জাকি নাজিব মাহমুদের চিন্তায় একটি যাত্রা
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
জনগুলি
كثيرا ما عقد مفكرنا مقارنات مطولة بين الأدب والعلم لكي يفرق بينهما من ناحية، ولكي يهاجم من ناحية أخرى أصحاب «الأدب العلمي»، مبينا أنهم يخلطون بين أمرين لا يجوز الخلط بينهما؛ ذلك لأننا نجد أنفسنا، في حالة الأدب والعلم، أمام ضربين من الكلام يختلف أحدهما عن الآخر أتم الاختلاف، ويستحيل أن يتحول إليه «كما يستحيل أن تتطور الأغنام وتصبح أبقارا»؛ لا لأن الأدب متميز عن العلم بجمال أسلوبه، مع جواز اتحادهما في مادة القول؛ بل لأن الاختلاف أعم من ذلك بكثير؛ فالعبارة العلمية من طراز والعبارة الأدبية من طراز آخر، ولن يستطيع جمال الأسلوب أن يعبر ما بينهما من فجوة واسعة سحيقة.
112
ونحن هنا إنما نعود بطريقة أخرى إلى ثنائية «العقل والوجدان»، وإلى ثنائية المجالين المختلفين من مجالات القول، ينبغي علينا أن نفرق بينهما بدقة وعناية، فالعلم تعميم والفن تخصيص، العلم تجميع والأدب تفريد، العلم يلاحظ الأشياء والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانون واحد ينظمها، والفن يلاحظها جزئية واحدة يقف عندها، العلم يستبعد نفس الخصائص التي يستبقيها الفن؛ فالخصائص الفريدة التي تميز فلانا من الناس دون سائر الأفراد، هي التي يستبقيها الفنان ليحللها ويصورها، وهي نفسها التي يستبعدها العالم؛ لأنها ليست مشتركة بين سائر أفراد النوع الإنساني، يقول عالم النبات عن الزهر ما ينطبق على الزهر كله ما دام منتميا إلى فضيلة واحدة، أما الفنان فيقف عند زهرة واحدة في لحظة زمنية واحدة، يلقفها من تيار حوادثها الدافق، قبل أن تمضي إلى غير عودة، فيصورها رسما أو أدبا أو مشاءت له مادته التي يستخدمها وسيلة لإثبات ما يريد أن يثبته.
113
وفي استطاعتنا أن نقول ذلك بصدد كل ما يعالجه الفن بشتى صنوفه، وعلى أساس هذا المعيار تستطيع أن تقيم «النقد الأدبي»، هب أنك بصدد قصيدة نظمها شاعر عن الحب، فانظر إلى أي حد قد تفردت العاطفة التي يعبر عنها، بحيث أصبحت كائنا وحدها قائما بذاته، لا تشاركها لحظة أخرى من لحظات الحب، لا أقول عند سائر المحبين، بل عند هذا المحب نفسه، فلا يكفي أن يتحدث عن «الحب» بصفة عامة تقول أنه أجاد؛ لأن الحب بصفة عامة من حيث هو عاطفة يشترك فيها أفراد البشر أجمعون بدرجات متفاوتة، هو من شأن علم النفس لا من شأن الفنان، فعالم النفس هو الذي يتحدث عن هذه العاطفة «بصفة عامة»، أو أنه يتكلم عنها كما تبدو آثارها عند هذا الفرد من الناس، وهذا وذاك، في كل زمان ومكان، هذا التعميم في الأحكام يكون علما ولا يكون فنا ولا أدبا. أما الفنان أو الأديب فهو ينظر إلى حالاته النفسية في حبه ليلقف منها حالة واحدة، ثم يبرز هذه الحالة الواحدة العابرة، وهو بذلك يصور لنا ما لا يتكرر في سائر الحالات، ولا حالاته هو الشخصية دع عنك حالات الآخرين! إن المحب لا يشعر بعاطفة الحب على لون واحد وبنغمة واحدة، وأصداء واحدة، وأثرا واحد، بل نراه إزاء حبيبه الآن بما لم يكنه بالأمس وما لن يكونه غدا، ومع ذلك فهي كلها مواقف من حبه، فلا يكفي أن يقول: «إني أحب، أو إني في جحيم أو نعيم من الحب» ليكون أديبا، بل يتحتم أن يخصص لنا خيوط العناصر النفسية، التي جعلت حبه جحيما أو نعيما، ولو أجاد الملاحظة، وأجاد الوصف، لعلم أن شبكة هذه الخيوط محال أن تلتقي على صورة واحدة في لحظتين متباعدتين.
114
الواقع أن مجرى العواطف والمشاعر عند الإنسان قريبة مما كان يصف به الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الكون كله، تيار متدفق، كل شيء فيه تتغير حالاته تغيرا دائما دائبا، ويحاول «العالم» أن يتلمس وسط هذه التيارات الدافقة من الحوادث اطرادات تتكرر على غرار واحد، فإن وجد جعله قانونا ثم راح يقيس الأبعاد المكانية والزمانية في ذلك الاطراد، لينتهي إلى صيغة قانون فيه دقة كمية ... أما الأديب أو الفنان، فشأن آخر: إنه لا يلتمس اطرادا في الحوادث، بل تستوقفه حادثة واحدة، أو حالة واحدة فيثبتها على اللوحة رسما، أو يثبتها باللفظ أدبا، أو في أنغام الألحان موسيقى.
وليست كل حالة جزئية في صلاحيتها للفن على حد سواء مع سائر الحالات، بل إن الفنان ليقع على الجزئيات ذات الدلالة؛ أي الجزئيات التي تكون أكثر إيماء عند القارئ أو الرائي، فكاتب القصة أو المسرحية، مثلا، لا يجيد فنا إذا راح يسرد التفصيلات عن شخصياته سردا بغير تمييز، بل صحيح الفن هو الاختيار الموفق، فأي التفصيلات في حياة هذا الشخص الذي أصوره أهدى إلى حقيقة شخصه وسر نفسه وكنه وجوده؟ سل نفسك ما سر الجودة الفنية في هذه الشخصيات الأدبية: هاملت، الملك لير، دون كيشوت، وغيرهم؟ تجد أنه اختيار التفصيلات التي يجريها الأديب كلاما وسلوكا، بحيث يتكون له في النهاية شخص متكامل فريد؛ فهو لا يرسم الإنسان بصفة عامة وإلا كان عالما، بل يرسم «هاملت» أو «لير» فردا واحدا ذا طابع متميز، يستحيل أن يتكرر له في الوجود مثال يطابقه كل المطابقة.
115
سبيل العلم، إذن، وسبيل الأدب مختلفان ولن يتطور هذا إلى ذاك أبدا، ولسنا نريد أن نتتبع شتى الفروق التي تباعد بينهما وتباين، لكنا نريد أن نضيف خاصية هامة أخيرة، وهي أن الأدب بمقدار ما يكون الكلام فيه وصفا للواقع والحقائق الخارجية بمقدار ما يبعد عن الكمال الفني، أن الصور الفوتوغرافية تصور الحقيقة الواقعية تصويرا أمينا؛ ولذلك لم تكن فنا بالمعنى الذي نقصده، إنك كثيرا ما تقف أمام صورة رسمها «بيكاسو» أو «ماتييس»، فلا تدري ماذا أراد المصور أن يصوره؛ لأنه لم يرد قط أن يصور شيئا خارجيا عن ذاته، فهذا الخليط اللوني قد تردد في خياله كما تردد الأنغام في أذن الموسيقى، فرسمها على لوحته لتجيء موسيقى للعين في أنغام من ضوء.
অজানা পৃষ্ঠা