عودة الروح ويقظة الإيمان
عودة الروح ويقظة الإيمان
প্রকাশক
دار السراج
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
জনগুলি
عودة الروح ..
ويقظة الإيمان
تأليف
مجدي الهلالي
অজানা পৃষ্ঠা
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٠هـ - ٢٠٠٩م
رقم الإيداع: ٢٢٠٤٩/ ٢٠٠٨
الترقيم الدولي: I.S.B.N
٩٧٧- ٤٤١- ٥٩٥ - ٧
دار السراج
توزيع
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الروح شيء عظيم من أمر ربي، ولذلك تقترن به الحياة، والإحساس والحركة، وتقترن به الحالة المعنوية للفرد، ومن ثمَّ الأمة.
فعندما تغيب الروح عن الفرد فإن الهزيمة النفسية ستلاحقه حتى تصيبه، وما أخطر تلك الهزيمة على الفرد، وما أشد ضررها على حاضره ومستقبله حين تستحكم حلقاتها حول عنقه!! .. وكيف لا وصاحبها يستسلم للواقع، وينكفئ على ذاته، ويبحث- عبثا- عما يلهيه، ويُنسيه أمر نفسه.
الهزيمة النفسية والإحباط يقتلان الطموح، ويجعلان الشعور باليأس يتسرب إلى كيان الإنسان فلا يجد للحياة طعمًا، ولا للمستقبل قيمة ولا وزنًا.
وعندما تُصاب الأمة بالهزيمة النفسية فإن مستقبلها لن يكون أفضل من حاضرها، بل قد يكون أشد قتامة وبؤسًا ..
ومما يدعو للأسف أن هناك آثارًا كثيرةً لهذه الهزيمة يلمسها المدققون والمراقبون لأحوال الأمة الإسلامية، فالانبهار بالغرب وحضارته، والتبعية شبه الكاملة له، وانطماس الهوية ... ما هي إلا بعض مظاهر تلك الهزيمة.
ومع قسوة الواقع إلا أن الأمل لا يزال موجودًا في أن تستعيد الأمة عافيتها، وتنهض من كبوتها: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧]، هذا الأمل يحتاج إلى صاحب عزيمة وقَّادة حتى يترجمه إلى واقع حيّ.
يحتاج إلى من يُوقِف نفسه لقضية إيقاظ الأمة وبث الروح فيها- بعون الله- ويصمم على ذلك تصميمًا عظيمًا لا تراجع فيه، مستصحبا هذا المعني من رسوله وقدوته محمد ﷺ عندما قال لعمه أبي طالب:
«يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته» (١).
فلماذا لا تكن أنت -أخي القارئ- ذلك الرجل؟
لماذا لا يعتبر كل منا نفسه مسئولًا عن نهضة الأمة، وعودة مجدها من جديد؟!
إياك ثم إياك أن تستصغر نفسك وتقول: أنا لا أصلح؛ فيقينا أنت تصلح لو صح عزمك وإرادتك .. أتدري لماذا؟!
لأن الأمر كله بيد الله، وهو وحده الذي يحرك الأحداث .. ينصر ويهزم .. يقدم ويؤخر .. يعطي ويمنع، وقد جعل- سبحانه- عطاءه لعباده مرتبطًا بصدقهم وقوة عزيمتهم وإرادتهم، كما قال ﷺ: «ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يَتَّق الشر يُوقَّهُ» (٢) وقال: «إن تصدق الله يصدقك» (٣).
إذن باستطاعتي، وباستطاعتك- بتوفيق الله تعالى- أن نكون ذلك الرجل، فإن كنت في شك من هذا فاقرأ معي صفحات هذا الكتاب.
* * *
_________
(١) السيرة النبوية لابن هشام ١/ ١٦١ دار التراث - القاهرة.
(٢) حسن، أخرجه الخطيب البغدادي عن أبي الدرداء، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٢٣٢٨)، والسلسلة الصحيحة (٣٤٢).
(٣) صحيح، أخرجه النسائي، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (١٤١٥).
1 / 2
لمن الخلق والأمر والتدبير؟!
أمر الله ﷿ موسى- ﵇ بالذهاب إلى فرعون وتبليغه رسالة فحواها: أنه سبحانه هو ربه، ورب كل شيء ومليكه، وهو وحده المستحق للعبادة، وأنه يكره الظلم والطغيان، وأيد الله- جل ثناؤه- موسى ﵇ بآية عظيمة تدل على صدقه، وأنه مبعوث من رب العالمين .. هذه الآية هي تحويل عصاه التي يتكئ عليها إلى حية عظيمة بإذن الله.
رأى فرعون الآية الكبرى لكنه لم يستسلم لله رب العالمين .. منعه الكبر، والخوف على مصالحه وامتيازاته التي توفرها له مكانته بين رعيته.
استشار بطانته في كيفية إبطال ما جاء به موسى- ﵇ فطرأت له ولهم فكرة اتهامه بالسحر، وراقت لفرعون الفكرة، وانساق وراءها، فطلب ممن حوله إحضار جميع السحرة لمنازلة موسى- ﵇ وإبطال سحره ﴿قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشعراء:٣٤ - ٣٧].
يأتي السحرة، ويجتمعون في مكان فسيح، وتخرج جموع الناس لمشاهدة هذا الأمر المثير، ويأتي موسى ﵇ ويطلب منهم أن يُظهروا ما عندهم من فنون السحر ...
يُلقي السحرة عصيهم وحبالهم، فإذا بها تبدو للناس وكأنها تتحرك ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ١١٦].
فماذا فعل موسى- ﵇ تجاه ما رآه وهو يعلم أن العصا التي معه يمكنها أن تتحول إلى حية عظيمة- بإذن الله- فتحطم سحرهم؟!
هل استهزأ بما فعلوه وقال لهم: سترون الفارق بين عصاي وعصيكم، وستعلمون من الأقوى، فالحية التي سترونها لا مثيل لها؟!
لا، لم يقل لهم هذا، بل قال لهم: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس: ٨١]. لقد قفز بهذه الجملة عبر كل الحواجز والمألوفات الأرضية، ووضعهم أمام الحقيقة الكبرى التي تقوم على أساسها السماء والأرض وما فيهن، فلن يُبطل السحر عصا أو حية، بل سيبطله الله ﷿ ..
نعم، هناك عصا ستتحول إلى حية بإذن الله، هذه الحية ستلتهم جميع الحيَّات المزيفة، ولكن كل هذا لن يتم إلا بأمر الله، وإمداداته المتوالية.
فجوهر الأمر أن الله ﷿ هو الفاعل، وأنه -سبحانه- هو الذي سيُبطل السحر، وما الحية، وما العصا إلا صور وأشكال لا قيمة لها بدون المدد الإلهي المتواصل.
لله الأمر جميعًا:
نعم، أخي، فالله ﷿ هو وحده الذي يملك هذا الكون كله ﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾ [المائدة: ١٢٠].
فكل ما تراه أمامك، وكل ما يوجد خلفك، وعن يمينك وشمالك فهو ملك ذاتي لله جل ثناؤه ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٩١].
﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [مريم: ٦٤].
ومع مُلكه لكل شيء فهو سبحانه المتصرف والمدبر لشئون جميع خلقه - صغيرها وكبيرها- وهو القائم على تربية جميع مخلوقاته بالإمداد والرعاية فهو: ﴿رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٦٤].
لا ينسى أحدًا من خلقه- حاشاه- وكيف ينساه ووجوده، ووجود جميع المخلوقات مرتبط به سبحانه، فإما الإمداد الإلهي المستمر للجميع وإلا فلا حياة ولا وجود ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [هود: ٦].
﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك: ١٩].
فكافة أمور الخلائق وما يستلزمها من مقومات الحياة والحركة والسكون، وما يتعلق بوجودها من علاقات متشابكة بين أنواعها المختلفة أو بين النوع الواحد .. كلها بيده سبحانه، هو الذي يدبرها ويتولى أمرها ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤].
1 / 3
﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠].
كل شيء في هذا الكون قائم به، يستمد احتياجاته منه سبحانه، فجميع إمدادات الخلائق في خزائنه وحده لا شريك له ﴿وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [المنافقون: ٧].
الإمداد بالنوم والاستيقاظ .. الشعور بالراحة أو التعب .. القيام أو القعود أو الجلوس .. الضحك أو البكاء .. الكلام أو الإنصات .. الشهيق أو الزفير .. الهضم أو الامتصاص أو التمثيل الغذائي .. كل هذا وغيره يستمد وجوده وفاعليته من خزائن الله، ولا يوجد أي مصدر آخر في هذا الكون يقوم بذلك ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر: ٢١].
عنده خزائن كل شيء:
عندما طلب الله ﷿ من الملائكة أن تخبره بأسماء الموجودات على ظهر الأرض كانت فحوى إجابتهم: كيف نخبرك بشيء لم تُعلِّمنا إياه ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢].
فالعلم لا يستمد إلا من خزائنه: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: ٦٨]. وأي فهم، أو حكمة، أو حجة تأتي على لسان أحد فمن عنده سبحانه:
- ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩].
- ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣].
- ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩].
وعندما أنزل الله ﷿ الملائكة تقاتل مع المؤمنين في بدر، وأنزل
كذلك النعاس والمطر، ذكَّرهم بأن هذه الأشياء لا تُحدث نصرًا بذاتها .. لماذا؟ لأن النصر لابد وأن يأتي من عنده سبحانه ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ - وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [الأنفال: ٩ - ١٠].
الدنيا كلها ظلمة، وأى نور فيها فهو مستمد من الله ﷿ "اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" [النور: ٣٥].
﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ [النور: ٤٠].
والرحمة التي ترى مظاهرها الكثيرة في الحياة .. كلها مستمدة من خزائن الرحمة الإلهية ﴿مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [فاطر: ٢].
قال ﷺ: «جعل الله الرحمة مائة جزء، أمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفَرَسُ حَافِرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (١).
حتى الرحمة التي كانت في قلب رسول الله ﷺ فهي مستمدة من خزائن الرحمة الإلهية ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران:١٥٩].
وأي جود، وأي كرم تراه في أحد فهو مستمد من خزائن الجود والكرم الإلهي .. جاء في الأثر: «أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم» (٢).
وكل آثار لقوة تراها في الحياة فهي مستمدة من خزائن الله ﴿لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ﴾ [الكهف: ٣٩].
وعندما قالت عاد ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ كان الرد الإلهي ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: ١٥].
_________
(١) رواه مسلم في كتاب التوبة (٦٩٠٦).
(٢) أورده ابن رجب في لطائف المعارف ص ١٨٣، دار ابن حزم - بيروت.
1 / 4
والشعور بالسكينة، والسلام مستمد من خزائنه ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: ١٨]، «اللهم أنت السلام ومنك السلام» (١).
والصبر من خزائنه: ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ﴾ [النحل: ١٢٧].
والثبات من عنده: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ﴾ [إبراهيم: ٢٧].
﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤].
والشفاء من عنده: «.. لا شفاء إلا شفاؤك» (٢).
والتقوى من عنده: ﴿وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
والتوبة في خزائنه: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: ١١٨].
والتوفيق من عنده: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ﴾ [هود: ٨٨].
والتيسير كذلك: «اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلًا» (٣).
والعزة كلها من عنده: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: ١٠].
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠].
فسبحان من بيده ملكوت كل شيء.
سبحانه، لا رب غيره، ولا إله سواه: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: ١٠٢].
هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نعتقدها ونوقن بها، ونشهدها، ونشهد بها ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨].
يدبر الأمور كلها:
الله ﷿ هو وحده الذي يدير هذا الكون ويتابعه .. يقدم ويؤخر .. يخفض ويرفع .. يقبض ويبسط .. يحيي ويميت.
لم يفلت منه سبحانه زمام الكون لحظة واحدة- حاشاه- ﴿هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة:٢٥٥].
أَزِمَّة الأمور كلها بيده ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الزمر: ٦٢، ٦٣].
فترتيب الأمور والأحداث، والعلاقات المتشابكة بين الأشخاص، ومقدار أرزاقهم المادية والمعنوية .. كل ذلك وغيره يتولى الله ﷿ تدبيره وترتيبه بما يناسب مصالح عباده ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: ١٢].
فعلى سبيل المثال:
هناك (مبلغ) من المال سيتقاضاه رجل (ما) نظير عمله بالتدريس في مدرسة من المدارس.
هذا المال الذي قدَّره له الله لن يبقى كله معه، بل سيتوزع أغلبه على العديد من الأشخاص قد يبلغون المائة؛ ما بين سائق، أو صاحب مطعم، أو بائع للصحف، أو صاحب مغسلة، أو مسكين، أو بائع أدوات منزلية، أو طبيب، أو صاحب صيدلية، أو ...، وكل واحد من هؤلاء له في علم الله نصيب محدد من هذا الراتب، وسيأخذه في وقت محدد لا يعلمه إلا الله.
هذه الترتيبات المرتبطة بالزمان والمكان .. الذي يديرها ويحرك الأحداث في اتجاه وقوعها في الزمان والمكان المقدر هو الله وحده لا شريك له.
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه البخاري ومسلم.
(٣) رواه ابن حبان في صحيحه (٢٤٢٧) وصححه عبد القادر الأرناؤوط في تخريج الأذكار للنووي.
1 / 5
هو الذي يوجه تفكير صاحب الراتب في وقت (ما) إلى الذهاب لمتجر (ما) لشراء شيء يُذكره به، ليقوم بتوصيل الرزق (المقدَّر) لصاحب المتجر في ذلك الوقت، ويشعر في وقت آخر بصداع وهو يسير في الطريق فيجد بالقرب منه صيدلية، فيدخلها ويشتري منها دواء ليقوم بتوصيل الرزق المقدر لصاحب الصيدلية في هذا الوقت.
يقف في الطريق العام ينتظر وسيلة مواصلات تنقله لمدرسته، وكلما مرت به مركبة لا يجد في نفسه رغبة لركوبها لأسباب مختلفة، حتى تأتي مركبة محددة -منذ الأزل- فيركب فيها ليتم تحصيل الأجرة منه، لتكون جزءًا مقَّدرًا من رزق صاحب المركبة عليه أن يُحّصله في ذلك الوقت.
وهكذا يتم توزيع الراتب على هؤلاء المائة- إن افترضنا أنهم مائة فقط- ووراء هؤلاء عشرات بل مئات يتولى الله ﷿ توزيع أرزاقهم، ويوجههم لجمعها من أفراد محددين ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٢].
وليس الرزق فقط الذي يتولى سبحانه تقديره بين الناس؛ بل كل ما يتعلق بتسيير حياتهم .. يكفيك أن تتذكر أن الله ﷿ يقبض جميع أرواح العباد عند النوم، ويعيدها لهم عند اليقظة، ولم يحدث -ولو مرة واحدة- أن حلَّت روح شخص في شخص آخر، وكيف يحدث هذا والله هو الذي يتولى هذا الأمر كما يتولى جميع الأمور ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: ٤٢].
هذا هو ربك الحي القيوم:
يروي أحد الأصدقاء أن أحد معارفه قابله وأعطاه مظروفًا به مبلغ من المال، وطلب منه أن ينفقه في أوجه الخير، ووضع صاحبنا المظروف في جيبه ثم افترقا، وبعد لحظات قابله صديق آخر بتلهف شديد، واشتكى له من ضائقة مالية شديدة ألمت به، وأخبره بأنه يريد على وجه السرعة قدرًا (محددًا) من المال حتى يتجاوز الضائقة، فتذكر صاحبنا المظروف الذي في جيبه، فأعطاه إياه وطلب منه أن يُحص ما فيه، وإذا بالاثنين يفاجآن!! فلقد كان المظروف يحتوي على المبلغ المطلوب دون زيادة أو نقصان ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٧].
وآخر يحكي بأنه صعد يومًا الحافلة وكانت مزدحمة، فلم يجد مكانا للجلوس، وكان يحمل على كتفه ابنته الصغيرة، وبينما المركبة تسير في طريقها، شرد ذهنه في الماضي، وتذكر خطأً جسيما ارتكبه في حق أحد الأشخاص منذ سنوات بعيدة، ولا يعرف كيف يصل إليه ليستسمحه، وتذكر يوم القيامة، والحساب والقصاص، فتأثر تأثرًا شديدًا، ودمعت عيناه، وبينما هو في هذه الحالة إذ بيد تمتد إليه من أحد الركاب الجالسين فتأخذ منه طفلته ليُجلسها بجواره، فالتفت صديقنا لصاحب اليد ليفاجأ بأنه هو ذات الشخص الذي كان يتذكره منذ لحظات ولا يدري كيف يصل إليه، فانتابته لحظة ذهول ثم أقبل عليه يستسمحه ويسترضيه.
وصديق آخر يروي أنه كان في يوم من الأيام نائمًا على أريكة، وفوق هذه الأريكة لوحة ضخمة معلقة على الحائط، وفي أثناء نومه انتبه وقام-تلقائيا- لينام على الأريكة المقابلة، ثم غط في نوم عميق، وبعد دقائق استيقظ على صوت ارتطام شديد بالأرض، فنظر أمامه والفزع يتملكه، وإذا باللوحة الضخمة قد سقطت على الأريكة التي كان نائمًا عليها ثم على الأرض ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢].
1 / 6
وفي أحد البلدان التي يضطهد فيها الدعاة إلى الله، وفي أثناء إحدى تلك المحاكمات الظالمة، أراد القاضي أن يستمع إلى أدلة الإثبات التي تُدين بعض الدعاة، وكانت من هذه الأدلة: تسجيلات صوتية لهم، فطلب القاضي إحضار جهاز التسجيل للاستماع لهذه التسجيلات المفتراة، وعندما جاءوه به طلب تجربة الجهاز أولًا، فبحثوا هنا وهناك حتى وجدوا (شريطا) مسجلًا عليه آيات من القرآن، فتناوله ووضعه في الجهاز، وضغط على زر التشغيل فإذا بصوت القارئ ينبعث من الجهاز، ويُجلجل في قاعة المحاكمة، وترن أصداؤه في جنباتها بقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ١٠٧]، فاضطرب القاضي ومن حوله وسارع بإغلاق الجهاز وهو في غاية التوتر.
والأمثلة كثيرة، وكلها تؤكد وتبرهن على أن لهذا الكون كله ربًا واحدًا، يديره، ويتابعه ويتعاهده، ويمده بما يقيمه ويصلحه ... لا يغفل عنه لحظة واحدة ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد: ٢].
قانون السببية:
ولكي يستطيع الناس ترتيب أمورهم في الحياة، فقد جعل الله ﷿ لها نظاما تقوم عليه، وقوانين تسير عليها، وجعل سبحانه هذا النظام يقوم على قانون السببية، بمعني أن الحصول على النتائج يأتي من خلال استخدام أشياء- مادية أو معنوية- هذه الأشياء لا تُحدث بنفسها أية نتائج، ولكنها سبب وشكل وستار يتنزل عليه المدد الإلهي، فالماء جعله الله سببًا للإرواء، والطعام سببًا للشبع، والنوم سببًا للراحة ..، ولكن بدون المدد الإلهي المتواصل فلا قيمة لهذه الأسباب، فالماء سبب شكلي للإرواء، أما الذي يروي فهو الله ﷿، ولو لم تتنزل الفاعلية والإرواء من خزائنه- سبحانه- ما ارتوى الظمآن، وهكذا في بقيه الأمور، ويُجسّد هذا المعني بوضوح قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ١٤ - ١٥]، وقول جبريل ﵇ لمحمد ﷺ: «بسم الله أرقيك والله يشفيك» (١).
فله وحده الفاعلية المطلقة في هذا الكون، فهو سبحانه الذي يحملنا في البر والبحر والجو، وما السيارة، وما الطائرة، وما أرجلنا إلا أسباب شكلية لا قيمة لها بدون المدد الإلهي: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس: ٢٢].
تأمل معي قوله تعالى في بيان هذه الحقيقة في قصة نجاة نوح ﵇ من الغرق بعد ركوبه السفينة التي مكث طويلًا في بنائها: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر: ١٣].
نعم أخي هذه هي الحقيقة، فالذي حمل نوحًا- ﵇ هو الله، وما السفينة إلا ألواح خشبية ومسامير لا قيمة لها بدون المدد الإلهي ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس:٤١].
فإن كانت الحياة قائمة على قانون السببية، إلا أن الحقيقة التي لا مرية فيها هي أن الله ﷿ هو الذي يحرك كل شيء في هذا الكون، وهو الذي يُنشىء النتائج من خلال الأسباب، أو بدونها ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة: ٥٢].
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧].
_________
(١) رواه مسلم.
1 / 7
كل شيء بأمره وإمداده:
هذه- إذن- حقيقة الحياة، فكل ما يوجد في جسدك- أخي- من إمكانات وقدرات، لا قيمة لها لو تخلى الله عنها ولم يمدها بفاعليتها لحظة بلحظة، وآنًا بآن، فالأحبال الصوتية التي خلقها الله ﷿ كسبب للنطق، لا يمكنها أن تتحرك حركة واحدة إلا إذا جاءها المدد من الخزائن الإلهية ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر: ٢١]، وانقباض العضلات وانبساطها والحركة والعدو والرمي يتم بإمداده ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧].
حتى الضحك والبكاء ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم: ٤٣].
فما من حركة في هذا الكون إلا والله من ورائها ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ [الحشر: ٥].
ولا مثقال ذرة:
يقينا لا توجد مثقال ذرة في هذا الكون يمكن لها أن تتحرك بذاتها دون إمداد من الله .. انظر مثلًا إلى النبات واقرأ هذه الآية التي تؤكد على أن الله تعالى قائم عليه في كل مرحلة من مراحل نموه يبث فيه الفاعلية وينقله من طور إلى طور: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا﴾ [الأنعام: ٩٩].
وتأمل في الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان وكيفية انتقاله من مرحلة إلى مرحلة ليزداد يقينك بهذه الحقيقة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٤].
نعم، أخي، هذه هي حقيقة الوجود ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ - أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ - لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ - إِنَّا لَمُغْرَمُونَ - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ - أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ - لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ - أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ - أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ - نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: ٦٣ - ٧٤].
حقيقة الربانية:
هذه الحقيقة كانت تهيمن على رسول الله ^ في كل أموره وأحواله، وكانت تصبغ كلماته وتوجيهاته لأصحابه ولأمته من بعده.
فكان ﷺ إذا غزا قال: «اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» (١).
وكان يقول: «إنما أنا مبلغ والله يهدي، وإنما أنا قاسم، والله يُعطي» (٢).
ويقول: «ما أوتيكم من شيء، ولا أمنعكموه، إن أنا إلا خازن أضع حيث أُمرت» (٣).
_________
(١) صحيح، رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (٤٧٥٧).
(٢) صحيح، رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (٢٣٤٧).
(٣) صحيح، رواه الإمام أحمد أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (٥٥٦٦).
1 / 8
وعندما قال له البعض: يا رسول الله غلا السِّعر، فَسَعِّر لنا، فقال: «إن الله تعالى الخالق، القابض، الباسط، الرزاق، المُسَعِّرُ ..» (١).
فإذا ما نظرنا لجيل الصحابة- رضوان الله عليهم- نجد أن هذا المعني كان حاضرا في حياتهم بشكل أساسي، فهذا أنس بن النضر ﵁ يقول لرسول الله ﷺ بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلته المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين، ليرىن الله ما أصنع» (٢)
وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي وهو يقص على من حوله قصة إسلامه، وكيف أنه بعد أن ذهب إلى مكة وحذره المشركون من سماع محمد ﷺ حتى لا يفتنه، ويسحره بكلامه، فيقول: فوالله ما زالوا يحدثوني في شأنه، وينهوني عن أن أسمع منه، حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلا وأنا ساد أذني.
قال: فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفا- أي قطنا- ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله ﷺ قائمًا في المسجد، فقمت قريبا منه، وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله (٣) ...
وعندما خرج عبد الله بن عتيك في سرية مع بعض الصحابة لقتل اليهودي
أبي رافع- سلام بن أبي الحقيق- في حصن خيبر، ودخل ابن عتيك الحصن، ووصل إلى أبي رافع وقتله، ثم عاد إلى أصحابه يبشرهم، ويحثهم على سرعة الخروج من المكان إذا به يقول لهم: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع (٤).
وهذه زنيرة الرومية يعذبها أبو جهل وعمر بن الخطاب- قبل إسلامه- حتى فقدت بصرها، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى هما اللذان أذهبا بصرك، فماذا قالت له وهي في هذه الحال الصعبة التي قد تفتن أقوى الأنفس؟؟
قالت: «وما تدري اللات والعزي من يعبدها، ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري» وبالفعل رد الله بصرها، فقالا: لقد سحرها محمد.
وهذه حفصة ﵂ تقول: سمعت عمر بن الخطاب ﵁ يقول: «اللهم قتلًا في سبيلك ووفاة ببلد نبيك ﷺ» قالت: فقلت: وأنَّي يكون هذا؟! قال: يأتي به الله إذا شاء (٥).
هل نترك الأسباب؟!
ليس معنى أن الله ﷿ هو الذي يبث الفاعلية في الأسباب، وأنها لا قيمة لها بدون إمداده أن نترك الأخذ بالأسباب، ونتجه مباشرة إلى الله ﷿ من أجل الحصول على النتائج، فهذا لا يجوز ولا يصح، لأنه- سبحانه- لو أراد منا ذلك ما خلق الأسباب، وما أمرنا بالأخذ بها، ولئن كانت الأسباب لا قيمة لها بدون الله، إلا أنها تُعد بمثابة الستار الذي يتنزل عليه أمر الله وقدره، وعلى المسلم أن يقيم هذا الستار بالقدر المتيسر والمتاح أمامه.
ومع أخذ المسلم بالأسباب، وإقامته لهذا الستار إلا أنه لا ينبغي عليه الركون إليها، أو الاعتماد عليها في حصول النتائج، وإلا تحول هذا الستار إلى جدار يحجبه عن الله.
انظر إليه ﷺ وهو يوجه صاحب الناقة إلى ربطها -كسبب لعدم شرودها- ويوجهه كذلك إلى التوكل على الله في إنجاح هذا السبب فقال له: «اعقلها وتوكل» (٦).
وتأمل ما حدث للصحابة وقد نفد ماؤهم وأرادوا الوضوء والشرب فذهبوا إلى رسول الله ﷺ يخبرونه بذلك .. فماذا فعل ﵊؟
_________
(١) صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (١٨٤٦).
(٢) أخرجه البخاري.
(٣) المعجزة القرآنية لمحمد حسن هيتو ص٤٠ نقلا عن سير أعلام النبلاء.
(٤) السيرة النبوية لعلي الصلابي ٢/ ٤١٨.
(٥) حياة الصحابة ١/ ٣٨٨، ٣٨٩.
(٦) حسن، رواه الترمذي عن أنس، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح (١٠٦٨).
1 / 9
طلب منهم إحضار ما تبقى عندهم من ماء، ثم وضع فيه أصابعه الشريفة، فنبع من بينها الماء ليشرب الجميع ويتوضأ (١).
فهنا استنفد ﷺ الأسباب الموجودة، وشكَّل الماءُ القليل «الستار» الذي تنزّل من خلاله المدد الإلهي.
فعلينا- إذن- أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المتاحة أمامنا، مع يقيننا بأنها لا تفعل شيئًا بذاتها، فالفاعل هو الله، وإنما نأخذ بها لأننا مأمورون بذلك.
التوكل وإنجاح الأسباب:
ويؤكد على هذا المعني محمد عبد الله دراز- ﵀ في تعليقه على اتخاذه ﷺ الزاد وهو ذاهب للتعبد في غار حراء فيقول: وفي هذا بيان للسنة النبوية في اتخاذ الزاد والعمل بالأسباب، وأن التوكل على الله ليس في ترك الأسباب التي وضعها الله، بل التوكل هو تفويض الأمر إلى الله في إنجاح هذه الأسباب، لأنها لا نُجح لها من طبيعتها، وإنما نجحها بتوفيقه وتيسيره، لا رب غيره (٢).
فالمؤمن يجمع بين الأمرين -كما يقول ابن القيم- يجرد عزمه للقيام بالأسباب حرصًا واجتهادًا، وَيُفرِّغ قلبه من الاعتماد عليها، والركون إليها، تجريدًا للتوكل، واعتمادًا على الله وحده، وقد جمع النبي ﷺ بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح حيث يقول: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجَزْ» فأمر ﷺ المؤمن بالحرص على الأسباب، والاستعانة بالمسبب، ونهاه عن العجز، وهو نوعان: تقصير في الأسباب، وعدم الحرص عليها، وتقصير في الاستعانة بالله، وترك تجريدها (٣).
وخلاصة القول أن الذي يدير الكون ويتعاهده ويتابعه هو الله وحده لا شريك له، وأنه سبحانه هو الذي أمرنا باتخاذ الأسباب دون الركون إليها أو التعلق بها.
الإمداد على قدر الاستعداد
الله ﷿ هو رب كل شيء ومليكه، ومدبر أمره .. هذه هي الحقيقة التي يقوم عليها الوجود كله.
أما الإنسان- أي إنسان- فهو مخلوق من مخلوقات الله، حياته كلها متعلقة بإمدادات ربه إليه، ولو تركه لحظة واحدة لتوقف فيه كل شيء.
والإنسان إذ يعيش في الحياة بفضل إمدادات ربه؛ فإنه- يقينا- لا يقدر على فعل أي شيء- مهما صغر- إلا إذا أذن له الله بفعله، وفتح له خزائنه.
لذلك كان من الضروري أن نُقَدِّم المشيئة الإلهية عند العزم على فعل أي شيء.
نُقَدِّمها ونحن على يقين بأن الأمر كله لله ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
ولئن كان الله ﷿ قد خاطب رسوله محمد ﷺ وهو سيد البشر- قائلًا: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨]، فماذا عن بقية البشر؟؟
هل يمكن أن يكون لأحد منهم صلاحية أو قوة ذاتية في هذا الكون؟! ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
فالله ﷿ هو خالق كل شيء، وهو ربه يمده بما يحتاجه، وما الإنسان إلا مخلوق صغير ضئيل في هذا الكون الرحيب، لا يمكنه- بمفرده- أن يُنفذ إرادته، فإرادته لا تنفذ إلا من خلال موافقة الله على إنفاذها، ومن ثمّ إمداده بما يظهرها .. من هنا ندرك بعضا من معاني قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: ٣٠].
وقوله: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [المدثر: ٥٦].
_________
(١) حديث نبع الماء من بين أصابعه ﷺ رواه البخاري وغيره.
(٢) كنوز مختارة من السنة ص ١٦ لمحمد عبد الله دراز، دار القلم- الكويت.
(٣) تهذيب مدارج السالكين ص ٦٤٠.
1 / 10
فلو حشد المرء ما يمكن حشده من أسباب فلن يصل إلى النتيجة المتوقعة لها إلا إذا أَذِن الله وفتح له خزائن ذلك ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: ١١١].
وعندما قام نبي الله يوسف- ﵇ بتدبر أمر الحيلة التي من خلالها كان ينوي استبقاء أخيه معه، ونجح في ذلك، نجد التعقيب القرآني يُذكِّر بحقيقة الأمر وبأن ما حدث فإنما حدث بإذن الله ومشيئته وإمداده حتى يرسخ المعنى في الأذهان ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [يوسف: ٧٦].
العجز والفقر الذاتي:
والمتأمل لسير الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم أكمل البشر، نجد أنهم كانوا يعيشون في حقيقة عجزهم وفقرهم الذاتي والمطلق لله ﷿، فهذا شعيب- ﵇ يقر بها عندما يخيره قومه بين العودة إلى ملتهم أو إخراجه ومن معه من قريتهم، فيرد عليهم قائلًا: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ - قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: ٨٨، ٨٩].
وبمثل هذا أجاب إبراهيم- ﵇ قومه في حواره معهم: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾
[الأنعام: ٨٠].
وكذلك كان حال موسى- ﵇ عندما أخذته ومن معه الرجفة ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ [الأعراف: ١٥٥].
وكان رسولنا محمد ﷺ يعيش بكيانه كلّه في هذه الحقيقة .. فهذا عبد الله بن حوالة الأزدي ﵁ يقول: بعثنا رسول الله ﷺ لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئًا، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال:
«اللهم لا تكلهم إلىَّ فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» (١).
أين حرية الاختيار؟!
فإن قلت: وأين حرية الاختيار؟ وأين الإرادة الحرة التي أتاحها الله للإنسان والتي على أساسها يترتب الثواب والعقاب؟!
نعم، أتاح الله ﷿ للإنسان حرية الاختيار (٢)، إلا أن الذي يترجم ويُفعِّل اختياراته هو الله ﷿ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: ١٠٢]، بمعني أن العبد له أن يختار ما يريد فعله بإرادته الحرة، ولكن الذي يمكنه من ترجمة هذا الاختيار إلى أرض الواقع هو الله ﷿.
* * *
_________
(١) أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم.
(٢) (*) أتاح الله ﷿ للإنسان حرية الاختيار في الأمور التي سيحاسبه عليها والتي سماها العلماء (الإرادة الشرعية)، أما الأمور التي ليس للإنسان فيها اختيار كشكله، وطوله، وجنسه، ورزقه .. فسميت (الإرادة الكونية).
1 / 11
كيف نستجلب الإمداد الإلهي؟
الإنسان مخلوق عاجز وفقير فقرًا ذاتيًا ومطلقًا، لا يملك مقومات تسيير شئونه بنفسه، بل يحتاج إلى ربه وإلي إمداداته المتوالية لترجمة اختياراته وإقامة حياته .. هذه هي الحقيقة .. ليبقى السؤال عن كيفية استجلاب هذه الإمدادات؟
الإجابة عن هذا السؤال أجملها الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم» (١).
(فاستهدوني .. فاستكسوني .. فاستطعموني) كلها كلمات تدل على تمكن الرغبة ممن يطلبها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التاء في هذه الكلمات -كما يقول أهل اللغة- للطلب، بمعني أنكم إذا أردتم الهداية أو الطعام أو الكسوة فاطلبوها من الله، فعلى قدر عزمكم وحرصكم على تحصيلها يكون إمداد ربكم إليكم .. فالإمداد على قدر الاستعداد.
ما هو العزم؟
فإن قلت: ولكن ما هو العزم؟! هل هو كل ما يفكر فيه الإنسان ويُحدِّث به نفسه؟
أجاب العلماء عن هذه الأسئلة وقالوا بأن ما يدور داخل الإنسان إما أن يكون هاجسًا، أو خاطرًا، أو حديث نفس، أو همّا، أو عزمًا.
فالهاجس هو بداية التفكير بصورة عامة، فإذا اتجه التفكير إلى شيء بعينه سُمّي: (خاطرًا)، فإذا قلَّب الإنسان فكره في هذا الشيء من داخله وباطنه سُمّي (حديث نفس)، فإذا تحركت إرادة الإنسان إلى فعل شيء ما سمي: (همّا)، لأن الهم هو ترجيح قصد الفعل بأن يميل إلى الشيء ولا يصمم على فعله. والهاجس والخاطر وحديث النفس لا إثم على صاحبه ما لم يتحدث أو يعمل به كما في الحديث «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل» (٢).
(والهمّ) يماثل الثلاثة السابقة في رفع الإثم والمسئولية عن صاحبه ما لم يقل أو يعمل، ويفوقها في إثبات الثواب لصاحبه كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن (هَمّ) بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن (همّ) بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة».
أما (العزم) فهو فوق (الهم)، وهو أعلى مراتب القصد، وهو العقد القلبي الذي يتقرر على أساسه القول والعمل، لذلك كان (العزم) أول درجات المسئولية قبل القول والعمل، ويترتب عليه الثواب والعقاب (٣).
أي أن العزم هو الحرص والتصميم الجازم على فعل شيء ما.
وقد سُئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد (بالهمة)، قال: إذا كانت عزما أُوخِذ (٤).
والنية: هي القصد، أي عزم القلب على أمر من الأمور .. وعلى ذلك فهي أقرب لمعني العزم، لذلك كان من شروط التوبة النصوح: العزم، أي التصميم الجازم أن لا يعود إلى فعل المعصية التي ارتكبها.
أولوا العزم:
إذن فالمطلوب من العبد العزم والإصرار على فعل الخير ليكون المدد من الله ﷿ على قدر هذا العزم، ويتفاوت العزم من شخص لآخر، ولقد وصل نفر قليل من البشر لأعلى درجات العزم على فعل ما يرضي الله ﷿ من الاستقامة على أمره، ودعوة الخلق إليه، مع الاستعداد لتحمل أشد الصعوبات وأقسى الآلام في سبيل ذلك، وهؤلاء هم الذين سماهم الله ﷿ «أولوا العزم من الرسل» وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:٣٥]. فالإمداد على قدر الاستعداد .. تأمل قوله تعالى عن إبراهيم ﵇ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء:٥١].
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه البخاري ومسلم.
(٣) في الفقه الإسلامي المعاصر د. عبد الستار فتح الله سعيد ص ٣٣، ٣٤، دار القلم، نقلا عن الموسوعة الفقهية مجلد ٣٠ بحث العزم ص٨٨.
(٤) المصدر السابق.
1 / 12
فحجر الزاوية -إذن- في قضية الإمداد هو العزم والتصميم، لذلك أوضح القرآن أن أهم أسباب مخالفة أبينا آدم- ﵇ وأكله من الشجرة التي نُهي عنها هو قلة عزمه في ذلك ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: ١١٥].
عزم الأمور:
وإن كانت قوة العزيمة تختلف من شخص لآخر، فإن الأمور كذلك تختلف في قدر العزيمة المطلوبة لبلوغها، فهناك أمور تحتاج إلى عزيمة شديدة مثل ما ذكر في قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٦]، وقوله تعالى على لسان لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧] وقوله: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤٣].
فالصبر من الأمور التي تحتاج إلى عزيمة شديدة، فمع أنه- كغيره- يتنزل من عند الله ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ﴾ [النحل: ١٢٧]، إلا أنه يحتاج إلى عزيمة شديدة من العبد لكي يتنزل عليه من الخزائن الإلهية كما فعلت البقية الباقية مع طالوت عند مواجهة جالوت وجنوده ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: ٢٥٠، ٢٥١].
البداية من العبد:
إذن فالبداية منك أيها الإنسان .. لا تلم أحدًا على تقصيرك .. على مستواك .. على عدم نجاحك .. فالإمداد على قدر الاستعداد، فمن يرد شيئًا ويصمم على بلوغه يصل إليه .. لا، لا، بل يوصله الله إليه ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨].ويؤكد على هذا المعني قوله ﷺ: «.. ومن يتحر الخير يُعطه، ومن يتق الشر يُوَقَّه» .. والمتأمل للحديث من أوله يجده يدور في نفس المعنى (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يُعطه، ومن يتق الشر يُوَقَّهَ) (١).
فالتاء هنا للطلب- كما أسلفنا- أي أن الذي يريد العلم عليه أن يطلب ذلك، ويعزم عليه فُيعلِّمه الله، والذي يريد الحلم عليه أن يعزم عزيمة صادقة على بلوغه، فيرزقه الله الحلم، وهكذا في كل الأمور مثل العفة والصبر .. ففي الحديث «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله ..» (٢).
فلو أراد (متخاصمان) الصلح بصدق وعزما على ذلك، أصلحهما الله ﴿إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: ٣٥].
ومَن يُرد الهداية بصدق يهده الله ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ [الجن: ١٤].
والذي لا يريد الهداية لا يهديه الله ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ﴾ [التغابن: ٦].
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: ٨٦].
_________
(١) حسن، أخرجه الخطيب البغدادي عن أبي الدرداء وحسنة الألباني في صحيح الجامع (٢٣٢٨) والسلسلة الصحيحة (٣٤٢).
(٢) متفق عليه، البخاري (٦٤٧٠)، مسلم (١٠٥٣).
1 / 13
والذي يريد أن يدعو الناس إلى الله ويحببهم فيه، عليه أن يعزم عزيمة صادقة ويشتد حرصه على ذلك .. جاء في الأثر: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبني، وحببني إلى خلقي، ولا تستطيع ذلك إلا بي، ولكن إذا رأيتك حريصًا على ذلك أعنتك عليه (١).
والذي استدان من شخص (ما) مبلغا من المال، وهو في قرارة نفسه ينوي بصدق ويعزم على أدائه، رزقه الله ما يسد به دينه، كما في الحديث «من كان عليه دين ينوي أداءه كان معه من الله عون، وسبَّب الله له رزقا» (٢).
عزيمة امرأة:
عندما صدق عزم امرأة عمران في أن يكون الجنين الذي تحمله في بطنها لله، وألا يكون فيه أي حظ من حظوظ النفس، كافأها الله ﷿ بولادة مريم الصديقة، والتي أصبحت بعد ذلك أمًّا لرسول الله عيسى ﵇ ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ - فَتَقَبّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٥ - ٣٧].
إن تصدق الله يَصدُقُك:
جاء رجل من الأعراب إلى النبي ﷺ، فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصي به النبي ﷺ بعض الصحابة، فلما كانت غزوة (خيبر) غَنِم رسول الله ﷺ شيئًا، فقسَم، وقسَم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ، فأخذه فجاء به إلى النبي ﷺ فقال: ما هذا؟ قال: «قَسَمْتُه لك»
قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرْمي إلى ههنا- وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة.
فقال: «إن تصدق الله يصدقك»، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به النبي ﷺ يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار.
فقال النبي ﷺ: «أهو هو»؟
قالوا: نعم، قال: «صدق الله فَصَدَقه»، ثم كفنه النبي ﷺ في جُبَّة، ثم قَدَّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتل شهيدًا وأنا شهيد على ذلك» (٣)
أرأيت- أخي- ماذا قال رسول الله ﷺ للأعرابي: «إن تصدق الله يصدقك» نعم، فهذا هو مفتاح الوصول إلى المعالي: صدق الإرادة والعزيمة، ولقد كان الرجل بالفعل صادقًا فيما طلبه، فحرك الله ﷿ الأحداث في اتجاه تحقيق مقصده ليس بالموت شهيدًا فقط، ولكن بأن يموت بالطريقة التي عزم عليها وتاقت لها نفسه ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: ٢١].
أصدق الله فيه:
وتنقل لنا كتب السيرة في قصة إسلام أسيد بن حضير، أن أسيدًا دخل غاضبًا يحمل حربته، ويريد شرًا بمصعب بن عمير، وعندما رآه أسعد بن زرارة على هذه الحال قال لمصعب: ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه، وأرجحهم عقلا: أسيد بن حضير، فإن يُسلم يتبعه في إسلامه خلق كثير، فاصدق الله فيه. فلما صدق (مصعب) الله في (أسيد): فتح الله قلب أسيد، وانشرح صدره، وانفرجت أساريره، ودخل في الإسلام (٤).
_________
(١) استنشاق نسيم الأنس لابن رجب ص ١٢٧ - مكتبة الخاني- الرياض.
(٢) السلسلة الصحيحة (٢٨٢٢).
(٣) أخرجه النسائي (١٩٥٢) باب الجنائز.
(٤) السيرة النبوية لابن هشام ٢/ ٢٧٤، ٢٧٥.
1 / 14
الخليفة الخامس:
عندما تولى عمر بن عبد العزيز إمارة المؤمنين عزم أن يسير بالأمة بسيرة الخلفاء الراشدين، ويعيدها إلى ما كانت عليه، وذلك بعد سنوات طويلة من انقضاء تلك الخلافة الراشدة، وما حدث بعدها من بعض الانحرافات، والمظالم التي أبعدت الأمة عن النهج القويم.
لقد عزم عمر على هذا ولا يملك سوى هذا العزم الصادق، فالأجواء المحيطة به لم تكن لتشجعه على هذا، وأعوانه لم يكونوا آنذاك كأعوان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- ﵃ أجمعين-، لكنه صدق في عزمه، وأرسل رسالة إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب يطلب منه أن يرسل له كل ما عنده من سيرة جده عمر بن الخطاب من أقضية وسنن حتى يسير على هديه، فكان مما كتبه له: «أما بعد، فإن الله ﷿ ابتلاني بما ابتلاني به من ولاية أمر المسلمين عن غير مشورة مني ولا طلب، فأسأل الله الذي ابتلاني بهذا الأمر أن يعينني عليه، فإذا جاءك كتابي هذا، فابعث لي بكتب عمر بن الخطاب، وأقضيته وسيرته، فإني عازم على أن أتبع سيرته، وأسير على نهجه إن أعانني الله على ذلك، والسلام».
فأرسل إليه سالم بن عبد الله برسالة تؤكد له المعني الذي تتحدث عنه هذه الصفحات، بأن الأمر وإن بدا صعبا إلا أن صدق العزم يذلل جميع الصعاب وكيف لا والذي يحرك كل شيء هو الله، والله يريد منا صدق العزم ليحقق لنا ما نريد، حسبما تقتضيه حكمته وعلمه المحيط جل شأنه.
يقول سالم في رسالته لعمر:
«أما بعد، فقد جاءني كتابك الذي تذكر فيه أن الله ﷿ ابتلاك بإمرة المسلمين من غير طلب منك ولا مشورة، وأنك تريد أن تسير بسيرة عمر، فلا يَفُتْك أنك في زمان غير زمان عمر، وأنه ليس في رجالك من يماثل رجال عمر، ولكن اعلم أنك إن نويت الحق وأردته، أعانك الله عليه، وأتاح لك عمالا يقومون لك به، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب، فإن عون الله للعبد على قدر نيته، فمن تمت نيته في الخير تم عون الله له، ومن قصرت نيته نقص من عون الله له بقدر نقص نيته» (١).
ولقد كان عمر بن العزيز صادقا فيما ادعى، وكان عزمه أكيدًا، فماذا حدث؟
لقد أعاد الله ﷿ به الأمة إلى ما كانت عليه في السابق حتى سماه العلماء والمؤرخون «الخليفة الخامس» .. كل ذلك حدث في زمن قياسي في نحو سنتين .. فماذا تقول بعد ذلك؟!
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
قصة الطالب والمسألتين:
ينقل لنا د. توفيق الواعي في كتابه «الإيمان وإيقاظ القوي الخفية» قصة عجيبة تؤكد المعني الذي نتحدث عنه من أن العزيمة الأكيدة هي مفتاح الوصول للمعالي .. يقول:
هناك قصة لشاب غفا أثناء حصة الرياضيات، واستيقظ على صوت جرس انتهاء الحصة، ونظر إلى السبورة وقام بكتابة المسألتين الموجودتين فوقها، وقد افترض أنهما الواجب المدرسي لهذا اليوم، فعاد إلى البيت وأخذ يجتهد طيلة النهار والليل لحلهما. .. لم يستطع الشاب حل أي منهما، إلا أنه واصل المحاولة بقية الأسبوع، وفي نهاية الأمر، استطاع حل إحداها وذهب بها إلى الفصل، فلما رآها المدرس أصيب بالذهول فقد اتضح أن المسألة التي قام بحلها كان المفترض عدم وجود حلًّ لها (٢)، وكان المدرس قد كتبها على السبورة من باب تعريف الطلاب ببعض المسائل التي لم يتوصل أحد إلى حلها.
دواؤك فيك وما تُبصر ... وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جِرْم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
* * *
_________
(١) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين لمصطفي أبو المعاطي ١/ ٢٢٤، ٢٢٥، زهرة المدائن - المنصورة- نقلًا عن طبقات ابن سعد.
(٢) الإيمان وإيقاظ القوي الخفية د. توفيق الواعي ص ٤٨ - دار البحوث العلمية- الكويت.
1 / 15
الهزيمة النفسية وغياب الروح
عندما ننظر إلى واقع الأمة الإسلامية نجد أنها في أشد حالات الضعف والتخلف، وليس هذا فحسب، فالضعيف يمكنه أن يقوى، والمتخلف عن الركب يمكنه اللحاق إن عزم على ذلك، ولكن الأخطر من حالة الضعف التي تمر بها الأمة هو تسرب الشعور باليأس من إمكانية النهوض، وشيوع ثقافة الإحباط والهزيمة النفسية بين غالبية أفراد الأمة.
ولقد تفنن أعداء الإسلام في ابتكار الوسائل التي تحطم معنويات المسلمين، وتُشعرهم باليأس، وتجعلهم يفقدون الأمل في عودة مجد الإسلام من جديد.
فمن تلك الوسائل تسريبهم المعلومات عن خططهم للسيطرة على بلاد الإسلام، وكشفهم للطرق التي يستخدمونها لإذلال المسلمين مع إدراكهم عدم قدرتهم للرد عليهم فتكون النتيجة: مزيدا من الانكسار الداخلي في النفوس، ولعلنا نتذكر تلك الصور التي نشرتها وسائل الإعلام بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، والتي تبين حجم التعذيب والإهانة وإهدار الآدمية التي تعرض لها أهل العراق المسلمون فيما سمي وقتها بفضيحة (سجن أبو غريب)، ولا يخامرني شك في أن نشر هذه الصور بهذه الطريقة كان متعمدًا - إلى حد كبير- ليخدم بالدرجة الأولى مخطط أعداء الإسلام الذي يرمي إلى إضعاف الروح المعنوية للمسلمين، والعمل على تيئيسهم، ونشر الشعور بالإحباط بينهم، والدليل على ذلك تلك الحالة التي أصابت الكثير من المسلمين آنذاك والتي اضطرت بعضهم للذهاب إلى عيادات الطب النفسي للتخلص من الشعور بالكآبة والإحباط الذي أصابه.
الرسوم المسيئة:
أخي .. تصور معي هذا المشهد:
بينما رجل يجلس آمنًا في بيته بين زوجته وبناته، إذ بعصابة من المجرمين يقتحمون داره، ويلتفون حوله، وبعد تدافع بينهم يتمكنون من الإمساك به، وشدِّ وثاقه، لينتشروا بعد ذلك في بيته ويبدأون بالعبث في محتوياته، ثم إذا بأيديهم تمتد إلى زوجته وبناته وهو يصرخ ويصرخ ولا يستطيع أن يفعل شيئًا، ويشتد صراخه ولا مجيب، ثم يتركون النساء ويرتاحون قليلًا، ليعيدوا الكرة بعد ذلك فيصرخ ويصرخ ولكن ليس كالصراخ الأول فقد بدأت بوادر الهزيمة النفسية والانكسار تظهر عليه .. وبمرور الوقت يخفت صوته شيئًا فشيئًا حتى يتلاشى ..
هذا المشهد ينطبق إلى حد بعيد مع حال أمتنا وما يفعله بها أعداؤها.
ويكفيك تأكيدًا على هذا المعني ما حدث في موضوع نشر الرسوم المسيئة لرسول الله ﷺ، ففي عام ١٤٢٧هـ (٢٠٠٦م) نشرت جريدة في الدانمارك رسوما مسيئة للرسول ﷺ، فانتفض العالم الإسلامي وخرجت الجماهير الغاضبة في مظاهرات حاشدة تشجب وتندد، وعقدت المؤتمرات، وتوالت البيانات التي تستنكر الحدث و...، ثم هدأت العاصفة ..
وبعد قرابة العامين أعيد نشر الرسوم مرة أخرى في أكثر من جريدة دانماركية وأوروبية، فثار العالم الإسلامي مرة أخرى ولكن بصورة أقل بكثير من المرة الأولى، وهكذا ينجح أعداؤنا - ولو مرحليا - في تحطيم معنويات المسلمين، والدفع بهم نحو مزيد من الانكفاء على الذات والانغماس في الملهيات، وقتل الأمل في نفوسهم، وبذلك لا تقوم لهم قائمة، ولا يعلو لهم صوت، فهم يعلمون جيدًا أن الهزيمة النفسية هي أشد أنواع الهزائم فتكًا بالأمم والأفراد ..:
1 / 16
خطورة الهزيمة النفسية على الأمة:
إن أخطر مرض يمكن أن تصاب به أمة من الأمم هو اليأس والانكسار الداخلي ...
يؤكد على هذا المعنى محمد أمين المصري- رحمة الله- في كتابه (المسئولية) فيقول اليأس القتَّال، والخور المميت، والثقة المفقودة، كل هذه هي العدو الحقيقي، والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين، أما العدو الخارجي: الصهيونية، والصليبية، والدعوات الملحدة، فكلها أمرها يهون إذا استطعنا أن نغير ما بأنفسنا لنقر فيها معاني الإيمان، واليقين، والصبر، والجلد، والثقة، والعمل.
إن أكبر المصائب أن يصاب المرء في نفسه، ذلك أن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية تستطيع أن تجابه المصاعب وتصمد للشدائد.
ولقد بين الله تباركت أسماؤه بشأن يهود بني النضير حين غلبهم المسلمون أنهم لم يُؤتَوا لنقص في ذخيرتهم أو عددهم أو منعة حصونهم ولكن الله تعالى أصابهم بذنوبهم من داخلهم، إذ قذف الله في قلوبهم الرعب، فكان ذلك أكبر المصائب وكان العامل في تسليم ديارهم وتخريب بيوتهم ... قال تعالى: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ [الحشر: ٢].
ويستطرد قائلًا:
ولقد أُتي المسلمون اليوم من قبل أنفسهم، وقذف الوهن في قلوبهم ... قال أحد الباحثين المحدثين: إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط داخلية لا خارجية، وليس علينا أن نلوم العواصف حين تحطم شجرة نخرة في أصولها، إنما اللوم على الشجرة النخرة نفسها (١).
آثار الهزيمة النفسية على الفرد:
عندما تتمكن الهزيمة النفسية من فرد (ما) إثر فشله المتكرر في بلوغ هدفه، فإن الإحباط يتسرب إلى نفسه، واللامبالاة تسيطر على حركته.
تنحط اهتماماته، وينغمس فيما يشبع غرائزه وشهواته.
ينظر دوما إلى النصف الفارغ من الكوب ... يكثر من النقد للآخرين ... لا يحب الناجحين، ويعمل دوما على تشويه صورتهم والبحث عن نقائصهم.
كلامه بلا روح، وآراؤه انهزامية.
تسيطر على مخيلته أخلاط اليقظة، والأماني الكاذبة بالاشتهار بين الناس، وفعل الخوارق والمعجزات.
غياب الروح عن العاملين في حقل الدعوة:
الهزيمة النفسية لها آثار سلبية خطيرة على أي محيط تغزوه، ولقد تعرفنا في الأسطر السابقة على بعض مظاهرها عندما تنال من الفرد، فإن كان هذا الفرد يعمل في حقل الدعوة الإسلامية؛ كانت الآثار أخطر، وكيف لا، والدعاة إلى الله، والعاملون للإسلام هم قلب الأمة النابض؟!
ولعل من أبرز صور الهزيمة النفسية عند العاملين في حقل الدعوة: «غياب الروح».
فإن قلت: وهل يمكن أن تغيب الروح عن هؤلاء وهم الذين يقومون بأشرف مهمة، ويشكلون حائط الصد الأساسي لحماية الأمة؟
تغيب الروح عندما يضعف الإيمان في القلب: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد: ١٦].
مع الأخذ في الاعتبار أن تطاول الزمن دون تحسن للواقع بشكل ملحوظ، والحصار الطويل للدعوة، بالإضافة إلى إلف الأعمال الدعوية المتكررة لها أثر كبير في إضعاف الروح عند بعض العاملين.
_________
(١) المسئولية لمحمد أمين المصري ص ٨٤، ٨٥، دار الصفوة، القاهرة.
1 / 17
ولا يمكن إغفال التأثير السلبي لموجة المادية العنيفة التي تجتاح أمتنا، وما خلفته من آثار طالت الكثيرين، وغيرت بعض المفاهيم، ورفعت سقف الطموح الدنيوي عند أفراد المجتمع، فإذا ما انخرط الدعاة في المجتمع، وهم غير محصنين بالإيمان القوى، فإن آثار تلك الموجة ستصيبهم، ليزداد انجذابهم نحو الأرض والطين، فتضعف الروح، وتصاب العزائم بالوهن، ويصبح همُّ الواحد منهم هو كيفية تحصيل أسباب الحياة المريحة له ولأبنائه، وينعكس ذلك على محيطه الدعوى بالسلب، ليصبح أداؤه أداءً روتينيا يفتقد الحماس والروح، وستراه يتحين كل فرصة للهروب من القيام بأعمال الدعوة، فإن قام بعمل تجده يتحرك بلا روح، وإن تكلم فكلامه مكرر يفتقد الانفعال الصادق، ومن ثم لا تكاد تجد أثرًا إيجابيًا لكلامه أو حركته ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ [الكهف: ١٨].
وفي نفس الوقت سيؤدي غياب الروح وضعف الإيمان إلى شيوع ثقافة الانهزامية والرضا بالواقع، والانبهار بأي تجربة تنجح ولو نجاحا جزئيا في إبراز بعض المعالم الإسلامية وإن تخلت عن بعض ثوابت الدين، فالانبهار يعكس الضعف والوهن الذي أصاب القلوب وجعلها تستطيل الطريق وترضى بأي نجاح ولو كان زهيدًا.
وقد يؤدي غياب الروح عن البعض إلى محاولتهم فرض واقعهم على من حولهم، والاجتهاد في تبرير ما يفعلونه رافعين شعارات قد تقنع الآخرين وتدفعهم لتقليدهم في استرخائهم وانشغالهم بمصالحهم الشخصية على حساب العمل الدعوى، ومن هذه الشعارات «مصلحة الدعوة تقتضي ذلك»، «نحن جزء من مجتمع مريض»، «الزمان تغير ولابد من تغيير الوسائل» .. وغير ذلك من الشعارات التي يتم تأويلها على غير وجهها الصحيح، فيؤدي هذا إلى مزيد من الاستسلام للواقع، ومن ثم تزداد نسبة البطالة الدعوية، ويقل تدريجيا عدد من يحمل همّ الدين، ومن يعمل على إنقاذ نفسه والأمة من بعده.
الثكلى والمستأجرة:
عندما سأل أحد السلف أخاه قائلًا: ما لنا نذهب للاستماع إلى الحسن البصري فنتأثر بكلامه تأثرًا بالغًا، ونذهب إلى غيره فلا نشعر بنفس الإحساس والأثر، فأجابه بكلام بليغ يشرح بإيجاز الفارق بين من يعمل بروح ورغبة في نفع الآخرين، وبين من يعمل بلا روح ولا مشاعر، فقد قال له: «ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة».
ومع التأكيد على حرمة النياحة، إلا أن المعني الذي تشير إليه العبارة صحيحًا، ويشخص واقعًا موجودًا عند البعض.
فعندما تغيب الروح عن الفرد الذي يعمل في حقل الدعوة فإن أداءه يتحول من كونه صاحب دعوة يحمل همها، ويسعى لنجاحها وبلوغها الأهداف المطلوبة، إلى ما يشبه (المُسْتَأجر) أو (الموظف)، الذي يؤدي عمله بلا روح، وينتظر دومًا موعد الانصراف، ويفرح بأيام العطلات، ويحزن كلما زادت الأعباء عليه .. فأي خسارة تخسرها الدعوة حين يزداد عدد (الموظفين) فيها، ويقل عدد من يحمل همها بين جوانحه؟!
اصمت .. لا تتكلم!!
وكما أن غياب الروح، وشيوع ثقافة اليأس والانهزامية والانجذاب نحو الدنيا، والغرق في بحر الشهوات هو أخطر مرض يمكن أن يصيب الأمة، فإن غياب الروح عن أصحاب الدعوات وتبدل اهتماماتهم، وضعف إيمانهم، لمن أشد الأخطار عليها، وعلى مشروعها الرامي لاستئناف الحياة الإسلامية الصحيحة وكيف لا، وعدد الأيدي العاملة سيتناقص تدريجيا .. سيكثر الكلام والتخطيط والتنظير والجدال، وسيقل التطبيق والعمل، ناهيك عن أن الأعمال التي قد يؤديها البعض ستفتقد للروح، لتكون النتيجة: عمل بلا ثمرة، وجهد بلا أثر .. مجهود كبير يبذل وأثر غائب.
1 / 18
يقول سيد قطب: أيما داعية لا يصدق فعله قوله، فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة، فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل (١).
وللأستاذ محمد فتح الله كولن كلمات صريحة يوجهها للدعاة والعاملين للإسلام الذين يعانون من غياب الروح وضعف الإيمان فيقول مخاطبًا إياي وإياك:
عندما لا يحترق القلب شوقا، والذهن هما: فلا تتكلم، وإلا فلن تجد أحدًا يصغي إليك.
عندما لا يملؤك شعور بأن دعوتك هي قلب الكون، وروح الوجود، وأنها ميزان العالم، وصمام أمن وأمان له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كله؟!
عندما لا يلتهب في دمك عرق يدفعك لتحدي قدرات هي أعظم من قدراتك، وإمكانات هي أعظم من إمكاناتك، فكيف إذن ستصنع الأعاجيب؟!
عندما لا تشعر بمسئوليتك في إنقاذ الإيمان مما يحيق به من خطر عظيم في العالم كله، فكيف تريد إذن من هذا العالم أن يفتح أذنيه ليسمعك؟!
عندما تصاب الروح بالفتور، وتنخفض درجة حرارة القلب، ويخبو أوار الفكر، فأنت مُتوَعِّك روحيًا، فعليك أن تصمت؛ لأن الصمت هنا أبلغ من كل كلام ميت تقوله.
إن لم ترتب بيت نفسك أولًا فكيف تستطيع أن ترتب بيوت نفوس الآخرين (٢)؟!
البداية .. عودة الأمل:
فإن كان الأمر كذلك، وإن كانت الهزيمة النفسية، وغياب الروح من أشد الأمراض التي يمكن أن تصيب الفرد والأمة، فلا بديل أمامنا من مقاومته، والتصدي له، ووضع هدف «عودة الروح» على أعلى سلم الأولويات، وبخاصة لدى قلب الأمة النابض ألا وهم «الدعاة إلى الله» وكل من يعمل في حقل الدعوة.
إن الأمل في نهوض الأمة من كبوتها قائم ما تعاقب الليل والنهار ...
ستظل الشمس بإشراقها كل يوم تذكرنا بأن ربنا قدير، وأن قدرته لا حدود لها، وأنه وحده الذي يدير هذا الكون، ويدبر أمر كل حركة وسكنة فيه، وأن مقاليد الأمور وأزمتها جميعًا بيده ..
لا تزال السماء مرفوعة بلا عمد، يمسكها الله ﷿ فنرى من خلالها آثار قدرته وقوته غير المتناهية، لتتضاءل في أعيننا أي قوة أرضية وهمية لجبار متعجرف ..
لا يزال وعد ربنا الحق بالتمكين للمؤمنين وبنشر نوره على العالمين قائمًا، ولا يزال نصره قريب في انتظار من يستحقه.
مع اليقين الجازم بأنه وإن كان الأمل قائما ما دام الليل والنهار إلا إنه يحتاج إلى أهل العزيمة والإيمان لكي يصبح واقعا مشهودا، وعندما يتأخر النصر فما علينا إلا أن نلوم أنفسنا، ولا نعتذر بالقضاء والقدر، بل نجتهد في استكمال ما ينقصنا حتى نكون -بإذن الله- مهيئين لاستقباله.
لا تعتذر بالقضاء والقدر ولا تستسلم للهزيمة:
من هنا نقول- بيقين-: إن المفتاح الأعظم للوصول للمعالي هو التوكل العميق الوثيق على ربنا جل شأنه، ثم وجود الرغبة والعزيمة الأكيدة والتصميم الجازم للوصول إليها، وعندما تصاب العزائم بالخور والضعف فلا نهوض للفرد ولا للأمة مهما امتلكت من إمكانات.
لذلك لا ينبغي علينا أن نعتذر بالقضاء والقدر لتبرير أي فشل يصيبنا، بل علينا أن نلوم أنفسنا .. نلوم إرادتنا وعزائمنا ... نلوم صدقنا في طلب المعالي.
يقول محمد إقبال: المسلم الضعيف يعتذر دائمًا بالقضاء والقدر، أما المؤمن القوى فهو بنفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد (٣).
تفاءل تفاءل ولا تيأَسَنْ ... ولا تعتذر بالقضا والقدر
إذا المرء يومًا أراد العلا ... فلابد أن يستحِثَّ السِّيرَ
_________
(١) في ظلال القرآن ٤/ ٢٣٦٩.
(٢) طرق الإرشاد في الفكر والحياة- المقدمة- دار النيل- القاهرة.
(٣) روائع إقبال للندوي ص ٧٩، ٨٠.
1 / 19