أحمد بن فضلان
أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حمّاد، كان يعيش في النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع الهجري التاسع والعاشر الميلادي. وهناك في اسمه بعض الاضطرابات: فعبّر عنه ياقوت الحموي بأحمد وورد اسمه في النسخة الخطية للكتاب بصورتين أحمد ومحمد. ولكن يبدو أن اسم أحمد ناشئ من خطأ الكاتب. وهو كان من موالي فاتح مصر محمد بن سليمان المنفق الكاتب الذي قتل سنة ٣٠٤ هـ / ٩١٦ م عند قعلة الري وحين قتاله مع أحمد بن علي أخ محمد بن علي الصعلوك.
وأما عن محلّ ولادته ونسبته فلا توجد معلومات في هذا المجال. والنقطة الوحيدة الملفتة للنظر هي قول ملك الصقالبة مخاطبًا ابن فضلان: «أنا لا أعرف هؤلاء إنّما أعرفك أنت، وذلك أنّ هؤلاء قوم عجم»، فهل كان يعلم الملك بأنه عربي أو لغته عربية، أم خاطبه بذلك لجهله وعدم علمه؟.
لم يكن ابن فضلان رحّالة وإنما هاجر برفقة جمع من الكبار إلى أرض السلافيين أطراف نهر الفولغا بتكليف من الخليفة المقتدر العباسيّ. وذلك حينما كتب ملك الصقالبة في سنة ٣٠٩ هـ / ٩٢١ م بيد عبد الله بن باشتو الخرزي إلى الخليفة يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقّهه في الدين، ويعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدًا وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له. فأرسل الخليفة المقتدر إلى ملك الصقالبة وفدًا يتكوّن من أربعة رجال أساسيين وبضعة مرافقين من الفقهاء والمعلمين والغلمان ومنهم ابن فضلان.
ومن المفروض أن سفيرًا مبعوثًا إلى أقاصي الأرض يجب أن يمتلك الكثير من الحكمة والحنكة، وأنّ بعثة مثل بعثته كانت تستلزم رجلًا ذا ثقافة معقولة، وهو ما نظنّ حاله.
অজানা পৃষ্ঠা
[مشخصات كتاب]
رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة ٩٢١ حرّرها وقدّم لها: شاكر لعيبي
1 / 3
يشرف على هذه السلسلة:
نوري الجرّاح
1 / 4
[من نص الرحلة ص ١٠٨]
... «فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا بالجارية إلى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب فوضعت رجليها على أكف الرجال وأشرفت على ذلك الملبن، وتكلمت بكلام لها فأنزلوها، ثم أصعدوها ثانية، ففعلت كفعلها في المرة الأولى، ثم أنزلوها وأصعدوها ثالثة، ففعلت فعلها في المرتين، ثم دفعوا إليها دجاجة فقطعت رأسها ورمت به وأخذوا الدجاجة فألقوها في السفينة. فسألت الترجمان عن فعلها فقال: قالت في أول مرة أصعدوها: هو ذا أرى أبي وأمي وقالت في الثانية: هو ذا أرى جميع قرابتي الموتى قعودا. وقالت في المرة الثالثة: هو ذا أرى مولاي قاعدا في الجنة والجنة حسنة خضراء ومعه الرجال والغلمان وهو يدعوني فاذهبوا بي إليه.
فمروا بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا عليها ودفعتهما إلى المرأة التي تسمى ملك الموت وهي التي تقتلها ونزعت خلخالين كانا عليها ودفعتهما إلى الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها وهما ابنتا المرأة المعروفة بملك الموت. ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها إلى القبة وجاء الرجال ومعهم التراس والخشب ودفعوا إليها قدحا نبيذا فغنت عليه وشربته، فقال لي الترجمان: إنها تودع صواحباتها بذلك ثم دفع إليها قدح آخر فأخذته وطولت الغناء والعجوز تستحثها على شربه والدخول إلى القبة التي فيها مولاها فرأيتها وقد تبلدت وأرادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها وبين السفينة فأخذت العجوز رأسها وأدخلتها القبة ودخلت معها. وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري ولا يطلبن الموت مع مواليهن ثم دخل إلى القبة ستة رجال فجامعوا بأسرهم الجارية ثم أضجعوها إلى جانب مولاها وأمسك اثنان رجليها واثنان يديها وجعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها حبلا مخالفا ودفعته إلى اثنين ليجذباه وأقبلت ومعها خنجر عريض النصل فأقبلت تدخله بين أضلاعها موضعا موضعا وتخرجه والرجلان يخنقانها بالحبل حتى ماتت.»
من نص الرحلة ص ١٠٨
1 / 5
استهلال
تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه، قريبة وبعيدة، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملؤوا دروب الشّرق، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم، ومن منطلق المستأثر بالأشياء، والمتهيّئ لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم، وتمهّد الرأي العام، تاليا، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية، هي النموذج الأتمّ لذلك.
فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي
1 / 7
لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.
على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري، لتجد نفسها تملك، بدورها، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر، بحثا واستكشافا، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ونمط عيشه وأوضاعه، ضاربة بذلك الأمثال للناس، ولينبعث في المجتمعات العربية، وللمرة الأولى، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته، وبين معاد للغرب، رافض له، ومستعدّ لمقاتلته.
وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين، عبر رسم صور دنيا لهم، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسة، ركّز، أساسا، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة، وتطوّر العمران، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات، مدفوعين، غالبا، بشغف البحث عن الجديد، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط، من باب الفضول المعرفي، وإنما، أساسا، من باب طلب العلم، واستلهام التجارب، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها.
هنا، على هذا المنقلب، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها من
1 / 8
موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة، المتحسّر على ماضيه التليد، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.
إن أحد أهداف هذه السّلسة من كتب الرحلات العربية إلى العالم، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة، على هذا الصعيد، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السّلسلة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس، وللمرة الأولى، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.
محمد أحمد السويدي
1 / 9
المقدّمة
إذا ما استحقّت رحلة ابن فضلان التي قام بها سنة ٩٢١ م عناية استثنائية من طرف الباحثين والمحققين، فلأنّها من أوائل الرحلات العربية التي وصلت إلينا. ومقارنة برحلة أبي دلف سنة ٩٤٢، ورحلة المقدسي سنة ٩٨٥- ٩٩٠ م، فإن رحلة ابن فضلان تظلّ مشغولة بهمّ توثيقيّ صرف أكثر من اهتمامها بالشأن الجغرافيّ. إنّها وصف أنثروبولوجيّ يتمحور حول موضوع واحد محدّد لا يحيد عنه رغم قصر النّسخة الواصلة إلينا.
لقد انطلق ابن فضلان يوم الخميس ١١ صفر سنة ٣٠٩ هـ، الموافق ٢١ حزيران سنة ٩٢١ م، برحلة شائقة بتكليف من الخليفة المقتدر العباسيّ الذي طلب الصقالبة العون منه. واستغرقت الرحلة أحد عشر شهرا في الذّهاب، وكانت مليئة بالمغامرات والمشاقّ والمصاعب السياسيّة والانفتاحات على الآخر المختلف ثقافيا.
والصقالبة هم سكّان شمال القارّة الأوربيّة، وكانوا يسكنون على أطراف نهر الفولغا، وتقع عاصمتهم بالقرب من (قازان) اليوم في خطّ يوازي مدينة موسكو.
وكان وفد الخليفة المقتدر إلى ملك الصقالبة يتكوّن من أربعة رجال أساسيين وبضعة مرافقين من الفقهاء والمعلمين والغلمان.
1 / 11
النسخة الوحيدة لمخطوطة رسالة ابن فضلان:
صدرت الطبعة الأولى من «رسالة ابن فضلان» بدمشق سنة ١٩٥٩ عن مجمع اللّغة العربية في دمشق بتحقيق الدكتور سامي الدهان، مع تقديم واسع وشروحات ضافية. ثمّ صدرت طبعتها الثانية عن مديرية إحياء التراث العربيّ في وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ السورية عام ١٩٧٧. ثم صدرت لها طبعة ثالثة (كتب عليها أنّها الطبعة الثانية!) سنة ١٩٨٧ عن مكتبة الثقافة العالمية في بيروت، وعليها نعتمد نحن في طبعتنا هذه.
يتخذ الدكتور الدهان من (صورة شمسية) لرسالة ابن فضلان أصلا للتحقيق الذي قام به. وإليكم تفصيل الأمر: في سنة ١٩٢٤ نشر ماركوارت Markwart دراسة عن الرّحالة في ليبتسك، وفي نفس السّنة تسلّم المعهد الآسيويّ للاستشراق في بطرسبورغ ورقتين مصورتين من النّسخة الخطيّة التي اكتشفت في مدينة مشهد (طوس) الإيرانية، ووصلت بقيّة الأوراق مصورة بعد عشر سنوات إلى العهد. ومنذ ذلك العام نفسه نشر مقال بالروسيّة في التّعريف بالنّسخة الخطيّة المكتشفة في خزانة المخطوطات بمشهد. في سنة ١٩٢٦ صدر فهرس هذه الخزانة، وفيه وصف هذه النّسخة، تحت رقم ٢ «أخبار البلدان» عربي. وقد كتبت المخطوطة بخطّ النّسخ، وفي كلّ صفحة منها ١٩ سطرا، وأوراقها ٢١٢ ورقة آخرها مبتور مخروم.
وأوّل من حقّق مخطوطة مشهد وعلّق عليها وترجمها هو الباحث التركيّ وليد زكي طوغان الذي قابلها على ما جاء عند ياقوت الحموي ونشرها بالحروف العربية والترجمة الألمانية وطبعها سنة ١٩٣٩. وفي السّنة نفسها ترجمها المستشرق الكبير كراتشوفسكي وكتب لها مقدمة ضافية، وفي آخر دراسته نشر صورة فوتغرافية للرّسالة كاملة عن مخطوطة مشهد وبحجم كبير «١» .
وإلى أساس هذه الصور الشّمسيّة التي نشرها كرتشوفسكي يستند التحقيق كلّه
1 / 12
الذي قام به د. الدّهان، وبالاستعانة، كما أحسب، بطبعة وليد زكي طوغان العربية- الألمانية.
ياقوت الحموي يقود إلى ابن فضلان
قبل التوصّل إلى اكتشاف مخطوطة مشهد التي نشرها د. الدّهان فإنّ النقولات التي قام بها ياقوت الحمويّ في (معجم البلدان) عن رحلة ابن فضلان هي التي قادت المستشرقين والباحثين للاهتمام بابن فضلان محاولين العثور على نسخة من عمله، وهو ما توصلوا إليه أخيرا.
يثبت د. الدّهان أنّ الإصطخريّ «٢» وابن رسته والمسعوديّ قد قرأوا رسالة ابن فضلان ونقلوا عنه دون أن يثبتوا أنّهم قد نقلوا عنه. لكنّ الرّجوع إلى هؤلاء يبرهن أنّ ما يذكرونه، عن الروس والخزر والبلغار، لا يبدو كثير التطابق مع رسالة ابن فضلان إلا عرضا وبنقاط معلوماتية مشاعة، يمكن أن تتهيأ لأيّ جغرافيّ جاد دون أن ينقل بالضرورة عن غيره.
يذكر الدّهان أنّ ياقوت، في القرن السابع، كان (أول) من أشار إلى ابن فضلان، مختارا فصولا من رسالته ومدرجا إيّاها في معجمه، مصرّحا أي ياقوت، بأوضح
1 / 13
عبارة، بأنّه ينقل عنه، خاصة تحت المواد: خوارزم، باشغرد، بلغار، إتل، روس، خزر. وقد أثبت ياقوت قرابة عشرين صفحة من الرّسالة، وترك خمس عشرة صفحة منها، فكأنّه، كما يقول د. الدّهان، نقل ثلثيها وبقي ثلث واحد- على الأقلّ- مجهولا.
هل كان ياقوت الأوّل والوحيد الذي يصرّح جهارا بنقله عن ابن فضلان كما يقول د. الدهان ويتابعه الجميع بعد ذلك؟ كلا. وهنا واحدة من نتائج بحثنا في رسالة ابن فضلان ومن فضائل طبعتنا الحاليّة هذه كما سنرى.
لنعد إلى المستشرقين المهتمّين بتاريخ الروس والبلغار، ولنر إلى أنّ اهتمامهم سنة ١٨٠٠ قد قادهم إلى نشر ما قاله العرب عن الروس وفيهم الإدريسيّ والمسعوديّ وابن فضلان (عبر ما ينقله ياقوت فحسب لأنّ نسخة مشهد كانت مجهولة) . سنة ١٨٤١ جمع المستشرق راسموسن Rasmussen مقاطع من فصول ياقوت المنقولة عن ابن فضلان وترجمها إلى الروسيّة، ونقلها عنه إلى الإنكليزية نيكلسون بعد أربع سنوات. سنة ١٨١٩ جمع المستشرق الألمانيّ فرين Fraehn مخطوطات ياقوت ليستخرج منها ما نقله الأخير عن ابن فضلان ونشرها تباعا منذ سنة ١٨٢٢. سنة ١٨٦٣ نشر وستنفلد دراسة بالألمانية عن الرحلات عند ياقوت وفيها رحة ابن فضلان، وكان يجمع مخطوطات ياقوت من أجل نشر معجم البلدان. وفي سنة ١٨٩٩ نشر فستبرغ Festberg دراسة كذلك عن ابن فضلان. وفي سنة ١٩٠٢ نشر المستشرق فون روزن Rosen مقالا بالروسيّة عن ابن فضلان كذلك. سنة ١٩١١ كتب المستشرق التشيكيّ دفورجاك Dvorak دراسة عن رحلة ابن فضلان نشرها في براغ، وبعد عامين نشر برتولد Barthold بالروسيّة دراسة عن موضوع الرحلات إلى روسية عند العرب.
كان ابن فضلان (المنقول عبر ياقوت الحمويّ) في صلب اهتمامات هؤلاء المستشرقين. وكان ياقوت إذن حلقة وصل وتعريف بالرجل قبل اكتشاف مخطوطة مشهد انفة الذّكر.
وياقوت الحمويّ (ولد عام ١١٧٨ م- توفي عام ١٢٢٨ م) هو أديب ومؤلف موسوعات، ولد في مدينة حماة السوريّة. اشتهر بكتابه «إرشاد الأريب إلى معرفة
1 / 14
الأديب»، الذي جمع فيه أخبار الأدباء إلى أيامه، ورتّبهم فيه حسب حروف المعجم، وأشار إلى من اشتغل منهم بالكتابة أو الوراقة أو النّسخ أو الشّعر. ويعتبر الكتاب موسوعة ضخمة للأدباء. ذكر ياقوت في مقدمته كتب التّراجم الكثيرة التي استفاد منها، وتدلّ القائمة الكبيرة التي ذكرها على أنّه علم من أعلام مؤلفي الموسوعات في التاريخ. كما يدلّ على ذلك أيضا تأليفه كتاب «معجم البلدان»، وهو موسوعة جغرافية ضخمة تستغرق عدّة مجلّدات، رتّبت هي الأخرى على حروف المعجم، وتتضمّن معلومات أدبية وتاريخية ولغويّة في غاية التنوّع والثراء.
ياقوت الحموي ليس الوحيد الذي يشير إلى ابن فضلان
من حينها حتى يومنا، جرى اعتبار ياقوت الحموي المصنّف الوحيد الذي ينقل عن ابن فضلان ويشير بصراحة إلى ذلك بتعبيرات من قبيل: «وقرأت رسالة عملها أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان رسول المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة ذكر فيها ما شاهده منذ انفصل من بغداد إلى أن عاد إليها» أو «قرأت في كتاب أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد رسول المقتدر إلى بلاد الصقالبة» أو بتعبيرات نقدية بصدد ما وجده في الرسالة من الأفكار المنافية للمنطق والعقل.
على أننا اكتشفنا أن ياقوت ليس الوحيد الذي يعترف بنقله واستشهاده بابن فضلان. القزويني كان يفعل في كتابة (آثار البلاد وأخبار العباد)، وبثلاثة مواضع من كتابه:
١- «قال ابن فضلان في رسالته: رأيت جيحون وقد جمد سبعة عشر شبرا. والله أعلم بصحته» .
٢- «حكى أحمد بن فضلان رسول المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة لّما أسلم فقال:
عند ذكر باشغرت وقعنا في ...» إلخ.
٣- «حكى أحمد بن فضلان لما أرسله المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة وقد أسلم حمل إليه الخلع. وذكر من الصقالبة عادات عجيبة منها ما قال: دخلنا
1 / 15
عليه ...» .
والاستشهادات هذه مضمومة كاملة في هوامش طبعتنا الحالية.
والقزويني هو أبو عبد الله بن زكريا بن محمد القزويني، ينتهي نسبه إلى أنس بن مالك عالم المدينة. ولد بقزوين في حدود سنة ٦٠٥ للهجرة (١١٨٤ م)، وتوفي سنة ٦٢٨ هـ، (سنة ١٢٦١ م) . اشتغل بالقضاء مدة، ولكن عمله لم يلهه عن التأليف في الحقول العلمية. شغف بالفلك والطبيعة وعلوم الحياة، وكانت أعظم أعماله شأنا هي نظرياته في علم الرصد الجوي. مؤلفه الرئيسي هو كتابه المعروف (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) وفيه وصف للسماء وما تحوي من كواكب وأجرام وبروج، والأرض وجبالها وأوديتها وأنهارها.. إلخ. وقد رتب ذلك ترتيبا أبجديا دقيقا. كما كتب مصنّفه (آثار البلاد وأخبار العباد) وفيه ثلاث مقدمات عن الحاجة إلى إنشاء المدن والقرى، وخواص البلاد، وتأثير البيئة على السكان والنبات والحيوان، كما عرض لأقاليم الأرض المعروفة آنذاك وبلدانها ومدنها وشعوبها، وخصائص كل منها.
توفي ياقوت سنة ١٢٢٨ م بينما توفي القزويني سنة ١٢٦١ م أي أن بينهما ٣٣ سنة فقط. يسبق إذن ياقوت الحموي القزويني ببضع سنوات، هل يجوز أن يكون القزويني قد نقل عن ياقوت المقاطع المتعلقة بابن فضلان؟. أشك بذلك بعمق، لأن من غير المستبعد البتة (بل من المؤكد) أن تكون نسخة من كتاب ابن فضلان قد وقعت بين يديه هو نفسه وذلك لطبيعة إشاراته الصريحة المشار إليها لرسالة ابن فضلان، إضافة إلى أن معاصرته لمؤلف آخر يشتغل مثله على المادة والمعلومات المتوفرة نفسها في عصريهما، لا تنفي وقوع نسخة من الرسالة بين يديه.
وعلى أية حال فنحن أمام واقعة جديدة، ربما فاتت على من عالج ابن فضلان ودرسه، وهي أن القزويني، وليس ياقوت، لوحده، من يستخدمه، بصراحة، مرجعا من مراجعه ويسمّيه باسمه ويعترف بنقله عنه.
هل زار ابن فضلان البلدان الإسكندنافيّة؟
بعد عمل الدكتور سامي الدهان الرائد، توقفنا، بانتباه أقل، أمام كتاب آخر
1 / 16
يضم، إضافة للرحلة التي حققها الدهان، ما يحسبه مؤلفه القسم المفقود منها، الضائع أصله، بل إنه يسعى إلى تقديم كشف جديد بشأن مسارها، زاعما أن الرجل قد وصل حتى البلدان الإسكندنافية. والكتاب موضوع الإشارة قد صدر تحت عنوان:
رسالة ابن فضلان: مبعوث الخليفة العباسي المقتدر إلى بلاد الصقالبة، عن رحلته إلى بلاد الترك والخزر والصقالبة والروس واسكندنافيا في القرن العاشر الميلادي، جمع وترجمة وتقديم الدكتور حيدر محمد غيبة، الشركة العالمية للكتاب ش م ل مع آخرين، سوريا ١٩٩١.
في المتن الطويل لعمل كريكتون، الذي يسمّيه د. حيدر محمد غيبة (النص الإنكليزي) للرحلة يبدو ابن فضلان وقد دفع دفعا لأن يكون فارسا ومغامرا قروسطيا على الطريقة الإسكندنافية. من أين حصل الدكتور غيبة على هذا المتن؟
سأتوقف قليلا وبالتطويل اللازم إذا استدعى الأمر لمناقشة هذا العمل بسبب الارتباك والخفة المتناهية ذات المزاعم العلمية، التي أنجز بها الدكتور حيدر محمد غيبة عمله.
يذكر الدكتور حيدر محمد غيبة في مقدمته أن السيدة زوجته دفعت إليه عام ١٩٨٤ كتابا باللغة الإنكليزية للسيد ميكائيل كريكتون بعنوان:
(أكلة الأموات: مخطوط ابن فضلان عن خبرته بأهل الشمال في عام ٩٢٢ ميلادية)
Michael Crichton: Eaters of The Dead، The Manuscript of Ibn Fadlan Re- Lating His Experiences With The North Men In A. D. ٢٢٩
وهو كتاب منشور عن «مؤسسة بنتام» بالاتفاق مع شركة الفريد نوف المساهمة عام ١٩٧٦ «٣» .
Published in ٦٧٩١ by Alfred A. Knopf، Inc. ٣٩١ Pages.
1 / 17
من المثير أننا نقرأ على الغلاف الخارجي الثاني من الكتاب، كما ينقل د. غيبة، التعريف التالي بالعمل:
(أكلة الأموات: الرواية الجديدة الرهيبة لمؤلف رواية «السطو العظيم على القطار») وهذه أولى الإشارات التي لا تدفع البتة للاطمئنان إلى طبيعة عمل السيد كريكتون، لأنها تصفه (بالرواية) . على أن الدكتور غيبة، كما المؤلف كريكتون نفسه، يودّان إقناع القراء بأن العمل من طبيعة تاريخية موثوقة، لا يرقى إليها الشكّ، وهو ما سنناقشه.
خلاصة الأمر أن الدكتور غيبة مقتنع من خلال قراءته وترجمته لكتاب كريكتون بالأمرين التاليين:
أولا: أن مهمة الكاتب، كريكتون، اقتصرت على جمع أجزاء رسالة ابن فضلان وترجمة بعضها، والتقديم لها والتعقيب عليها، معتمدا في الفصول الثلاثة الأولى على مخطوط ابن فضلان كما هو مترجم من روبيرت ب. بليك Robert P.Blake
وريشاردن. فراي Richard N.Frye ومن ألبرت ستانبورو كوك Albert Burrough Cook.
ثانيا: أن المؤلف كريكتون يعتمد فيما تبقى من عمله على الترجمة النرويجية لرسالة ابن فضلان التي قام بها الأستاذ النرويجي بير فراوس- دولوس الذي جمع ما تناثر من أجزاء الرسالة «٤» بلغات مختلفة ونقلها للنرويجية بين السنوات ١٩٥١ وحتى وفاته ١٩٥٩.
من هنا تبدأ الالتباسات كلها في عمل الدكتور غيبة. فهل الفصول الثلاثة الأولى في عمل كريكتون هي تلك المترجمة عن مخطوط مشهد؟ لا نحر جوابا، رغم أن ظاهر الكلام يوحي بذلك. وإذا كان الحال كذلك فلا بأس عليه وعلينا، فنحن ثانية في صلب عمل ابن فضلان الذي نعرف. أما إذا كان العمل التجميعي- وهو عصب الفصول الأخرى- الذي قام به الباحث النرويجي بير فراوس دولوس هو تلكم
1 / 18
المغامرات العجيبة الغريبة التي لا تمتّ إلى روح مخطوطة مشهد بصلة فإن شكا كبيرا يحوم حول مصادره. ما هي مصادره؟.
يذكر د. غيبة أن كلا من كريكتون مؤلف (أكلة الأموات) والباحث النرويجي قد اعتمدا على تراجم المقتطفات الواردة في معجم ياقوت وتراجم لرسالة ابن فضلان حتى عام ١٩٥١ باللغات العربية واللاتينية والفرنسية والدانماركية والسويدية والإنكليزية، دون أن تكون نسخة مشهد بينها «٥» . ويضيف الدكتور غيبة، في واحدة من تناقضاته الكثيرة، أن من الغريب أن يحدث إهمال لنسخة مشهد المنشورة في برلين بنصّها العربي وترجمتها الألمانية سنة ١٩٣٩. ها هنا التباس ثان. من الواضح أن تراجم المقتطفات تلك ما هي إلا الفصول التي نقلها ياقوت عن ابن فضلان ولا شيء سوى ذلك. لأننا لا نعرف شيئا سوى ذلك في الحقيقية قبل مخطوطة مشهد إلا نتفا متأخرة لا قيمة لها باللغة الفارسية.
يتلقّف د. غيبة ملاحظة كتبها الدكتور سامي الدهان ويذكر فيها أن هناك ورقة أو ورقتين ضائعتين من مخطوطة (مشهد) لكي يجعلنا نعتقد أن صفحات المغامرات الطوال من (رواية) كليكتون (أكلة الأموات مخطوط ابن فضلان عن خبرته بأهل الشمال في عام ٩٢٢ ميلادية) هي التي تسد مسدّ تلكم الورقتين. وفي هذا إجحاف بعيد وضرب من عدم الدقة العلمية، فتلك الصفحات تغطّي، في الحقيقة، العشرات بل المئات من الأوراق المخطوطة.
وبدلا من مخطط الرحلة الذي نعرفه والذي يعاني، على أية حال، بعضا من الخلل بسبب فقدان أجزاء من مخطوطة مشهد، يقترح الدكتور غيبة استنادا إلى النسختين العربية- النرويجية والإنكليزية المخطط التالي:
أ: في الذهاب
١- بلاد العجم والترك
٢- الروسية
1 / 19
٣- شمال أوربا وإسكندنافيا
ب: في الإياب (طريق العودة لبغداد)
١- بلاد الصقالبة
٢- إقليم الخزر
واضعا شمال أوربا وإسكندنافيا في عصب رحلة ابن فضلان، وهو ما يظهر بالفعل في كتابه (ترجمته لكتاب كريكتون أي النص الإنكليزي) الذي تشغل الرحلة الافتراضية هذه فيه الفصول الطوال من ٥ إلى ١٦. وهذا الترتيب يريد، كما يقول هو نفسه، التوفيق بين النصين العربي والإنكليزي.
ولكن ماذا لو كان نصّ كريكتون الإنكليزي هو مجرّد تخيلات جميلة سطرها قلم روائي بارع؟ هذا ما لا يجيب عليه د. غيبة على الرغم من أنه هو نفسه يثير الشكوك حول مصداقية النص الإنكليزي هنا وهناك متناسيا حماسه له.
لو تركنا جانبا مقدمة د. غيبة وانصرفنا إلى مقدمة كريكتون، فإن البحث العلمي والتاريخي فيها يختلط بخيال الروائي. ففي مقطع طويل عنوانه (مصدر المخطوطة) لا ندري فيما إذا كان يتحدث ثانية عن أعمال المستشرقين الذين يترجمون فصول رسالة ابن فضلان التي نقلها لنا ياقوت، أم عن مخطوط أصلي لابن فضلان. هذا الالتباس مدوّخ بالفعل. ولولا ضيق المساحة والخشية من التطويل لناقشنا كل فقرة من فقرات هذا المقطع. سأتوقف عند البعض منها فحسب:
بعد حديث كريكتون عن مقاطع رسالة ابن فضلان في معجم ياقوت المترجمة مرارا، يقول لنا فجأة «واكتشف جزء آخر من المخطوط في روسيا عام ١٨١٧، ونشر باللغة الألمانية في أكاديمية سانت بطرسبورغ في عام ١٩٢٣. ويتضمن بعض المقاطع التي سبق نشرها من قبل ج. ل. راسموسن عام ١٩١٤، وقد استقى راسموسن عمله من مخطوط وجده في كوبنهاغن، ثم اختفى، ومن مصادر مشكوك بها. كما ظهرت في ذلك الوقت تراجم سويدية وفرنسية وإنكليزية، إنّما عرفت بعدم دقتها وخلوّها على ما يبدو من مادة جديدة» . إحدى الإشارات في هذا المقطع تشير إلى الورقتين المصورتين من النسخة الخطية التي اكتشفت في مدينة مشهد (طوس) الإيرانية التي تسلمهما المعهد الآسيوي للاستشراق في بطرسبورغ، في حين أن
1 / 20
مخطوط كوبنهاغن، كما يقول كريكتون نفسه، مشكوك به، والترجمات التي يذكرها غير دقيقة ولا تضيف جديدا. بعد ذلك مباشرة يقول: «واكتشف مخطوطان جديدان عام ١٨٧٨ في مجموعة التحف الأثرية الخاصة بسفير بريطانيا السابق في القسطنطينية، سير جون أمرسون.. وأحدهما لأحمد الطوسي ويعود تاريخه الموثوق لسنة ١٠٤٧ الميلادي، وهذا يجعله أقرب لمخطوط ابن فضلان الأصلي.. مع ذلك يعتبر الباحثون مخطوط الطوسي أقل وثوقا من جميع المصادر، ويتردد كثير من المؤلفين في قبول أعماله لكثرة ما فيه من الأخطاء الظاهرة والتناقضات بالرغم من أنه ينقل مقتطفات مطولة من ابن الفقيه الذي زار بلاد الشمال» . هذا المصدر، وعلى لسان كريكتون مشكوكبه أيضا، ولا يبدو البتة وهو ينقل نصا لابن فضلان وإنما يجمع أحاديث عن بلاد الشمال من مؤلفين مختلفين (ابن الفقيه مثلا كما يقول كريكتون نفسه) .
هنا يبدو كريكتون وهو يخلّط أشد التخليط رغم نبرته الواثقة ظاهريا. ثم يمضي للقول عن مصادر مخطوطاته: «ويقع تاريخ المخطوط الثاني لأمين الرازي بين عامي ١٥٨٥ و١٥٩٥ الميلاديين. وقد كتب باللغة اللاتينية وترجم مباشرة من النص العربي لمخطوط ابن فضلان كما يقول مؤلفه. ويتضمن مخطوط الرازي بعض النصوص عن أتراك الغزية وعدة مقاطع عن معارك مع «وحوش الضباب» التي لم يرد ذكرها في المصادر الأخرى» . وهنا يحتاج المرء لقليل من الذهن الصافي لكي يميز معاني الكلام في نصّ الروائي كريكتون، وهو أن الرازي ينقل (مقاطع فحسب من نص ابن فضلان) . هذا ما يقوله كذلك د. الدهان في هامش له أوردناه نحن في عملنا: «وأما في كتاب (هفت إقليم) للرازي فالتفصيل يزيد النص أهمية وقد نقل عن مخطوطة لابن فضلان ضاعت» . نص كريكتون نفسه يوحي بأن نص الرازي يتناول جملة من القضايا ولا يتعلق برسالة ابن فضلان لوحدها. ثمة إذن تخليط جديد.
ما تبقّى من تحقيقات كريكتون من طينة المنطق نفسه: جميع الأصول التي يستند إليها مشكوك بها أو أنها تتكلم عن بلاد الشمال استنادا إلى مصادر متعددة، لاتينية خاصة، وليس من مصدر وحيد واحد هو ابن فضلان. ربما ذكرت مصادر كريكتون ابن فضلان عرضا أو عبر مؤلف آخر يستشهد به ولكنّها ليس البتة مخطوطة أصلية
1 / 21
أخرى لرسالة الرحالة العربي غير التي نعرف، رغم أن كريكتون يريد الايحاء، بأسلوب ملتو، بأن عمله قائم على مخطوطة من مخطوطاتها. في هذا الإيحاء ثمة لعبة روائية بارعة، لا تمتّ بصلة للبحث الرصين. وهو ما يفعله كريكتون بمهارة فائقة أربكت د. غيبة وآخرين من أساتذة الجامعات (كالدكتور عبد الله إبراهيم) حتى حسب كلامه دقيقا وعلميا وموثقا.
لنقل في البدء كلمة عن الروائي: إنه الإمريكي (جون) ميكائيل كريكتون، روائي وسينمائي مولود سنة ١٩٤٢. أنهى دراسته في جامعة هارفارد، ثم تنقل بين دراسة الأنثروبولوجي والبيولوجي، وكرّس نفسه في نهاية المطاف للكتابة. أصدر العديد من الدراسات الأدبية وكتب العديد من الأفلام السينمائية التي أخرج أو أنتج قسما منها بنفسه. كما كتب العديد من الروايات الخيالية أو المستمدّة من مادة تاريخية وكان بعضها من الكتب الأكثر مبيعا في إمريكا:
The Andromeda Strain- ١٩٦٩
) و(The Terminal Man -١٩٧٢) وThe Great) وهي الرواية التي تعنينا هنا (Eaters of the Dead -١٩٧٦) و(Train Robbery -١٩٧٥ و-Rising Sun) و(Jurassic Park -١٩٩٠) و(Sphere -١٩٨٧) و(Congo -١٩٨٠) و(Airframe -١٩٩٦) و(The Lost World -١٩٩٥) و(Disclosure -١٩٩٣) و١٩٩٢) و، (Timeline -١٩٩٩) وغير ذلك «٦» .
يكتب كريكتون رواية تاريخية لا أكثر ولا أقلّ، ويشير إلى ذلك في الغلاف الثاني من كتابه. إنها رواية خيال Fiction تاريخية على نمط روايات أمين معلوف (ليون الإفريقي، على سبيل المثال) . لكن خلافا لمعلوف الذي يهتم كثيرا بالتفاصيل التاريخية ويصوغ وفق مخطط روائي متخيل، فإن كريكتون يجمع القليل جدا من التفاصيل المستلهمة عرضا عن بطله ابن فضلان، ويصوغ الباقي كلّه وفق مخطط روائي مختلق بالتمام.
على أنه يستخدم حيلة روائية مدهشة وهي أنه يكتب مقدمة تعريفية شبه جادة
1 / 22
عن ابن فضلان، ويعدّد فيها مصادره بطريقة جد غامضة توحي بأنه في صميم عمل تاريخي، كما يضع في ثنايا نصه الكثير من الهوامش التي تشرح طقسا أو تقليدا إسلاميا، مما يمنح القراءة بعدا جديدا يسعى عامدا إلى طمس الحدود بين المتخيل والواقعي.
هذه الحيلة الجميلة، لكن الخطرة، تسعى إلى اندغام لا فكاك منه بين الحقيقة والخيال، والإيحاء للقراء بأنّهم في صلب واقعة تاريخية لم يفعل هو إلا نقلها إليهم (وهو ما لم يقل كريكتون بعكسه للأسف الشديد حتى اللحظة) . حيلة روائي هوليوودي من طراز رفيع. لكن هذه الحيلة لم تفت على نقاده الإمريكيين الأكثر جدية الذين وصفوا العمل في الصحافة بأنه: «كتابة متخيلة لقصة مأخوذة من سفير عربي إلى بلاط الخليفة في بغداد» «٧» .
A Fictionalized account taken from the manuscript of an Arabic ambassador to the court of the Caliph of Baghdad.
إن أعمال الروائي هي على حد تعبير الناقد الإمريكي دافيد لانغران:David Lonergan الورقة تروي تعدد المعاني التي سعى الروائي ميكائيل كريكتون عبرها منح أعماله مظهرا غير متخيل. التقنيات الخاصة والناجحة المستخدمة في (أكلة الأموات) قد لوحظت.
The paper chronicles the Variety of means With which the novelist Michael Crichton has attempted to give his works the appearance of nonfiction. The
specific and successful techniques utilized in Eaters of the Dead are noted، and the resulting erroneous classifications by the Library of Congress and Subsequent cataloguers discussed.
لكن الحيلة فاتت على البعض الآخر منهم، ممن يضربون عميقا بالجهل بتاريخنا
1 / 23