليدهم. على أنّه كثيرًا ما ينطبع في بعض الناس خلق غيره ويقوى فيه إلى درجة أن يصير منه بمنزلة طبعه وسجيّته وعدوى الطبائع معروفة، كعدوى الأدواء سريعة الانتقال صعبة الزوال. ومن ثمّ كان ينبغي أن يحتاط الإنسان ما أمكنه من مجالسة ذوي النفوس الخبيثة والأخلاق الرديئة وأن يتخيّر أصحابه وذوي مجلسه دائمًا من الحكماء والأدباء وأرباب النظر البعيد والرأي السديد، فإنه ما أخلق صاحب هؤلاء أن يستفيد دون أن يخسر، وأجدر جليس الجهّال والسفهاء أن يخسر دون أن يستفيد، وفي هذا المعنى يقول الشاعر العربي:
مجالسةُ السفيهِ سفاهُ رأيٍ ... وَمِن عقلٍ مُجالسةُ الحَكيمِ
فَإنّكَ وَالقرين معًا سَواء ... كَما قُدّ الأديمُ منَ الأديمِ
1 / 33
ويقول آخر:
لا تَصحبِ الكسلانَ في حالاتهِ ... كَم صالِحٍ بِفساد آخرَ يفسدُ
عَدوى البليد إلى الجليدِ سَريعة ٌ ... وَالجَمرُ يوضعُ في الرمادِ فيخمدُ
وبالجملة فإن الإنسان من حيث هو إنسان له من أصل فطرته استعداد تام لقبول كلّ ما يدخل عليه من خير أو شر، كمثل المرآة تنطبع فيها صورة ما يعرض عليها من حسن أو قبيح. لذلك هو يستطيع أن يتحوّل كيف شاء متى شاء. فالشرقيّ الّذي نبت في صميم الشرق وتربّى على مبادئه يمكنه أن يكون وقتًا ما مضاهيًا لأبناء الغرب حتّى كأنّه رضع مع اِبن الغربية من ثديٍ واحد. وما كنّا لنستغرب أن نرى أبناء الشام يشبهون أبناء مصر في تقاليدهم وعوائدهم ونحن ندرك ما بين الشعبين من كثرة الاجتماع وشدّة الاختلاط لأسباب ووجوه متعدّدة منها تبادل التجارات الشرقية واتحاد اللّغة وقرب الحوار، ذلك فضلًا عن كونهما من الحكومة العثمانية بمثابة عضوين من جسم واحد.
عود إلى بدء
هذا وقد كنت أرى قطرات من الخيل تمرّ في طرق المدينة مثقلة بالأحمال، كما تسير قُطُرات الإبل في بلاد العرب فأستأنس بهذا المنظر الشرقيّ وأرتاح له ارتياح الظمآن عند رؤية الماء، حتّى إذا نحن وصلنا إلى سراي الولاية الّتي كانت واقعة في وسط المدينة (وقد ألفيناها من الخارج كبيرة الحجم ضخمة البناء إلا أنّها كانت بسيطة المنظر لا يرى عليها من الوشي والزخرف ولا من جمال الزينة ما تتحلّى به عادة قصور الحكّام والأمراء) أشرنا إلى مَن كان معنا من الجند باِنتظارنا لدى الباب الّذي دخلنا منه، حيث هناك كان (القراه قول) يؤدّي لنا مراسم التحيّة والإجلال. وما أوشكنا أن نصعد على سلّم السراي حتّى كان قد اِستشعر دولة الوالي بقدومنا
1 / 34
فخرج لاِستقبالنا في الحال، وسار بنا إلى البهو الكبير حيث جلسنا هناك وقتًا نتحدّث بعد أن قدّم لنا دولة الباشا الوالي جملة من كبار الموظّفين في دائرة الحكومة. وقد تناول حديثنا مع دولته عدّة مواضع أذكر أنّي
سألته في خلالها عمّا إذا كان يحسن بمثلي أن يطوف على بعض جهات المدينة ليرى آثارها وعجائبها، وأن يختلط في هذه البلاد ببعض القوم إذا هو أراد أن يجاملهم بردّ زيارة أو إجابة دعوة أو ما يشبه ذلك ممّا قد يحصل عادة بين الضيف والمحلي. على أنّي ما قصدت من رحلتي إلى بلاد سوريا سوى تبديل الهواء والتنزّه طلبًا للصحّة والوقوف على آثار الشام وغرائبها لكي أضمّ ما أعرفه منها إلى ما سبق لي أن عرفته من البلاد الأخرى، وأنّي أخشى إذا أنا فعلت شيئًا ممّا ذكرته أن تتشوّش الحكومة العثمانية منه أو أن ينالنا من قبلها شيء. وقد بادرني دولته بأنّي أكون مطلق السبيل في سياحتي وأن ليس عليّ حرج أن أزور من النّاس من أحب وأن أتجوّل من جهات المدينة وضواحيها فيما أريد. وحينئذٍ تبادلنا عبارات الشكر والثناء. أمّا دولة ناظم باشا فقد رأينا منه في ذلك المجلس الصغير رجلًا رشيد السياسة سديد الرأي غاية في الذكاء والفطنة وديع النفس ليّن العريكة، لا يشكّ محدّثه في أنّه تربّى في حجر الفضيلة تربية صحيحة، واِستفاد من اِحتكاكه بسياسة الشعوب وتقلّبه الكثير في أرقى مناصب الحكومة خبرة واسعة وعلمًا غزيرًا. وبالجملة فإنّه من أعظم رجال الحكومة العثمانية كفاءة واِستعدادًا لإدارة شؤون البلاد وسياسة الرعيّة. ثمّ إنّنا وجدنا في تلك السراي من كثرة المستخدمين والزائرين ما كان يدلّ على شدّة الحركة وتواصل العمل.
زيارة متصرّف جبل لبنان
بعدما انقضت زيارتنا لدولة الوالي توجّهنا مودّعين من دولته بكلّ حفاوة إلى دار صاحب الدولة يوسف باشا متصرّف لبنان. وهي مكان جميل المنظر قائم على مرتفع من الأرض في بقعة من بيروت تعرف بالروميلي. وهناك توجد أيضًا مساكن قناصل الدول وسراة المسيحيين وأعيانهم. فاستقبلنا عند مدخل السراي بفرقة من العساكر ومعها موسيقاها. وقد أعجبت كثيرًا بارتداء هؤلاء الجند السلط
والسراويل وبأنّهم
1 / 35
رجال ضخام الأجسام طوال القامة، تبدو عليهم علائم القوّة والشجاعة حتّى لا يرتاب رائيهم في أنّهم من نخبة الشجعان وصفوة الفرسان. وكان أوّل من اِستقبلنا عند الدخول دولة المتصرّف وكاتب أسراره حيث دخلوا بنا في ردهة الاستقبال، وإذ ذاك عرّف إلينا قرينته على عادة الغربيّين في التعارف. أمّا هذه السيدة المصونة فكانت ذات جمال نادر وذكاء باهر، وبين جنبيها نفس مهذبة وأخلاق كريمة. وأمّا دولة الباشا فقد كان يزيد على اللّطف والوداعة محبّة وإخلاصًا لنا ولعائلتنا ممّا اِستوجب شكري لهما واِمتناني منهما. وكان دولته يودّ كثيرًا أن تطول إقامتنا في جبل لبنان ليكرم وفادتنا ويحسن ضيافتنا هناك، فسررت منه جدًّا خصوصًا عندما عرفت منه رجلًا فاضلًاَ محنّكًا، قد اِكتسب بالتجارب الكثيرة والتقلّب في خدمات الحكومة خبرة تامّة وسياسة رشيدة. كما أنّه قد اِستفاد من التربية الصحيحة والتعليم العالي لطفًا وأدبا، غير أنّ الظروف كانت لا تسمح لي بأكثر من إجابته إلى تناول طعام الغداء عند دولته في ظهر اليوم الثاني. ثمّ بارحنا دارهم حيث كانت تحيّينا الجنود في الوداع بمثل ما كانت حيّتنا به عند الاستقبال مودّعين من لدن دولة المتصرّف وجميع من كان معه بغاية الحفاوة والاحترام.
زيارة القومندان
ومن هناك ذهبنا إلى القشلاق حيث فيه مركز جناب قومندان الموقع العسكري في حكومة بيروت. وهو بناء فخم جميل واقع على ربوة وحينما وصلنا على هذه الثكنة حيّتنا الجنود عند مدخلها وأدّت لنا مراسم التعظيم كالعادة. وقد أخذنا مجالسنا في البهو الكبير منها، وهناك رأينا ساعة كبيرة تدقّ للساعات العربيّة والإفرنكية، ووجدنا أيضًا صورة إمبراطور الألمانيين ملوّنة بالزيت على جرمها الطبيعي، يحيط بها إطار يقرب طوله من ثلاثة أمتار وعرضه من مترين
ونصف.
1 / 36
فاستغربت جدًّا أن أرى في هذه المكان صورة إمبراطور ألمانيا ولا أرى صورة ملك البلاد وسلطانها. وليس موضع الغرابة من هذا إلا أنّ القوم مسلمون من حكومة سلطانها مسلم، وهم مع ذلك يحتفلون بصورة غير سلطانهم ويعلّقونها على جدار ذلك القشلاق، فلم يسعني حينئذٍ غير أن أسأل جناب القومندان لماذا وجدت هنا هذه الصورة دون صورة السلطان. فقال إنّ جلالة الإمبراطور، حينما ساح سياحته في البلاد الشامية وجاء إلى بيروت، تخيّر منزله في تلك الثكنة حيث أعدّ له مكان خاص أقام فيه مدّة وجوده في هذه المدينة. وقد منح جلالته المكان هذه الصورة لتكون تذكارًا له في ذلك القشقلاق. هذا وأقول لعلّ جلالة الإمبراطور قد راق لعينيه ضخامة المحل وفخامة شأنه فلم يشأ أن يبارحه بذاته ويفارقه بجسمه حتّى يحلّ فيه بصورته ورسمه. ثمّ بارحنا جناب القومندان بعد أن ودّعنا منه ومن رجاله بمثل ما قوبلنا به حيث قصدنا إلى الفندق. وقد كان جاء ميعاد الغداء الّذي ما كدنا نستريح بعده حتّى وفد إلينا جمهور كبير من المسافرين بقصد زيارتنا.
حديث مع بعض التلاميذ
وكان بين أولئك الوافدين بعض طلبة المصريين في كلية الأمريكان ومدرسة اليسوعيّين، فاستقبلناهم بما يليق بهم من الحفاوة والإكرام. وقد مكثوا في مجلسنا زمنًا غير قليل كان حديثنا في أثنائه يدور غالبًا على نظام التدريس والتعليم في المدارس والكليّات النظامية، وكنت أشجّعهم على طلب العلم، وأحثّهم على المثابرة والجدّ في تحصيل الواجبات المدرسيّة على شريطة أن يقرنوا خطاهم في سبيل تلك الغاية الشريفة بالنيّة الصحيحة والفكرة الصالحة. وهنا قلت لهم: إنّ طلب العلم، وإن كان في حدّ ذاته، هو أسنى مطالب الإنسان وأسمى رغائبه في تلك الحياة بل العلم هو وحده الأساس الّذي لا اعتماد للسعادة إلا عليه والأصل الّذي لا
اِستناد للفضيلة إلا إليه. غير أنّه لمّا كانت منافعه متعدّدة وفوائده متفاوتة كانت نوايا الناس إليه مختلفة ومقاصدهم نحوه متباينة. فمن فريق يطمح إلى تحصيل الأعراض الزائلة والأغراض السافلة، ومن فريق آخر يطمع في تكميل عقله وتثقيف فكره إلى
1 / 37
غير ذلك من المطالب الكثيرة. فمثل العلم كمثل الشجرة العظيمة إذ يقصد إليها جماعة من الناس، وكلّ له منها مقصد معين. فواحد يريد ظلّها، وآخر يبتغي أغصانها، وآخر يطلب ثمرها. ولقد يصدق على الجميع أنّهم يطلبون الشجرة، ولكن شتان ما بين طالب الظلّ منها وبين طالب الثمرة. فأنا أنصح لكم، معشر التلاميذ النجباء، أن تصرفوا كلّ همّتكم الآن في تحصيل المعارف والعلوم الّتي حبستم عليها شبابكم، والّتي من أجلها هجرتم أوطانكم وتركتم أهلكم وإخوانكم، وأن لا يبرح عن فكركم أبدًا أنّ لأمّتكم عليكم حقوقًا يجب أن تجعلوها دائمًا نصب أعينكم، وأن تجتهدوا ما اِستطعتم لأدائها عندما تطلب منكم، وأن لا تجعلوا لزخارف الدنيا وأعراضها سلطانًا على أنفسكم فتملككم وتغلبكم على أمركم، وأن تشتغلوا بالعلم قصدًا إليه نفسه وحبًّا له ذاته، لا لأن يكون وسيلة إلى غاية منحطّة ولا مقدّمة إلى نتيجة فاسدة، فإنّكم أفطن من أن ألفتكم إلى أنّ العلم ليس مفيدًا حيثما كان، بل قد يكون مضرًّا في بعض الأحيان، وكثيرًا ما يتجاوز ضرره صاحبه على غيره. وأنتم أيضًا فوق أن تنبهوا إلى ما كان من علماء الغرب الّذين ظهرت فوائد علمهم الغزيرة وثمراته الكثيرة في الاقتراحات العديدة، والاختراعات المفيدة الّتي نحن الآن متمتّعون بها في كثير من أمور حياتنا الفردية والاجتماعية، ممّا جعل هؤلاء العلماء تفتخر بهم بلادهم وتشتهر بأسمائهم جهاتهم حتّى استحقّوا أن يحمدوا ويشكروا من كلّ من عرف قيمة الحياة وأدرك سرّ الاستعمار. ثمّ قلت لهم إنّه يسوؤني كثيرًا أن أرى أناسًا يضيعون زهرة شبابهم في التعليم على قصد أن يكونوا يومًا ما مستخدمين في الحكومة، أو من أهل الثروة واليسار في البلاد،
أو ممّن يطمعون في الامتيازات العرضية كالرتب والنياشين والألقاب. نعم يسوؤني ذلك لأنّي أجد القسم الأوّل لم يستعمل فكره ومواهبه إلا فيما تقتضيه منه شؤون الحكومة، فتتضاءل مداركه وتتعطّل مواهبه ثمّ لا يلبث أن تنحصر معلوماته الواسعة في دائرة أضيق من صدر الأحمق. وأمّا القسم الثاني والثالث فقد أرادوا غاية دون ما كان ينبغي أن يطلب بالعلم ويذهب إليه من طريقه، إذ أن الرتبة مثلًا إذا لم تكن عنوان ما في نفس صاحبها وشعارًا للتربية النافعة والتعليم الصحيح، فلا قيمة لها حتّى ولا بين قومه وعشيرته. أمّا الّذي يضمن للمرء عزّه في كلّ مكان ويستوجب اِحترامه من كلّ
1 / 38
إنسان ويجعله دائمًا في الصفّ الأوّل، ومن العزّ في المحلّ الأرفع والمكان الّذي لا يتحوّل، فإنّما هو العلم الصحيح. أقول الصحيح لأنّ كثيرًا من العلماء لم ينفعهم علمهم في تحصيل ما قد أرادوه من سبيله، فاتّخذوا منه مطيّة إلى الشقاء وسبيلًاَ إلى الضلال. ومن أمثال هؤلاء تستنبط الحيل وتدبّر المكائد الّتي بها تفشو المضار وتكثر المفاسد. وإنّه لا غرابة أن يكون العلم سببًا من أسباب الشقاء، وهو بعينه أصل السعادة وطريقها، ما دامت تختلف عليه نوايا العاملين وتتفاوت في طلبه مقاصد العالمين. وإنّي لاأحدثكم بألذّ من عيش العالم العاشق للعلم فلقد تمرّ عليه الحوادث والعاديات فيطّلع عليها وهي لا تنال منه إلا ريثما تنال الصور المتحركة والخيالات العادية عن الحقائق. فمثل هذا يعيش ما قدر له أن يعيشه في هذه الدنيا مرتاح القلب مطمئن النفس، لا يفرح بشيء يأتيه كما لا يأسف على شيء يفوته، لأنّ ثروته كلّها في العلم، فهو به في غناء عن كلّ ما عداه. وهكذا كنت أبث نصائحي للتلاميذ كلّما دخلت مدرسة من مدارس الشام. وقد كنت أُلفتهم إلى ما كان للشرق في التاريخ الأوّل من المجد والعزّ وسعة نطاق المعارف وكثرة الصنائع والحرف، مبيّنًا لهم أنّ بناء الشرق الشامخ وشرفه الباذخ لم يكن قائمًا إلا على أساطين الحكمة وعماد
الفضيلة. فإذا كنّا نحسّ الآن بنقص عظيم في علومنا الحيوية وحاجاتنا الضرورية، فإنّما ذلك لأنّ الشرق ما زال لم يعوّض ما كان فقده من علمائه وحكمائه الّذين أخلصوا في خدمته وتفانوا في العمل على سعادته، إلى أن قلت لهم: إذًا، يجب عليكم بوصف أنّكم رجال المستقبل أن تستصحبوا دائمًا في عملكم نيّة أن تكونوا أوّل العاملين على رقيّ البلاد وإعلاء شأنها وأن تسدّوا منها الفراغ العظيم وتكملوا فيها ذلك النقص الكبير وما ذلك على همّتكم ونشاطكم بعزيز.
هذا خلاصة ما دار بيننا وبين الطلبة من الحديث. وقد سرّني منهم كثيرًا أنّي كنت أجدهم مصغين غاية الإصغاء لما أقول، وأنّ نصائحي نالت من نفوسهم غاية الاستحسان والقبول. وقد زادني إعجابًا بهذه النشأة الطيّبة ما أظهروه لنا من المبالغة في حبّ عزيزهم أمير البلاد وتعلّقهم الشديد بعرشه السامي وإخلاصهم الكبير لذاته الكريمة كما هو الواجب على كلّ شعب لأميره وحاكمه. نعم، وكما هو الواجب الّذي ينبغي أن تتربّى عليه النفوس من صغرها حتّى ينتقش فيها ذلك، فلا تحتّه
1 / 39
الدسائس ولا تنحته الوساوس. ثمّ إنّهم عندما همّوا بالانصراف قدّموا إلينا قانون جمعيّتهم معنونًا بقانون جمعية التلاميذ المصريّين في كلية الأمريكان، ومصدّرًا بصورة سمو الجناب العالي الخديوي. وسنذكر إن شاء الله هذا القانون بنصّه في خاتمة الرحلة، ليعرف منه حضرات القراء أسماء أعضاء الجمعية وما اشتمل عليه من المواد. وقد قابلت منهم ذلك الإهداء الجميل بالثناء العاطر والشكر الجزيل، ودعوت لهم الله أن يكلّل مشروعهم بالنجاح ويتوّج عملهم بالفلاح. وبعد ذلك خرجوا من عندنا جذلين مسرورين، على أنّ سرورنا إذ رأينا أدبهم ونشاطهم كان في وزن فرحهم أو هو يزيد. كيف لا، وإن أقل ما كان يقتضيني أن أسرّ حينئذ أنّي قابلت شبيبة بلادي تجاهد في سبيل العلم مجاهدة الأبطال، وأنّها لقد تركت وراءها من أجل استحصاله كلّ مرتخص وغال. ورجوت أن يكون ما
تظاهر به أولئك الطلبة النبهاء من محبّة مولاهم ومحبّتنا غير مشوبة بشائبة النّفاق والرياء، وأن يكون ليس من نوع المحبّة العارضة بسبب البعد والاغتراب، ولا من قبيل ذلك النسب الذي اِنتحله اِمرؤ القيس في قوله وقد أناخ بعسيب:
أَجارتنا إنّ الخطوبَ تَنوبُ ... وَإِنّي مقيمٌ ما أقامَ عَسيبُ
أَجارتنا إِنّا مُقيمانِ ها هُنا ... وَكلّ غَريبٍ لِلغريبِ نسيبُ
زيارة المدرسة الحربية
توجّهنا في شباب يوم الأحد ٢٣ ربيع الأول سنة ١٣٢٨ إلى زيارة المدرسة العسكرية الابتدائية وكان موقعها من المدينة في قسم الباشورة وهي تحتوي على سبعين تلميذًا تقريبًا يبلغ سنّ الواحد منهم من سبع سنين إلى أربع عشرة سنة، وقد طفت على كلّ فصول هذه المدرسة ودوائرها وكان المعلّمون يختبرون التلاميذ أمامنا
1 / 40
فيما يتدارسونه من العلوم الجغرافية والهندسية والتاريخية وغيرها جريًا على العادة فسررنا من نجابة التلاميذ واستحضارهم، ثمّ تعهّدنا غرف النوم ومواضع الأكل والطبخ أيضًا فسرّنا اِختيارها ونظافتها سرورًا بليغًا ولذلك أثنيت حميد الثناء على القائمين بشؤون هذه المدرسة عمومًا، خصوصًا الأساتذة الّذين ظهر لي حسن عنايتهم بتربية الطلبة وتعليمهم ممّا كنت أراه من إجاباتهم السارّة على أسئلة أولئك المعلّمين، غير أنّي لاحظت شيئًا واحدًا هناك وهو عدم تمرين التلاميذ على حمل السلاح وتعويدهم عليه في صغرهم وشباب عمرهم مع أنّ المدرسة حربيّة وكان يجب أن يوجد ذلك فيها بل أن يكون من أوّل دروسها وأهم حصصها، وقد سألتهم عن سبب هذا النّقص المحسوس فأجابوني بما كان لا يلاقي اِعتراضي عليهم، قالوا: إنّ المدرسة اِبتدائية وإن التلاميذ أحداث صغار، وقلت إن المدارس الحربيّة الإعدادية في الجهات الأخرى تعطي أبناءها السلاح في ضمن ما يتعاطونه وهم صغار لينشؤوا على حبّه ويتمرّنوا على حمله ولكي تتربّى فيهم من
حال الصغر ملكة الشجاعة وتغرز في سجاياهم القوّة والجراءة ومن ذلك يستشعر التلميذ من نفسه الشهامة والإقدام، نعم لا ننكر أنّ الجيش العثماني من أقوى الجيوش وأشجعهم قلبًا وأشدّهم بأسًا اشتهر ذلك عن هذا الجيش حتّى إنه لا يوجد على ظهر المسكونة أحد يجهله أو يرتاب فيه، غير أن الواجب إنّما هو البلوغ بالإنسان إلى الحدّ الأكمل من كلّ فضيلة، وبدل ما أن يقال الجندي العثماني شجاع والجندي الفلاني أشجع منه يقال على العكس من ذلك، وما العمل لتحصيل هذا بالأمر المستحيل ولا هو بالصعب أيضًا.
المدرسة الملكية
ومن هناك ذهبنا إلى المدرسة الملكيّة حيث كانت الساعة ١١ إفرنجية، فاستقبلنا على مدخلها جناب ناظر المدرسة وأساتذتها وبعض متخرّجيها وفريق من علية القوم، وإذ ذاك صدحت الموسيقى المدرسيّة بالسلام والنشيد الوطني. أمّا نحن فدخلنا ردهة الاستقبال، بينما كانت التلاميذ يحيّوننا ويهتفون لنا بالدعاء. وما كدنا نستقر في مجالسنا حتّى قام أحد التلاميذ ورحّب بنا بخطاب تركي. ثمّ نهض بعده الأستاذ
1 / 41