Refutation of the Orientalists' Claim That the Quran Is from the Prophet (PBUH)
دحض دعوى المستشرقين أن القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم
প্রকাশক
غراس للنشر والتوزيع
জনগুলি
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة والنسمة المجتباة، سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن الله أرسل رسله بالبينات والهدى، وأظهر الله حججهم، وأبان عن محجتهم، واتضحت لكل ذي بصيرة مسالكهم وطرائقهم، وذلك ليحيا من يحيا عن بينة، ويهلك من يهلك عن بينة، فيكون له الهلاك والخسران.
وقد جعل الله تعالى للحق أعلامًا وأنصارًا وجزاءً، ويمثل الطائفة الحقة الرسل وأتباعهم في كل زمان ومكان.
والرسل وأتباعهم يظهرون الحجة والحق، ويدعون إليهما، وأعداء الرسل يدفعون الحجج، ويحاولون إبطالها وخلال ذلك يهتدي من يهتدي، ويهلك من يهلك، ولا يهلك على الله إلا هالك.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم هذه السنة، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان:٣١.
وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون﴾ الأنعام: [١١٢-١١٣] .
1 / 139
وقد روي عن السدي أنه قال: "لم يبعث نبي قط، إلا كان المجرمون له أعداء، ولم يبعث نبي قط إلا كان بعض المجرمين أشد عليه من بعض"."١"
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ﵁ قال: "كان عدو النبي صلي الله عليه وسلم أبو جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى"."٢"
وأبان الله ﵎ لنا في الآية الأخرى عن حقيقة هؤلاء الأعداء، وعن كيفية تداول الأقوال بينهم، وعن المصغين إليهم، فوصفهم بأنهم شياطين، والشيطان كما يقول ابن كثير هو:" كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء – يقصد من الإنس والجن – فهؤلاء الأعداء للأنبياء يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف المزين المزوق، الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره"."٣"
وقد سلك في هذا الباطل، وهو رد النبوة وتكذيب الأنبياء، والطعن فيهم بكل وسيلة ممكنة أهل الضلالة والفجور مع أنبيائهم السابقين. فنوح ﵊ رد قومه عليه قوله وكذبوه، وقالوا عنه ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون:٢٤-٢٥] .
وقال تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:٤-٥] .
_________
"١" عزاه في الدر المنثور "٦/٢٥٤" إلى ابن أبي حاتم.
"٢" المرجع السابق.
"٣" تفسير ابن كثير "٢/١٦٨"،وانظر: تفسير القرطبي "٧/٦٧".
1 / 140
فالتكذيب للرسل سمة من سمات أهل الكفر والباطل، وموقفهم واحد، وهو الكفر والتكذيب، ووسيلتهم لذلك هو وصف النبي بالسحر أو الجنون أو الكذب، ونحو ذلك. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات:٥٢] .
وهم يظهرون هذا الموقف من الأنبياء بدافع من الهوى، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [المائدة:٧٠] .
ولا يؤثر في موقفهم ذلك وضوح الدليل الذي يجريه الله على يد النبي، أو عدد الأنبياء، بل هو موقف واحد متكرر في جميع الحالات. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام:١١١] .
بل إن الله تعالى أرسل إلى قرية واحدة ثلاثة من الرسل، ومع ذلك كذبوا وردوا آيات الله. قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ [يس:١٣-١٥] .
ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه لم يكن بدعًا من الرسل، فقد أصابه ماأصاب من قبله من أعداء الله من التكذيب، والطعن فيه وفي رسالته وفي شخصه. قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ آل عمران:١٨٤] .
وقد تمالأ أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا، بدءًا بأبي جهل وأبي بن خلف
1 / 141
وأبي لهب والوليد بن المغيرة، وأمثالهم من مشركي مكة، وسيستمر ذلك إلى الدجال الأكبر وما بعده من أهل الضلالة.
فما دام هناك أعداءً فلا بد أن يطعنوا في القرآن وفيمن جاء به، ويزخرفوا ذلك بالقول الحسن المزوق، حتى يروج على الجهلة.
وقد ذكر الله تعالى كما سنبين دعاوى أعداء الرسل وطعنهم، وما افتروه على كلامه ورسله، وتولى ﵎ الرد عليهم، وإن كان الردوالبيان، وإقامة الحجة لا يغني عمن هو صال النار، ولا ينفع فيمن تحكم فيه هواه، وانقاد لوساوس نفسه، ودواعي شهواته وشيطانه، وإنما في ذلك جهادهم بالكلمة وإظهار لدين الله، حتى لا يلبسوا على غر وجاهل لا يتبين مواقع الضلالة والباطل في كلامهم.
1 / 142
المبحث الاول
مدخل
...
المبحث الأول
دعوى المستشرقين أن القرآن من عند النبي صلي الله عليه وسلم وأنه استفاده من اليهود والنصارى.
1 / 143
وأهله، وتشويه الدين الإسلامي حتى يحجبوا قومهم عنه، ويشككون المسلمين في دينهم وعقيدتهم وثوابتهم، حتى يسهل تنصلهم منه، وانفلاتهم منه، حتى يتمكنوا فيما يظنون من تنصيرهم.
وهذا ليس غريبًا على الأعداء، فهذا دأبهم ومسلكهم وموقفهم من الحق، فقد حاول اليهود قتله ﵊، والبوا عليه القبائل، وسعوا إلى إشاعة التشكيك في صحة القرآن، فقالوا ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:٩١]، وقالوا ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران:٧٢] .
هذه بعض محاولات متقدميهم وسابقيهم، فدرج الأبناء على ما درج عليه الآباء، صدًا عن دين الله، وتشكيكًا لعباد الله.
وقد ركز أولئك المستشرقون على قضية واحدة دارت حولها كل افتراءاتهم وكلامهم، وهي إنكار نبوة النبي صلي الله عليه وسلم. فوجهوا في خدمة هذا الإنكار كل طاقاتهم وسهومهم، فمرة يصفون النبي ﵊ بالهوس، ومرة يصفونه بالعبقرية، ومرة يصفونه بالسرقات العلمية من اليهود والنصارى، ومرة يزعمون أنه مصلح عظيم."١"
وهنا واجههم موضوع القرآن الكريم من أين مصدره، فأخذوا يتخبطون في بيان ذلك، فلم يتركوا مقالة يمكن أن تقال في ذلك إلا قالوها، فزعموا أنه أساطير الأولين من الوثنيين وغيرهم، وزعموا أنه خيال نفسي قوي يصيب النبي صلي الله عليه وسلم، وزعموا أنه مقتبس من التوراة والإنجيل، وقالوا إنه مأخوذ عن شعر أمية بن أبي الصلت، إلى غير ذلك من الدعاوى، التي لا أزمّة لها ولا أعنّة، بل يشعر قارئها بأن كلامهم إهانة لصفة العلم، التي إينتحلوها، وأنهم إنما هم مجموعة
_________
"١" انظر بعض كلامهم في: مناهج المستشرقين ص٢٦-٣٢.
1 / 144
من الكذبة الأفاقين، والكفرة الحاقدين الحاسدين، الذين جهرهم وبهرهم نور الإسلام، وهم أعداء حاقدون، فحاروا فيه، وحاصوا حيصة الحمر، وصاروا يخبطون خبط عشواء.
وسنبين في دراسة مختصرة دعواهم أن القرآن من عند النبي صلي الله عليه وسلم، وأنه اعتمد فيه على التوراة والإنجيل.
ونبين بإذن الله تهافت هذه الدعاوى وبطلانها، رجاء أن يجعل الله في ذلك نصرة للحق، ودفعًا للباطل، وأن يجنب المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرد عنا وعن المسلمين كيد أعدائنا، وأن يجعل ما يدبرونه ويكيدون به هذا الدين سببًا في تدميرهم وهلاكهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويثبتنا على الحق إلى يوم نلقاه.
1 / 145
المطلب الأول: تعريف الإستشراق
الاستشراق لغة: مأخوذ من جهة الشرق.
اصطلاحًا: هو علم يدرس فيه لغات الشرق وتراث وأديان شعوبها وحضارتهم وتاريخهم، وكل ما يتعلق بهم."١"
وهذا الاسم غلب على تعلم الأوروبيين علوم أهل الشرق. فعليه فالمستشرق في مقصدنا هنا: هو ذاك الأوروبي أو الغربي، الذي اجتهد في تعلم علوم الشرق، وديانة أهلها وحضارتهم.
والاستشراق حركة نبتت في الكنيسة "٢"، لهذا تبنى جلّ المستشرقين موقف الكنيسة من الإسلام، وهو العداء له، والكيد له بكل وسيلة ممكنة.
وقد وجه المستشرقون سهامهم إلى كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، فطعنوا في نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، وكتاب الله القرآن الكريم، والتشريع الإسلامي، وتاريخ المسلمين، ولغة المسلمين. وهدفهم من وراء ذلك هو الصد عن دين الله، والتشكيك في دينه، فيصدون بني جنسهم عن الإسلام بالافتراء على الإسلام
_________
"١" انظر: الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص٣٠.
"٢" يعزى إلى الراهب الفرنسي جوبرت، الذي انتخب بابا للكنيسة سنة ٩٩٩م أنه أول من درس علوم الشرق، وذلك في الأندلس، ثم تتابع المرتحلون إلى الشرق حتى كان مجمع فينا سنة ١٣١٢م، الذي قرر إنشاء خمسة كراسي في جامعات غربية لتعليم اللغة العربية، وابتدأ فيه تنظيم وترتيب ما يسمى بالاستشراق. انظر: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم "١/٢٥"، الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص٣٣.
1 / 143
المطلب الثاني: أقوال المستشرقين
المستشرقون هم أفراخ اليهود والنصارى نسبة وديانة، وأفراخ أبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف والوليد بن المغيرة في الكفر والعداوة للإسلام، ونبي الإسلام والمسلمين، إلا أن هؤلاء لبسوا مسوح العلم والتحقيق العلمي، والدعاوى العريضة في هذا، وجاءوا إلى أهل الإسلام، وظاهرهم إفادة الشرق وتحضيره وتمدينه، وباطنهم امتصاصه وتدميره وتحطيمه، بغيًا منهم، وحسدًا وعدوانًا.
وكان من مسالكهم في التدمير والتحطيم ضرب ثوابت أهل الإسلام وقواعد دينهم، فوجهوا سهامهم المسمومة إلى جميع نواحي الدين الإسلامي، وخصوا كتاب الله تعالى، ونبيه محمدًاصلي الله عليه وسلم بمزيد من الطعن والافتراء والتجريح، إلا أنهم آبوا بما قال الشاعر
كناطح صخرة يومًا ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل "١"
فالإسلام قد حاوله من قبل أمثالهم، فباءوا بالخسران والخيبة، وسيؤوب هؤلاء بالخسران والخيبة، والله تعالى ناصر دينه، وحافظ كتابه، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف:٧] .
فمن دعاويهم:
قول ل. أ.سيديو"٢":"ويتلقون – يعني الصحابة - آي القرآن التي أراد محمد نشرها ليوفق في عمله، على أنها من مصدر إلهي"، وقال: "ويختار- يعني
_________
"١" من معلقة الأعشى ومطلعها:ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعًا أيها الرجل. انظر: شرح القصائد العشر للتبريزي ص٣٤٣.
"٢" لوي بيير سيديو: مستشرق فرنسي، اشتغل بعلم الفلك، كتب كتابه " تاريخ العرب" بالفرنسية، ثم ترجم إلى العربية. توفي سنة ١٢٩٢هـ/١٨٧٥م. انظر: الأعلام "٥/٢٤٦".
1 / 146
النبي صلي الله عليه وسلم-من تلك المتقدات الكثيرة بلباقة ما يلائم عقول العرب من غير أن يصدم ميولهم وما فيهم من ضعف، فالكتاب الذي يعرضه عليهم هو مرآة أدبية ينعكس عليها ما في طبيعتهم من الفضائل والمساويء والعواطف والعثرات والأوهام والحقائق".
وقال أيضًا:" وكان محمد يتكلم باسم الله على الدوام، لتكون تعاليمه أعظم تأثيرًا، وكان يقول: إن رسولًا من السماء يأتي إليه بأوامر الله تعالى، ومن الواضح ختال في وجده"."١" هكذا زعم.
وقول جولد تسيهر"٢"،في كتاب "العقيدة والشريعة":" فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا من معارف وآراء دينية عرفها واستقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية، وغيرها التي تأثر بها تاثرًا عميقًا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه"."٣"
ومثله قول "كارل بروكلمان" "٤"، المستشرق الألماني، صاحب الكتاب الشهير "تاريخ الأدب العربي"، حيث يقول في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية":
"وتذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما
_________
"١" تاريخ العرب العام ص٦٨،٨٥،٨٦.
"٢" اجناس جولد تسيهر: مستشرق مجري يهودي، رحل إلى سورية ١٨٧٣م، ثم رحل إلى مصر، ولازم بعض علماء الأزهر، وكتب كتبًا عديدة بالعربية. توفي سنة ١٣٤٠هـ/١٩٢١م. الأعلام "١/٨٤".
"٣" نقلًا عن "مناهج المستشرقين"،ص٣١.
"٤" "كارل بروكلمان" مستشرق ألماني، عالم بتاريخ الأدب العربي. نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وتعلم العربية، ودرس في جامعات ألمانية، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي. توفي سنة ١٣٧٥هـ/١٩٥٦م. الأعلام "٥/٢١١".
1 / 147
في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت نعرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد "."١"
ومنها قول بلاشير"٢":
"إن مما لفت انتباه المستشرقين، هو التشابه الحاصل بين هذه القصص والقصص اليهودي المسيحي، وقد كان التأثير المسيحي واضحًا في السور المكية الأولى، إذ كثيرًا ما تكشف مقارنة بالنصوص غير الرسمية كإنجيل الطفولة، الذي كان سائدًا في ذلك العهد عن شبه قوي"."٣"
وقال الخوري الحداد "٤":
" إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية توراتية مسيحية يهودية، وأن القرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة، المنزلة على الأنبياء السابقين، ومقتبس منها، وأنه كتابي توراتي إنجيلي يهودي نصراني في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله"."٥" إلى آخر كلامه وهذيانه.
_________
"١" تاريخ الشعوب الإسلامية، ص٣٤.
"٢" بلاشير ريجيس: مستشرق فرنسي. تلقى دروسه الثانوية في الدار البيضاء بالمغرب،وتخرج بكلية الآداب بالجزائر، وصار مديرًا لمدرسة الدراسات العليا العلمية بفرنسا،وكان أحد أعضاء المجمع العربي بدمشق. له كتب عديدة، منها: ترجمة القرآن الكريم. توفي سنة ١٣٩٣هـ/١٩٧٣م. الأعلام"٢/٧٢".
"٣" مناهج المستشرقين ص٣١.
"٤" هو اسم مستعار، أخفى صاحبه شخصيته خلفه.
"٥" نقلًا عن القرآن والمبشرون ص٩٤.
1 / 148
المبحث الثاني
مدخل
...
المبحث الثاني دحض دعاوى المستشرقين
قبل أن نبين بطلان دعاوى المستشرقين، نشير إلى أمر مهم، وهو:
أن المستشرقين ادعوا لأنفسهم وادعي لهم أنهم أهل تحقيق وأهل تدقيق وتمحيص، وأنهم يبغون الحقيقة العلمية لا غير، وقد بحثوا ودققوا في حال النبي صلي الله عليه وسلم وسيرته ودعوته وكتابه وشريعته، ولا شك أن كل مطلع على ذلك سيصل إذا سلم من الهوى والحسد والحقد إلى حقيقة أن الرسول صلي الله عليه وسلم مرسل من عند الله، وأن ما جاء به من عند الله هو الحق، ويدرك أن الدلائل الدالة على ذلك في الإسلام لا يوجد عند أصحاب الأديان الأخرى ولا عشرها. واي دارس للأديان يدرك ذلك ويعلمه يقينًا.
وأولئك المستشرقون إما يهود أو نصارى يؤمنون بديانتهم، ويعتقدون صحتها، فإذا ما قورنت الدلائل الدالة على صدق وصحة الإسلام، بالدلائل الدالة على اليهودية أو النصرانية فسترجح كفة الإسلام، بكيفية لا تقارن بها اليهودية والنصرانية.
فمن هنا أقول: إن المستشرقين قد اطلعوا على دلائل الصدق والصحة في الإسلام وعرفوها وتيقنوها، فصاروا بين أمرين:
إما أن يقبلوا ويصدقوا النبي صلي الله عليه وسلم بأنه رسول الله، وأن ما جاء به الحق، وهذا يلزمهم بالإيمان به وإتباعه، لأنه صرح بأنه رسول إلى الناس كافة، وأنه لا نجاة لأحد بعد بعثته إلا بالإيمان به، وأن اليهودية والنصرانية كفر وضلال.
وإما أن يكذبوه ويردوا دعوته، ولكن كيف ذلك؟ وهم يدعون أنهم يبغون الحقيقة، وأنهم أهل العلم، فلم يجدوا بدًا من التكذيب، والرد لدعوته،
1 / 149
والتشويه لسمعته، شأنهم في ذلك شأن أسلافهم من المشركين واليهود والنصارى، ويعللوا تكذيبهم ذلك بالتعليلات التي علل بها أسلافهم، حتى يظهروا أمام الناس أنهم إنما ردوا دعوته للعلة التي يدعون، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يتفقوا على رأي فيه، سوى أنهم غير قابلين لدعوته، فادعوا لذلك دعاوى عديدة، منهادعواهم أنه تعلم القرآن من اليهود والنصارى، ومنهم من قال من عند نفسه، وقوة نفسية، ومنهم من قال: كهانة، وسجع كسجع الكهان.
وهذه هي الدعاوى التي قالها من قبلهم مشركو مكة، الذين انطلقوا من نفس المنطلق. فقدكانوا من أشد الناس عداوة للنبي صلي الله عليه وسلم ودعوته وأصحابه، ولم يتركوا وسيلة يمكنهم بها القضاء على النبي صلي الله عليه وسلم، أو القضاء على دعوته إلا سلكوها.
فقد حاولوا قتله، وقتلوا من أصحابه، واضطهدوهم وعذبوهم وحاصروهم، وهم في أثناء ذلك لم يتركوا وسيلة لتشويه سمعته، وإلصاق التهم به، والتشويش عليه في دعوته، وتحذير الناس منه، والصد عن دينه إلا سلكوها، ولا مدخلًا إلى ذلك إلا دخلوه وحاولوه، ولولا أن الله ناصر دينه، وحافظ نبيه، لما قام لهذا الدين قائمة، ولا بلّغ عنه مبلغ.
وكان من مسالكهم في الطعن في نبي الله ودين الله، تكذيبه وادعاء أنه افترى هذا القرآن، فمرة نسبوه إليه، وأنه افتراه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى زورًا وبهتانًا. قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود:٣٥] .
قال القرطبي في معناه:" يعنون- أي أهل الكفر- النبي صلي الله عليه وسلم - أي اختلق القرآن من عند نفسه"."١"
_________
"١" تفسير القرطبي "٩/٢٨".
1 / 150
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ النحل [١٠١-١٠٣] .
فبين الله تعالى في هذه الآيات دعاوى المشركين في أن النبي صلي الله عليه وسلم اختلق هذا القرآن من عند نفسه، ومنهم من زعم أنه أخذه عن أحد النصارى، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾، فقيل: يقصدون غلامًا نصرانيًا اسمه جبر عبد لبني الحضرمي، وقيل: غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وقيل: إنهما غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار، واسم الآخر حبر، وقيل: اسمه بلعام، وكان نصرانيًا يقرأ التوراة، وقيل: يقال له أبو ميسرة، وقيل غير ذلك."١"
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [الفرقان:٤] .
فهنا يذكر الله تعالى عنهم تكذيبهم للنبي صلي الله عليه وسلم، وادعاءهم عليه أنه افترى القرآن من عند نفسه، وأعانه على هذا اليهود، فيعلمونه هذا القرآن."٢"
وقال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء:٥] .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ما صدقوا بحكمة هذا القرآن ولا أنه من عند الله، ولا أقروا بأنه وحي أوحى الله إلى محمد صلي الله عليه وسلم، بل قال بعضهم: هو
_________
"١" انظر تفسير الطبري "١٤/١٧٨"، والقرطبي "١٠/١٧٨".
"٢" انظر: تفسير ابن جرير"١٨/١٨١"، عن مجاهد ﵀، وانظر تفسير القرطبي "١٣/٣".
1 / 151
أهاويل رؤيا رآها في النوم، وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم شعر"."١"
فأولئك المشركون كان لهم هم واحد، وهو تكذيب الرسول صلي الله عليه وسلم، وإبطال قوله أنه رسول الله، وأن الله يوحي إليه، فمرة يزعمون أنه اختلق القرآن والوحي من عند نفسه، مع أنهم يعلمون بطلان دعواهم في أنه ﵊ لم يؤثر عنه كذب، ولا جربوا عليه ذلك من قبل، فكيف يترك الكذب على الناس ويكذب على الله؟ "٢" وهذا لا يقوله عاقل، وكيف يترك الكذب في شبابه وصغره أيام اللهو والانطلاق، ويكذب لما صار كهلًا "٣" بلغ التمام وأقبل على الختام، وبدأت الدنيا تعصره ويعصرها، وتستدبره ويستدبرها.
وكيف يكون قوله شعرًا، وهو لم يقرض الشعر ولا يحسنه، ولم يؤثر عنه من قبل أنه قال شعرًا أو قرضه، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: ٦٩-٧٠] .
روى مسلم بسنده عن أنيس الغفاري أنه قال لأبي ذر عن النبي صلي الله عليه وسلم: "لقيت رجلًا بمكة على دينك "٤"يزعم أن الله أرسله، قلت - أي أبو ذر-، فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء.
_________
"١" تفسير ابن جرير "١٧/٣"، وانظر: تفسير القرطبي _١١/٢٧٠".
"٢" انظر كلام هرقل مع أبي سفيان في ذلك: خ. بدء الوحي رقم"٣"، انظره مع الفتح "١/٤٢"،وم. الجهاد والسير، رقم"١٧٧٣"، "٣/١٣٩٣".
"٣" الكهل: من جاوز الثلاثين إلى الخمسين. انظر: المعجم الوسيط ص٨٠٣.
"٤" يقصد التوحيد وعبادة الله تعالى، لأن أبا ذر ﵁ كان يصلي لله قبل مبعث النبي ﵊ بثلاث سنين، وفي رواية بسنتين.
1 / 152
قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء "١"الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون "."٢"
وفي رواية أنه قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر"."٣"
وقال المشركون فيه: إن ما يدعيه ويقوله ما هي إلا أضغاث أحلام، أي أمور وأهاويل تأتيه في منامه في الليل فيأتي يرويها لنا في النهار. وهم يعلمون أن النائم لا يمكن أن يأتي بمثل ذلك القيل، بل إن الله تحداهم، وهم مستيقظون، وهم أهل الفصاحة والبيان، أن يأتوا بسورة من مثله، وليستعينوا بمن شاءوا في ذلك في قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس:٣٨] .
وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور: ٣٣-٣٤] . لكن أنى لهم أن يأتوا بمثله، وهو كلام الله الذي ألجم الفصحاء، وبهر البلغاء، وأعجز الأعداء أن يأتوا بمثله، أو يحاكوه أو يحاولوه عجزًا وعيًا، وإنما قال قائلهم مبهورًا مبهوتًا مكمودًا، لما سئل عن القرآن: فما أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى "."٤"
وفي رواية عنه أنه قال:" والله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله "."٥"
_________
"١" أقراء الشعر، قال النووي: أي طرقه وأنواعه. انظر شرحه على مسلم "٥/٢٤٦".
"٢" أخرجه. م في فضائل الصحابة، رقم "٦٣٠٩".
"٣" أخرج هذه الرواية:خ في المناقب، باب قصة زمزم، رقم "٣٥٢٢".
"٤" أخرجه ابن جرير في تفسيره "٢٩/١٥٦" عن عكرمة من قول الوليد بن المغيرة.
"٥" المصدر السابق عن ابن عباس ﵁.
1 / 153
وقال المشركون عن القرآن إن النبي صلي الله عليه وسلم تعلمه من اليهود أو من النصارى١.فهم لا يثبتون على دعوى، إنما مرادهم أن يكذبوا النبي صلي الله عليه وسلم، ويردوا قوله بدعوى من الدعاوى، بغض النظر عن صحتها أو معقوليتها، وحالهم كمن يقول نحن نكذبك ونعاديك ونرد كلامك وإن كنت صادقًا. وهذا صريح كلام الله تعالى، الذي يعلم السر واخفى عن موقفهم من النبي صلي الله عليه وسلم ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:٢٢] .
وحال هؤلاء المستشرقين مع أولئك المشركين كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:١٠٨] .
فتشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في الكيد للإسلام وعداوته وعداوة أهله، فنطقوا بما نطق به الذين من قبلهم.
ونضيف أن المستشرقين إما يهود وإما نصارى، فمن هنا نتساءل: على أي أرض من الحق صلبة يقفون؟ وعلى أي شيء هم يعتمدون في نقدهم لنبي الإسلام ودين الإسلام!
إنهم كما قيل: رمتني بدائها وانسلت، فدينهم الذي هم عليه، مهلهل لا يثبت أمام النقد في ناحية من النواحي.
فاليهود مثلًا: قد أثبتت الدراسات المتكاثرة، حتى من اليهود أنفسهم عدم صحة كتبهم، وأنها محرفة، وأن الدراسة التاريخية تؤكد ذلك."٢" وأن الدراسة العلمية تؤكد وجود الأخطاء العلمية فيها."٣"
_________
"١" سيأتي بطلان ذلك تفصيلًا وأن اليهود والنصارى أعجز من ذلك وأعجز.
"٢" انظر: دراسات في الأديان، ص٦٠-٧٤، الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف، ٦٧-١١٤.
"٣" القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص٣٩-٦٢.
1 / 154
كما أن التشريع السليم والصحيح غير متيسر فيها، بل فيها من الضلالات والانحرافات، خاصة ما يسمونه بالتلمود ما يثير الإشمئزاز، ويبعث على السخرية، ويدل دلالة واضحة على التحريف والإنحراف الكبير الذي وقع لهم في ديانتهم، سواء في كتبهم أو في تشريعات كهنتهم وأحبارهم."١"
أما النصارى فحالهم أعجب وأغرب، فليس عندهم كتاب واحد من كتبهم يصح نسبته إلى أحد ممن يضعون اسمه على تلك الكتب، فضلًا عن أن يصح نسبته إلى المسيح (، بل إنهم لا يعرفون على التحقيق من هم كتبة تلك الكتب، ولا تواريخ كتابتها."٢"
وأثبتت الدراسات النقدية وجود اختلافات "٣"، وأخطاء "٤" كثيرة جدًا فيها.
أما من ناحية الاعتقاد فكلامهم في الله تعالى من أفسد القول وأقبحه، كما أن اعتقادهم لا يمت بصلة إلى كتبهم حتى بعد تحريفها، فالتثليث لم يرد ولا مرة واحدة في كتبهم كلها، أما الأبوة والبنوة التي يزعمون، فهي معان مستغلقة غير مفهومة ولا واضحة، وهي مجرد دعاوى مرفوضة من ناحية العقل فضلًا عن الشرع والدين.
أما دعواهم في الروح القدس وأنه ثالث ثلاثة، فلا يسند ذلك نص في كتبهم، بل هو اختراع من أحبارهم.
أما الصلب تكفيرًا لخطيئة آدم، وما فيها من الفلسفات الكثيرة الجوفاء، فلا يوجد في أناجيلهم نص واحد يدل عليه، بل هي أوهام في رؤوسهم، ودعاوى مظنونة متخرصة."٥"
_________
"١" انظر: الكنز المرصود في قواعد التلمود،٥٥-٩٦، فضح التلمود،١٣١-١٤٦.
"٢" المدخل إلى العهد الجديد، للقس فهيم عزيز، ص١٤٦-١٥٢، اختلافات في تراجم الكتاب المقدس، ص٧٦-٨١.
"٣" انظر: إظهار الحق "١/١٨٧-٢٤٦"، دراسات في الأديان،ص١٨٨-١٩٦.
"٤" انظر: إظهار الحق "٢/٢٩٤-٣٥٢"، ودراسات في الأديان، ص١٩٧-٢٠١.
"٥" انظر ذلك تفصيلًا في: دراسات في الأديان، ص٢٢٥-٢٨٢.
1 / 155
كما أنهم فقراء غاية الفقر في التشريع، فلا يوجد في كتبهم شيء من التشريع الإلهي، سوى ما يزعمون من أن المسيح حض على عدم الطلاق، وعدم زواج المطلقة."١"
وأما بقية تشريعاتهم فقد وضعها قسسهم وأحبارهم في مجامعهم الدينية، فليت شعري كيف يجرؤ هؤلاء المفترون على نبي الإسلام وكتاب الإسلام ودين الإسلام. ولكن صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: "إن لم تستح فاصنع ما شئت"."٢"
وبعد هذه المقدمة في بيان حقيقتهم وحالهم سنفصل الرد عليهم في مطلبين:
المطلب الأول: في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عنده.
المطلب الثاني: في نفي أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم قد استفاد القرآن من اليهود والنصارى.
_________
"١" انظر: إنجيل متى "٥/٣١"، لوقا "١٦/١٨".
"٢" أخرجه. خ. الأنبياء، رقم "٣٤٨٤"،انظره مع الفتح "٦/٥٩٥"، من حديث أبي مسعود ﵁.
1 / 156
المطلب الأول
في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عنده لقد أنزل الله تعالى القرآن على نبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:١٩٢-١٩٥] .
فأعلن في الناس أن هذا كلام الله وليس كلامه، وليس له منه إلا التبليغ.
والأدلة على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام النبي صلي الله عليه وسلم كثيرة جدًا، نشير إلى بعضها:
أولًا: أن الرسول صلي الله عليه وسلم صادق أمين، وصفه بذلك أعداؤه، كما روى البخاري في قصة أبي سفيان مع هرقل، فقال هرقل لأبي سفيان: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، ثم قال هرقل مبينا مراده من السؤال: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد اعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله "."١"
وقد أكد صلي الله عليه وسلم في مرات كثيرة ومواقف عديدة أن القرآن الكريم كلام الله، وأنه يوحى إليه ما يقول، وهذا موجب لتصديقه من وجهين:
الوجه الأول: أنه صادق، وقد عرف عنه ذلك واشتهر.
والثاني: أن في نسبة القرآن إليه إبراز لمواهب نفسه، وإحراز للمقام الأعلى في قوة الفصاحة والبيان والعلم، ونحو ذلك، وخاصة أن القوم كانوا يتباهون في قوة التعبير، والفصاحة والبيان، ويعدونه من أعظم مفاخرهم، ومع ذلك تنصل منه، وقال: إنه كلام الله تعالى، وليس كلامه، ولم تختلف عنه هذه الدعوى في وقت من الأوقات، لا في أول بعثته ولا في آخرها.
_________
"١" خ. بدء الوحي،رقم"٣" انظره مع الفتح "١/٣٢".
1 / 157