Rectification of Concepts in Aspects of Creed
تصحيح المفاهيم في جوانب العقيدة
প্রকাশক
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
সংস্করণের সংখ্যা
السنة الحادية عشرة
প্রকাশনার বছর
العدد الثاني غرة ذي الحجة عام ١٣٩٨هـ/١٩٧٨م
জনগুলি
تصحيح المفاهيم في جوانب العقيدة
لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
مقدمة:
سبق لي أن تحدثت تحت هذا العنوان في موسم المحاضرات لعام ٩٤-٩٥هـ وتناولت بالحديث النقاط التالية:
١- العبادة.
٢- التوسل.
٣- مبحث الصفات.
٤- القرآن الكريم.
ووعدت بأني سوف أعود فأتحدث مرة أخرى تحت العنوان ذاته إن شاء الله فها أنا ذا أعود إلى العنوان بمشيئة الله تنفيذًا للوعد المذكور وأختار هذه المرة النقاط الآتية:
١- الأولياء والكرامات.
٢- الشفاعة.
٣- السنة النبوية.
1 / 83
والذي دفعني إلى الحديث في تصحيح المفاهيم هذه المرة والمرة التي قبلها هو إدراكي التام ما عليه عامة المسلمين - كما يدرك غيري- من تصورات بعيدة عن حقيقة الإسلام في الموضوعات المذكورة وغيرها في جوانب الإسلام حتى صار البون شاسعًا بينهم وبين المنهج المحمدي الذي أشار إليه النبي ﵊ بقوله:" تركتكم على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك " وعلى الرغم من هذا التوجيه النبوي المتضمن للإنذار فقد زاغ جمهور المسلمين عن المنهج فصاروا يعملون خارج المنهج في جوانب كثيرة، مغيرين بذلك مفاهيم وتصورات كثيرة فحياة المسلمين اليوم أقرب إلى الجاهلية التي قبل مبعث النبي منها إلى الحياة الإسلامية مما جعل حياتهم مغايرة لحياة الرعيل الأول من الصحابة والتابعين الذين أخذوا تلكم المعاني من صاحب الشريعة مباشرة أو بسند عال ولعل سر ذلك انصراف الناس عن دراسة مصادر الإسلام الأصلية وتسرب كثير من عادات وتقاليد غير إسلامية إلى صفوف المسلمين. كالهندوكية والبوذية والثقافة اليونانية. وهذا التركيب المزجي خلف في صفوف المسلمين ريبة مدللة ومضللة في الوقت ذاته أطلق عليها "الصوفية" وكنتيجة حتمية لوجودها كثر المحترفون باسم الدين بعد أن لقبوا أنفسهم برجال السلوك فسلكوا بأتباعهم غير سبيل المؤمنين وصنفوا أنفسهم كالآتي:-
العارفون بالله- والأقطاب – والأوتاد.
أيها الأخوة لا نعلم أن المسلمين ابتلوا ببلية أو أصيبوا بمصيبة أعظم وأخطر من مصيبة الصوفية إذ من بابهم دخلت على المسلمين تصورات أجنبية ومفاهيم غربية لا عهد للمسلمين بها في ماضيهم بل هي باب لكل بدعة دخلت على عبادة المسلمين وعقائدهم التي منها هذه التصورات الطارئة على المعاني أو النقاط التي سوف أتناولها بالبحث في هذه العجالة محاولًا بيان التصور الصحيح لها والتصور غير الصحيح لعلي أكون أديت بذلك بعض ما يجب أداؤه من واجب النصح لعامة المسلمين لأني لا أريد بمحاضرتي هذه أداء واجب الموسم الثقافي للجامعة فحسب بل أرجو أن تصل هذه المحاضرة يومًا إلى أيدي من تعنيهم وتتحدث عنهم وعن سوء فهمهم فتصحح لهم تصوراتهم تلك بإذن الله في هذه الجوانب.
1 / 84
والله أسأل وبمحبة رسوله أتوسل أن يجعل عملي مخلصًا لوجهه الكريم أنه خير مسئول وأكرم مجيب.
وبعد هذه المقدمة التي أرجو ألاّ تكون مملة نأخذ في الحديث عن النقاط الثلاث التي اخترتها لحديثي، هذه المرة على النحو التالي:
تصحيح المفاهيم في جوانب العقيدة ... أولًا: الأولياء: الأولياء جمع ولي. الولي من تولى الله أمره وخصه بعنايته لصلاحه لأن الله يتولى الصالحين ويحب المؤمنين ويدافع عنهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفي الحديث القدسي:" من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب ". ويعتبر الصلاح والتقوى من العناصر الأساسية في الولاية ومن مستلزماتها: العلم ونعني بالعلم معرفة الله بأسمائه وصفاته وآلائه جملة وتفصيلًا ومعرفة شرعه الذي جاء به رسوله المصطفى ونبيه المرتضى ﵊. وقد تولى القرآن الكريم تعريف الأولياء بما لا يترك مجالًا للتردد أو التساؤل أو التوقف: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ إذ يقول الله ﷿ من قائل: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ويقول أيضًا: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾ وقد حصر القرآن- كما ترى- الأولياء فيمن يتصفون بصفة التقوى. والتقوى تستلزم العلم والمعرفة - كما قلنا - لأن حقيقة التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات خوفًا من عذاب الله وسخطه وتطلعًا إلى رضائه وجنته وكرامته ولا يتم ذلك إلا بالفقه في الدين، فالخير كله في الفقه في الذين كما أن الشر كله في الجهل بالدين والإعراض عنه. يقول الرسول الكريم في هذا المعنى: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" ولا يخفى على طالب العلم المفهوم المخالف للحديث. وهو أن من لن يرزق الفقه في الدين قد فاته الخير. وماذا بعد الخير إلا الشر؟.. هكذا بين الكتاب والسنة صفات أولياء الرحمن التي منها: العلم والمعرفة والصلاح والتقوى. وذلك يعني أن الأولياء هم العلماء العاملون والفقهاء المبرزون حملة كتاب الله المتبعون لسنة نبيه ﵊ لنخلص إلى القول: بأن الله لم يتخذ وليًا جاهلًا يجهل دينه وما جاء به نبيه ﵊، لنقضي بذلك على الزعم الشائع بين كثير من الناس أن الأولياء هم أولئك الجهال المخادعون
تصحيح المفاهيم في جوانب العقيدة ... أولًا: الأولياء: الأولياء جمع ولي. الولي من تولى الله أمره وخصه بعنايته لصلاحه لأن الله يتولى الصالحين ويحب المؤمنين ويدافع عنهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفي الحديث القدسي:" من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب ". ويعتبر الصلاح والتقوى من العناصر الأساسية في الولاية ومن مستلزماتها: العلم ونعني بالعلم معرفة الله بأسمائه وصفاته وآلائه جملة وتفصيلًا ومعرفة شرعه الذي جاء به رسوله المصطفى ونبيه المرتضى ﵊. وقد تولى القرآن الكريم تعريف الأولياء بما لا يترك مجالًا للتردد أو التساؤل أو التوقف: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ إذ يقول الله ﷿ من قائل: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ويقول أيضًا: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾ وقد حصر القرآن- كما ترى- الأولياء فيمن يتصفون بصفة التقوى. والتقوى تستلزم العلم والمعرفة - كما قلنا - لأن حقيقة التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات خوفًا من عذاب الله وسخطه وتطلعًا إلى رضائه وجنته وكرامته ولا يتم ذلك إلا بالفقه في الدين، فالخير كله في الفقه في الذين كما أن الشر كله في الجهل بالدين والإعراض عنه. يقول الرسول الكريم في هذا المعنى: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" ولا يخفى على طالب العلم المفهوم المخالف للحديث. وهو أن من لن يرزق الفقه في الدين قد فاته الخير. وماذا بعد الخير إلا الشر؟.. هكذا بين الكتاب والسنة صفات أولياء الرحمن التي منها: العلم والمعرفة والصلاح والتقوى. وذلك يعني أن الأولياء هم العلماء العاملون والفقهاء المبرزون حملة كتاب الله المتبعون لسنة نبيه ﵊ لنخلص إلى القول: بأن الله لم يتخذ وليًا جاهلًا يجهل دينه وما جاء به نبيه ﵊، لنقضي بذلك على الزعم الشائع بين كثير من الناس أن الأولياء هم أولئك الجهال المخادعون
1 / 85
من الكهنة والمشعوذين ومن السحرة أحيانًا الذين يسحرون أعين الناس ثم يتظاهرون بفعل أشياء مثيرة. وهم في الواقع لم يفعلوا شيئًا وكثير من أولئكم الكهنة يستخدمون الشياطين أو على الأصح تستخدمهم الشياطين لتوحي إليهم. وقد تأتي لهم بأموال مسروقة فتظن العامة أنهم من أولياء الرحمن وما يخبرون به أو يأتي إليهم من الأموال من قبيل الكرامات وأنى لهم الكرامة؟ بل الإهانة أولى بهم وحقًا إنهم مهانون إذ حرموا ولاية الله والأنس به ووقعوا في أسر عدو الله الشيطان فأصبحوا أولياءه ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ .
والذي أريد أن أصل إليه أنه لا تلازم بين الولاية وبين ظهور الأمور الخارقة للعادة. وفي هذا المعنى يحكى عن الإمام الشافعي ﵀ قوله:" لو رأيتم رجلًا يسير في الهواء. أو يمشي على الماء لا تقبلوا منه دعوى الولاية حتى تعرضوا أعماله على الكتاب والسنة " أو كلام هذا معناه. يعنى الإمام الشافعي ﵀ أن ظهور الأمور الخارقة للعادة ليس من مستلزمات الولاية بل قد لا تظهر تلك الأمور على أيدي كثير من أولياء الرحمن لأنها ليست من صنع الأولياء. وإنما هي من فعل الرب تعالى الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقد تظهر تلك الأمور على أيدي أناس غير صالحين كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى وكما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله مفصلًا.
وبالجملة من رزق الفقه في الدين يدرك تمامًا إن باب الولاية أوسع مما يظنه كثير من العوام وأشباه العوام الذين ضيقوا مفهوم الولاية بل غيروه فحصروا الولاية في بيوت معينة أو أشخاص معينين. يتظاهرون بالدروشة. وخفة العقل. ومباديء الجنون أحيانًا ويهذون هذيانًا وربما أخبروا الناس عن مكان الضالة وعن بعض الحوادث التي تقع في أماكن بعيدة عن أماكن وجودهم بواسطة شياطينهم التي تنقل إليهم الأخبار من أماكن بعيدة صادقة أو كاذبة. هذا هو مفهوم الولاية عندهم ولا يخفى وجه خطأ هذا المفهوم. وقد استغل القوم جهل العوام فأثبتوا لأنفسهم منصبًا وراثيًا يرثه الأبناء عن الآباء فينتقل إلى الأبناء بطريقة أوتوماتكية (تلقائية) لأن القاعدة تقول كل من كان أبوه وليًا لا بد أن يكون وليًا ولا محالة. لأن الولاية عندهم غير مقيدة بقيود مكتسبة كالعلم والصلاح والتقوى. بل إن واقعهم على العكس من ذلك إذ يتصفون بالجهل والجرأة على الله والخروج على شرعه الابتداع في دينه وكراهة أوليائه وأهل طاعته من العلماء العاملين والدعاة الغيورين.
1 / 86
" أقسام الأولياء "
يتضح لنا مما تقدم أن الأولياء ينقسمون إلى قسمين:
١- أولياء الرحمن الذين تقدم الحديث عنهم وتولى القرآن تعريفهم. وهم الذين تولى الله أمرهم ووفقهم وتفضل عليهم بالكرامات التي من أعظم أنواعها: معرفة الحق واتباعه والاستقامة عليه الاستقامة التي تنتهي بالعبد إلى دار الكرامة الجنة (نسأل الله من فضله) .
٢- أولياء الشيطان الذين وثقوا صلتهم بالشيطان ونظموا معه حياتهم بعد أن قطعوا صلتهم بالله أو ضعفت على الأقل إذ لا يقع العبد في ولاية الشيطان وحزبه مع قوة صلته بربه أبدًا. والله المستعان.
وكما أن أولياء الرحمن تتفاوت درجاتهم عند الله. كذلك يتفاوت أولياء الشيطان في بعدهم عن الله. وذلك أمر معروف بحيث لا يحتاج إلى دليل.
الأمور الخارقة للعادة على أيدي أولياء الشيطان
وقد أوضحنا فيما تقدم أنه لا ملازمة بين الولاية وبين الأمور الخارقة للعادة وأنها قد تظهر على أيدي غير الصالحين. وبقي أن تعرف حقيقة تلك الأمور. فهي تنقسم إلى:
١- قسم يجريه الرب سبحانه على أيديهم استدرجًا ليستدرجهم بها ليزدادوا إثمًا على إثمهم عقوبة لهم على جريمتهم جريمة عبادة الشيطان وطاعته واتخاذه وليًا من دون الله. يستدرجهم من حيث لا يعلمون ويملي لهم ومن يراها أنها من الكرامات فهو إما جاهل أو متجاهل مغلط لحاجة في نفسه.
٢- القسم الثاني: ما يجري على أيدي بعضهم من قبيل السحر. وقد أثبتت التجربة إن كثيرًا من الدجالين مَهَرة في السحر فكثيرًا ما يسحرون أعين الناس فيقوم أحدهم بأعمال غريبة ومثيرة وخارجة عن المعتاد والقانون المتبع في حياة الناس مثل أن يلقي بنفسه في النار ثم يخرج منها قبل أن تحرقه أو تصيبه بأي أذى في جسمه. ومثل أن يتناول جمرة فيأكلها كما يأكل تمرة حلوة والناس ينظرون إليه فيندهشون. أو يمشي على خيط دقيق ممدود بن عمودين مثلًا وغير ذلك من الأعمال التي يعرفها كل من يعرف القوم. وهو في واقع الأمر لم يعمل شيئًا من تلك الأعمال بل كان على حالته
1 / 87
العادية إلا أنه سحر أعين الحاضرين فيخيل إليهم من سحره أنه يفعل شيئًا وأنه يطير أو يذبح نفسه أو يذبح ولده. وكل ذلك لم يقع ولا بعضه.
فالطائفة الأولى المستدرجة والأخرى السحرة هم المعروفون عند السذج من عامة المسلمين أنهم أصحاب الكرامات ولما أدرك القوم أنه قد انطلى على العوام باطلهم هذا لفرط جهل العوام وبعدهم عن الثقافة الإسلامية. استغلوا فيهم هذا الجهل وتلك السذاجة فاتخذوا الولاية المزعومة مزرعة وبابًا من أبواب الدخل. فكما يطور أهل العلم معلوماتهم، وأرباب المهن والصناعات مهنهم وصناعاتهم حتى ينتجوا أحدث المصنوعات كذلك يطور هؤلاء الأولياء أساليب دجلهم وخداعهم ليطير صيتهم وتزداد شهرتهم فيرتفع بذلك دخلهم وهذا الدخل هو الغاية عند القوم من دعوى الولاية والكرامة ومن الخداع المتطور.
ومن أحد أساليبهم المتطورة في هذا العصر أن زعم بعضهم أن هذه التكاليف الشرعية من امتثال المأمورات واجتناب المنهيات. أمور مؤقتة ولها حد تنتهي إليه ثم تسقط وزعم هذا الزاعم أنه قد وصل تلك المنزلة فسقطت عنه جميع الواجبات وأبيحت له جميع المحرمات حيث لا يقال في حقه هذا حرام أو حلال. أو هذا واجب وهذا مستحب. وهو يحاول بذلك أن يقتفي أثر رئيس الملاحدة وقطب وحدة الوجود ابن عربي الطائي وشاعر تلك الملة ابن القارض ويحذو حذوهما. وتبدو الفكرة جديدة ومتطورة لدى كثير من الناس لغرابتها ولما أدخل عليها من بعض الزخرفة والزركشة حتى ظهرت الفكرة كأنها فكرة حديثة وهي في أصلها فكرة قديمة قدم كفر وحدة الوجود التي منشأها تعطيل الصفات على طريقة الجهمية المعروفة وهي فكرة يؤمن بها كل صوفي- وللأسف- ويسعى لها بأنواع من المجاهدة في زعمهم وهو سر انتقادنا للصوفية وشطحاتهم. وما يؤخذ عليهم كثير جدًا لو وسعنا التعداد، ولا يشك كل من له أدنى فقه في الدين إن فكرة وحدة الوجود ملة مغايرة للإسلام وآخر التطورات التي علمناها في هذا الخصوص دعوى محمود محمد طه السوداني حيث زعم أن تلكم الفكرة الإلحادية التي يدعو إليها هي مضمون الرسالة الثانية من الرسالتين المحمديتين على حد زعمه حيث زعم أن الرسول ﵊ بعث برسالتين اثنتين. أما الرسالة الأولى فقد بلغها. وأما الثانية فلم يبلغها. ويعلل ذلك بقوله:
1 / 88
إن القوم الذين بعث فيهم رسول الله أول ما بعث ليسوا على استعداد لفهمها والعمل بها لأن مستواهم العقلي لا يؤهلهم لفهمها. أما الآن وقد نضجت العقول وتقدم الفكر البشري قد آن الآوان للدعوة إليها والعمل بها إلى آخر تلك الجعجعة - المثيرة للضحك والبكاء في وقت واحد. نعم أنها تثير الضحك إذا نظرت إليها ككلام ساقط ليس له أي قيمة علمية وإنما هو هذيان لا ينطلي على العقلاء، ومثيرة للبكاء حيث وصلنا نحن المسلمين إلى هذا المستوى من البرودة وضعف الغيرة على شريعة الله التي يتلاعب بها أمثال محمود ولا يجد رادعًا يوقفه عند حده بل لا توجد غضبة إسلامية يحسب لها حساب في المجالات الرسمية.. والله المستعان.
ولعل بعض الحضور يحسب أنني أتحدث عن أساطير الأولين، وليس الأمر كذلك به إن صاحب هذه الدعوة حتى يرزق بمقربة منا في السودان - كما قلت آنفًا ولا يزال يعلم جادًا لهدم الرسالة الأولى وليقيم على انقاضها الرسالة الثانية المزعومة لو استطاع إلى ذلك سبيلًا - وفي الواقع أن الرجل مدع للنبوة ولكنه لن يستطع التصريح بها خشية أن يغضب الشعب السوداني غضبة إسلامية فتكون نهاية له لكنه لدهائه ولباقته استطاع أن يتظاهر بمظهر المصلح المجدد علمًا بأنه ليس لديه أي جديد بل تنحصر فكرته في عقيدة وحدة الوجود التي يرأسها ابن عربي الطائي الملقب بمحي الدين مع عاشقهم المعروف بابن الفارض ومن يدور في فلكها - كما سبق أن أشرت - مع محاولة السير مع الوادي حيث ما توجه. شرق أم غرب. كعادة المحترفين باسم الدين أو التجديد.
والمسألة في الأصل- كما قلت - نتيجة حتمية لعقيدة غلاة الجهمية الذين يعطلون جميع صفات الرب تعالى وأسمائه حتى لا يبقى هناك إلا ذات مجردة عن جميع الصفات والأسماء التي لا يتصور لها وجود في الخارج أي خارج الذهن وإنما يتصوره الذهن كما يتصور المحال والأمور الخيالية، وهذه العقيدة هي التي أفضت بالقوم إلى القول بالحلول والاتحاد ليتحقق وجود الله خارج الأذهان حالًا في مخلوقاته ومتحدًا معهم هذا هو منشأ الحلول والاتحاد الذي هو آخر منزلة تنتهي إليها الصوفية ولها يسعون وفيها يتنافس المتنافسون منهم وهذه الفكرة كفر باتفاق المسلمين لأنها تجعل الرب سبحانه حالًا في مخلوقاته، بل يرى شارح الطحاوية أن فكرة الحلول والاتحاد أقبح من كفر النصارى لأن النصارى خصوا الحلول بالمسيح وهؤلاء عمموا جميع المخلوقات.
1 / 89
وقديمًا قال زعيمهم ابن عربي:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة
هذا ما تنتهي إليه ولاية أولياء الشيطان وما قبل هذه المنزلة وسائل مفضية إلى هذه الغاية ما أرخصها من غاية وما أقبحها من كفر وهو داء لا علاج له إلا آخر العلاج وآخر العلاج الكى فلا يردع هذا إلالحاد إلا قوة السلطان لأن الله يزع بالسلطان ملا لا يزع بالقرآن كما قال عمر بن الخطاب ﵁ ولكن أين قوة السلطان اليوم؟؟ ! ! إلا ما شاء الله.
الكرامات:
إذا كنا تحدثنا عن الأولياء وصفاتهم وأقسامهم واستطردنا بعض تصرفات أولياء الشيطان التي يظنها بعض الناس أنها من الكرامات وبينا أنها لا علاقة لها بالكرامة إذا كنا قد تحدثنا هذا الحديث فلنتحدث الآن عن الكرامات وعن موقف الناس منها بل قد استطردنا لمفهوم الكرامة لدى أتباع أولياء الشيطان وبينا تصورهم الخاطىء فلنحصر بحثنا هنا في كرامات أولياء الرحمن وتحقيق القول في ذلك بتوفيق الله.
" موقف المعتزلة من كرامات الأولياء "
انقسم الناس في مسألة كرامات أولياء الرحمن إلى قسمين: ناف مثبت وعرفت المعزلة من بين الطوائف المنتسبة إلى الإسلام بنفي كرامات الأولياء بدعوى أن إثباتها يوقع في لبس إذ تلتبس الكرامة بمعجزة الأنبياء. وليس لديهم أي دليل أو شبه دليل سوى هذه الدعوى وهي دعوى- كما ترى- لا تنهض لمقاومة النصوص الصريحة التي سيأتي ذكرها إن شاء الله. وقد ناقشهم كثير من أئمة الهدى الذين عرفوا بمناضلة أهل البدع والهوى وفي مقدمتهم الإمام ابن تيمية في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وكتاب النبوات كما ناقشهم الإمام الشوكاني في بعض رسائله مثل رسالته التي سماها (بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء) ومن أراد الإطلاع على شبههم ودحضها فليراجع تلك المراجع.
1 / 90
" موقف أهل السنة من كرامات الأولياء "
أما أهل السنة فقد أجمعوا على إثبات كرامات الأولياء اعتمادًا على النصوص التي سنذكرها الآن إن شاء الله، وفي الإمكان سرد كلامهم والوقائع التي ذكروها ولكنني أرى الاكتفاء بما جاء في كتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد نضيف إلى آيات الكتاب ما صح عنه ﵊ في السنة المطهرة فنكتفي بذلك لأن فيهما الغنية لمستغن، وقد قص الله علينا في كتابه العزيز عن صالحي المؤمنين الذين لم يكونوا أنبياء وكراماتهم المتنوعة. لنستمع إلى هذا النموذج من كراماتهم:
أ- قصة أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وثبتوا على إيمانهم وسط تلك البيئة الكافرة بعيدين عن المداهنة وقد قص القرآن علينا قصتهم البطولية إذ يقول الله عز من قائل: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ إلى أن قال وهو يصفهم بإيمان والهدى والثبات ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ .
فطبيعي أن هذا ليس موقف أناس عاديين ولكن الله أكرمهم بالإيمان والثبات على الهدى فصارحوا جبابرة قومهم: بأنهم لا يدعون مع الله أحدًا وهو إعلان بالكفر بآلهة قومهم مع الثبات على الإيمان بالله وحده وهذه كرامة وأي كرامة.
ب- قصة مريم التي حكاها القرآن إذ يقول الرب تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ على آخر الآية ويقول في موضع آخر ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ .
جـ - قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار. وقصتهم معروفة لدى جمهور الحاضرين وهم أولئكم الذين خرجوا في سفر ما ولما أدركهم الليل دخلوا غارًا في الجبل ليبيتوا فيه وفي أثناء الليل سقطت صخرة عظيمة من عل فسدت عليهم باب الغار فوقعوا في حيرة من أمرهم فتشاوروا فقرروا أنه لا ينجيهم مما هم فيه إلا الالتجاء إلى الله فيدعونه بالأعمال الصالحة التي عملوها مخلصين له فتوسل أحدهم إلى الله ببر الوالدين إذ كان له أبوان شيخان كبيران وكان يحسن إليهما ويبرهما
1 / 91
كأحسن ولد. ومن بره لهما كان لا يتناول عشاءه هو وأولاده قبلهما وكان عشاؤهم حليب الإبل ومن عادته أن يقدم لهما عشاءهما في وقت مناسب، وفي ذات ليلة نأى به طلب الشجر لإبله. وجاء بعشائهما في وقت متأخر من الليل فوجدهما قد ناما فكره أن يوقظهما خشية أن يقطع عليهما نومهما فيعكر راحتهما كما لم يستحسن أن يتناول عشاءه قبلهما هو وأولاده فظل واقفًا على رأسهما رجاء عن يستيقظا في أثناء الليل ولم يستيقظا إلى أن أصبح الصبح وهو واقف والحليب في يده. فتذكر هذا العمل الجليل فدعا الله به فأكرمه الله وأجاب دعوته فنزلت الصخرة حتى دخل لهم الهواء فطمعوا في الخروج.
وأما الآخر فتوسل إلى الله بعفته والخوف ومن الله وملخص قصته أنه كانت له ابنة عم وكان يحبها كأشد ما يحب الرجل امرأة. فراودها فامتنعت ورفضت طلبه إلى أن ألجأتها الحاجة إليه فقدم لها مبلغًا من المال بقدر مائة وعشرين دينارًا تقريبًا مساعدة لها وسدًا لحاجتها فأعاد المراودة بعد هذا الإحسان- فطالما استعبد الإحسان إنسانًا وألح في طلبه طبعًا وأخيرًا وافقت على تحقيق رغبته تحت الحاجة وتأثير الإحسان ونفسها غير مطمئنة بالمعصية فمكنته من نفسها فقعد منها مقعد الرجل من المرأة فصرخت في وجهه قائلة: اتق الله يا عبد الله لا تفض الخاتم إلا بحقه- تعنى- إلا بنكاح وبطريقة شرعية. هكذا ذكرته بالله فتذكر لأنه مؤمن. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فقام من مقعده ذلكم فورًا مالكًا نفسه قاهرًا شهوته وهواه وهو موقف صعب كما ترون.
هذا ملخص قصة صاحب العفة فقال وهو في الغار اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فأجاب الله دعوته وأكرمه بكرامته فنزلت الصخرة مرة أخرى بيد أنهم لا يقدرون على الخروج. ولكن أملهم أقوى في الخروج من ذي قبل ولا شك.
وأما الثالث: فتوسل إلى الله بحفظ الأمانة إذ عمل عنده أجراء كثيرون فأخذ كل أجير أجرته وذهب إلا واحدًا منهم فترك أجرته وذهب وبعد مدة طويلة جاء فطلب أجرته فقال له: إن كل ما تراه من الإبل والبقر والغنم من أجرتك لأني نميتها لك لما طال غيابك خشية أن تضيع، ولم يصدقه بل قال لا تستهزئ بي يا عبد الله فقال
1 / 92
له لست مستهزئًا بك وإنما الواقع ما قلته لك فسُقْ مالك فأخيرًا أخذ أمانته بنمائها وزيادتها.
فقال الذي حفظ الأمانة: وهو يتوسل إلى الله بعمله هذا اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فأجاب الله دعوته وأكرمه بإخلاصه وصدقه فنزلت الصخرة فخرجوا يمشون. هذا ملخص قصة الثلاثة.
ومما يدل على ثبوت الكرامات من السنة- قوله ﵊؛: " رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " وقصة أسيد بن حضير وعباد بن بشر الأنصاريين وملخصها "أنهما كانا عند النبي ﵊: في ليلة ظلماء فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها. فلما افترق بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله" والقصة في صحيح البخاري في كتاب مناقب الأنصار وقوله ﵊ في حديث أبي هريرة عند البخاري في فضائل الصحابة "لقد كان فيما قبلكم الأمم أناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" وفي لفظ "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر".
واكتفى بهذا المقدار من نصوص الكتاب والسنة التي تثبت دون شك كرمات الأولياء وهناك نصوص أخرى كثير مرفوعة أو موقوفة. وكلها تثبت لكثير من الصحابة رضوان الله عليهم كرامات أكرمهم الله بها. ومن راجع كتب الحديث وكتب السير يرى الشيء الكثير من الوقائع في هذا المعنى. وإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بنا إلى سرد قصص أو روايات لإثبات كرامات الأولياء من أقوال التابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم الناس هذا ليقيني الذي لا يخالطه شك بأنهم أكثر تطلعًا إلى سماع النصوص منكم إلى سماع القصص والحكايات والروايات وهو موقف محمود تغبطون فيه ولله الحمد والمنة.
وبعد لعلى وصلت بهذه المحاولة إلى بيان التصور الصحيح في مسألة الأولياء وكراماتهم على ضوء الكتاب والسنة كي يتبين الحق من الباطل. والحق أبلج والباطل لجلج والحق وسط بين التفريط والإفراط.
1 / 93
" الموقف السليم من الأولياء "
إذا كنا قد تحدثنا عن الأولياء والكرامات وأثبتنا الولاية بشكل واضح ودعمنا حديثنا بنصوص الكتاب والسنة. ثم أثبتنا الكرامات كذلك إثباتًا يعتمد على الكتاب والسنة، بقى أن نفهم ما هو الموقف السليم في معاملة الأولياء في نظر الإسلام؟ وقبل أن أجيب على هذا التساؤل استحسن أن أوضح السبب المثير لهذا التساؤل. وذلك هو موقف جمهور المسلمين المحزن من الأولياء وهو الغلو في الصالحين الذين يصل أحيانًا إلى حد العبادة، بدعوى المحبة والتقدير، ومن يذهب إلى تلك الأضرحة المنتشرة في أكثر عواصم المسلمين ومدنهم يرى عددًا كبيرًا من المسلمين معتكفين عند تلك الأضرحة ليتبركوا بها وبأصحابها وربما وصل هذا التبرك إلى حد الطواف بالضريح بل إلى حد السجود على عتبة الضريح والأدهى والأمر أن يجد هذا السادن الذي يسجد لغير الله ولا يلهج لسانه إلا بذكر صاحب الضريح من يفتى له بجواز ذلك وأنه ليس من باب الشرك وإنما هو من باب محبة الصالحين أو التوسل بهم. وهذا المفتى أو الفتان على الأصح معدود من علماء المسلمين المشار إليهم، والله المستعان وإليه المشتكى.
إنه لموقف خطير: العامي يقع في عبادة غير الله جهلًا والعالم يفتى بجواز ذلك ويجد له تفسيرًا وتأويلًا وتخريجًا، وخطورته تأتي من حيث أصبح الولي ندًا لله في هذا التصور وشريكًا له في استحقاق العبادة باسم المحبة أو التبرك بفتوى ممن ينتسبون إلى العلم ويجهلون حق الله على عباد الله. أعود فأقول: هذا الموقف وهذا التصور الذي يسود صفوف العوام وأشباه العوام هو الذي أثار تساؤلي:
ما هو الموقف السليم من الأولياء؟؟ ! !
فأما الجواب عليه: أن الموقف السليم هو عدم الغلو فيهم مع عدم الجفاء والاستخفاف بهم وإيذائهم. بل الواجب محبتهم في الله وموالاتهم ولك أن تطلب منهم الدعاء في حياتهم ويسمى الاستشفاع بهم أو التوسل بهم. ويجب أن تفرق بين محبتهم في الله ومحبتهم مع الله. ومحبتهم في الله عمل صالح وأما محبتهم مع الله فعمل غير صالح بل هو يريد الشرك أو الشرك ذاته. ويختلف ذلك باختلاف ما يقوم بقلب العبد
1 / 94
وسر التخبط لدى كثير من المسلمين والخلط في عباداتهم هو عدم التفريق بين الحقوق مما جعلهم سيصرفون كثيرًا من حقوق الله على العباد للعباد أنفسهم.
" الحقوق الثلاثة "
إن الدارس لكتاب الله وسنة رسول الله والفاهم لمعنى كلمة التوحيد حق فهمها يستطيع أن يستنتج الحقوق الثلاثة التي يأتي شرحها، ومعرفة تلكم الحقوق تحدد للعبد طريق السير إلى الله والدعوة إليه على بصيرة قبل أن يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ويخرج عن الصراط المستقيم ويتخبط في بنيات الطريق.
١- حق الله على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا في عبادته. وذلك بعد تصور مفهوم العبادة بأوسع نطاقها. وقد وجه النبي ﵊ سؤالًا إلى معاذ ذات مرة هكذا: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ " ولم يسع معاذًا إلا أن يقول: الله ورسوله أعلم فقال النبي ﵊ بعد أن أثار انتباهه ولعل ذلك هو المقصود من السؤال قال:" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا " الحديث، وهو معنى قولنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
٢- حق الرسول على أتباعه الذي يؤخذ من قولهم أشهد أن محمدًا رسول الله وحقيقة ذلك محبة رسول الله ﵊ المحبة الصادقة التي تثمر الطاعة والإتباع وعبادة الله بما جاء به فقط. وهو المعنى الذي يشير إليه الحديث الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين".
٣- حقوق عباد الله الصالحين تلك الحقوق التي نستطيع أن نستنتجها من قوله ﵊:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وقوله ﵊ "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا".الحديث وقوله عليه والصلاة والسلام "من عادى لي وليًا فقد آذنته بحرب". وغير ذلك من النصوص الكثيرة.
فمعرفة هذه الحقوق، ثم إعطاء كل ذي حق حقه أمر له أهميته ولا سيما حق الله على عباده، تجب العناية به علمًا وعملًا لأنه الغاية التي من أجلها خلق الإنسان والتقصير في هذه الغاية ذنب لا يغتفر إلا لمن تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا.
1 / 95
وهذا التقصير واقع من كثير من المسلمين- مع الأسف الشديد- وهو سر اختيارنا لهذه النقطة ضمن النقاط الثلاث. رجاء أن ننبه إلى هذا الخلط الشائع بين جمهور المسلمين من إدخال بعض الحقوق في بعض، وصرف كثير من حقوق رب العالمين لعباد الله الصالحين بدعوى محبتهم كنتيجة لهذا التقصير.
والله المستعان..
النقطة الثانية: الشفاعة:
فلفظ الشفاعة من الألفاظ التي تغير مفهومها عما كان عليه في عرف الصحابة ولغتهم: استشفع أو توسل بفلان أي طلب منه الدعاء لتقضى حاجته عند الله من إنزال المطر أو دفع الضر أو جلب المنفعة، فالإستشفاع بالنبي ﵊ في حياته أو التوسل به هو طلب الدعاء منه، وهذا أمر لا نزاع فيه لدى الصحابة وأتباعهم. وقد كان الصحابة يستشفعون به في عدة مناسبات، مثل مناسبة القحط ليغيثهم الله بدعائه ﵊، وقد يأتي إليه من فقد بصره فيطلب منه الدعاء ليرد الله له بصره فيدعو له النبي ﵊ ويأمر الأعمى أن يدعو الله ليجيب الله دعاء نبيه فيفعل الأعمى ما أمر به فيرد الله له بصره بدعائه ﵊ وشفاعته وشفاعة الأعمى معًا. وقصة الأعمى معروفة لدى طلاب العلم.
وقد كان الأعرابي يأتي إلى النبي ﵊ وهو يخطب خطبة الجمعة فيقول: يا رسول الله انقطعت السبل وهلكت الأموال ادع الله يغيثنا، فيرفع رسول الرحمة يديه إلى السماء فيدعو الله تعالى فيغيثهم الله، هذا وغيره يسمى شفاعة ويسمى توسلًا.
وقد تغير هذا المفهوم لدى كثير من الناس فترى أحدهم يدعو رسول الله ﵊ أو يدعو عبدًا صالحًا يطلب منه مالا يطلب إلا من الحي القيوم يطلب منه شفاء مريضه.. يطلب منه نزول المطر.. يطلب الولد إلى غير ذلك من المطالب.
وإذا قيل له في ذلك قال: هذا استشفاع أو توسل أو هذه محبة الصالحين فلنقارن بين المفهومين: الأعرابي يذهب إلى رسول الله في مسجده فيطلب منه الدعاء، فيقول في طلبه ادع الله يغيثنا والأعمى يتكلف الذهاب إلى النبي ﵊ فيطلب منه الدعاء ليرد الله له بصره.
1 / 96
أما اليوم: قد نرى من يجلس في منزله أينما كان منزله فيطلب نزول المطر أو رد الضالة أو غلبة العدو وما إلى ذلك من المطالب فيقول في طلبه أغثني يا رسول الله أغثنا يا جيلان. المدد يا حسين إلى غير ذلك من العبارات الوثنية التي صارت مألوفة لدى جماهير المسلمين وللأسف الشديد.
أولًا: لا يكلف نفسه بالذهاب إلى من يستشفع به أو يتوسل به.
ثانيًا: يوجه الطلب للمخلوق دون الخالق ثم يسمى هذا الطلب توسلا أو استشفاعًا ولو حاولت توجيهه اتهمت بأنك لا تحب الصالحين وتنكر التوسل بهم بل ولا تحب رسول الله إلى أخر تلك العبارات التقليدية التي يرددها علماء السوء ومقلدوهم الذين حالوا بينهم وبين المفهوم الصحيح في كثير من المعاني الإسلامية عاملهم الله بما يستحقون. كم استغلوا جهل الناس وسذاجتهم وطيبة نفوسهم فصاروا لهم حجر عثرة في سبيل فهم الإسلام.
" المفهوم الصحيح للشفاعة "
نعود فنقول: لا نزاع بين جمهور الأئمة من أهل السنة أنه يجوز أن يستشفع بالنبي ﵊ في الدنيا في حياته كما سبق أن أشرنا إلى قصة الأعرابي وهي في صحيح مسلم. وقصة الأعمى المعروفة عند أهل السنن كما يشفع ﵊ يوم القيامة لأهل الكبائر من أمته الذين استوجبوا النار ليدخلوا الجنة بشفاعته ﵊ ولم ينكر هذه الشفاعة إلا الخوارج والمعتزلة بناء على أصلهم المعروف من أن صاحب الكبيرة مخلد في النار مع الكفار. وهو أصل باطل مصادم للنصوص كما لا يخفى، ومن أعظم الشفاعة لرسول الله ﵊ شفاعته لأهل المحشر حين يعتذر أبو البشر وجميع أولي العزم من الرسل ويقول كل واحد منهم نفسي إن الله قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب من قبله مثله ولن يغضب بعده مثله: نفسي نفسي، في ذلك الموقف الرهيب يتقدم أهل المحشر إلى سيد ولد آدم ﵊ فيطلبون منه الشفاعة عند الله، فيقول عليه الصلاة السلام أنا لها فيسجد تحت عرش الرحمن سجدة طويلة يثني فيها على الله ثناء ويحمده حمدًا كثيرًا ويفتح الله عليه من الثناء مالا يعلمه قبل ذلك كما صح عنه ﵊ في أحاديث الشفاعة ثم يقال له يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه
1 / 97
فيحد الله له حدًا ويتكرر منه ذلك عدة مرات. وقد صح عنه ﵊ عند مسلم وأبي داود قوله: " أنا أول شافع وأول مشفع وأول من ينشق عنه القبر".
وله ﷺ: أنواع من الشفاعات في الآخرة كما ذكرنا أن له أنواعًا من الشفاعات في الدنيا ومعنى الشفاعة في كلتا الدارين لا يخرج عما ذكرنا من أنه طلب الدعاء ويلتقي معنى التوسل والشفاعة عند هذا المعنى بالذات كما اتضح مما تقدم. ومما يؤيد ما ذكرنا أن أصحاب رسول الله الذين رأيناهم يستشفعون برسول الله في حياته: رأيناهم مرة أخرى قد عدلوا عن التوسل والاستشفاع به ﵊ بعد وفاته فجعلوا يتوسل بعضهم ببعض ويستشفع بعضهم ببعض:" ففي عام الرمادة أصيب أهل المدينة بجفاف فجمع عمر بن الخطاب المسلمين في صعيد واحد في المدينة فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدينا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا والآن نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فطلب من العباس عم النبي الدعاء فدعا الله فأغاثهم الله ".
وهكذا فعل معاوية بن أبي سفيان مع الأسود بن اليزيد عندما أصيب المسلمون في الشام بالقحط جمع الناس فطلب من الأسود بن اليزيد أن يدعو الله تعالى فدعا الله تعالى فأجاب دعاءه فأغاثهم الله تعالى ولو كان معنى التوسل عندهم كما يظن هؤلاء العوام وأشباههم من الذهاب إلى قبور الصاحين أو المراد بالتوسل بالصالحين هو التوسل بذواتهم لما عدلوا عنه ﵊ بل لذهبوا إلى قبره فدعوا الله عند قبره أو توسلوا بذاته لأن جسده الطاهر لا يزال في قبره لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء كما صح ذلك عنه ﵊.
فعدولهم رضوان الله عليهم عنه واستشفاع بعضهم ببعض يؤيد ما قررنا من أن معنى الاستشفاع أو التوسل هو طلب الدعاء من الحي الصالح. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد حديثه في هذا المعنى: "يقول العلماء يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح. وإذا كان بأهل بيت الرسول فهو أحسن" كأن شيخ الإسلام يشير على صنيع عمر مع العباس عم النبي ﵊ حيث استسقى به لأنه عم النبي ﵊ كان سر اختياره كونه من أهل بيت الرسول.
1 / 98
" وبعد "
فلو درس المسلمون حياة الصحابة وعرفهم واصطلاحاتهم بل ولغتهم ثم حاولوا أن يطبقوا حياتهم على حياة أولئك السادة لساعدهم ذلك على تصور هذه المعاني التي ساءت فيها مفاهيمهم وأخذوا يخلطون عملًا صالحًا وآخر سيئًا ويتخبطون في عباداتهم وجميع أعمالهم لأن القوم قد باشروا الوحي وأخذوا الإسلام غضًا طريًا عن صاحب الرسالة محمد ﵊.
ولا يخالطنا أدنى شك في أن الصحابة فهموا هذا الدين فهمًا لا مزيد عليه وانحصر الحق فيما فهموه ثم لا يخالطنا أدنى شك بأنهم بلغوه لمن بعدهم كما فهموا وهكذا الذين يلونهم ثم الذين يلونهم بالجملة إلى آخر القرون المفضلة الذين شهد لهم بالخيرية الصادق المصدوق محمد ﵊ حيث يقول: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث. وأخيرًا طرأ على المفاهيم والتصورات ما طرأ فساءت المفاهيم وتغيرت التصورات وحدثت تصورات لا وجود لها عند المسلمين الأولين في عهد الوحي وفي الذين يلونهم ليصدق قوله ﵊ "ما من عام إلا والذي بعده شر منه".. والله المستعان.
ولعل المستمع الكريم استطاع أن يسايرني فيما أردت من بيان المفهوم الصحيح والمفهوم الخاطىء في باب الشفاعة والتوسل، وأنهما بمعنى واحد- ولا يعدوا معناهما طلب الدعاء من الحي الذي يدعو، وأن الخروج بهما عن هذا الإطار إلى دعوة غير الله وما في معناها من أنواع العبادة فمفهوم غير سليم، هذا ملخص ما أردنا أن نقوله في هذه النقطة وإلى النقطة الثالثة والأخيرة بعون الله تعالى.
" السنة النبوية "
أيها الإخوة هكذا نصل إلى النقطة الثالثة من النقاط الثلاث المختارة لحديثنا هذه المرة وهي السنة النبوية. مما لا يختلف فيه اثنان إن ديننا الإسلامي مبني على أصلين اثنين:
الأصل الأول: أن يعبد الله وحده دون أن يشرك به غيره. وهو معنى قولنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
1 / 99
والأصل الثاني: أن يعبد الله بما شرعه على لسان رسوله وخليله محمد ﵊ وهو معنى قولنا: أشهد أن محمدًا رسول الله.
وصحة الأصل الأول تتوقف على تحقيق الأصل الثاني. ويمكن أن نوجز معنى تحقيقه في صدق متابعة رسول الله عليه الصلاة السلام لأن اتبعاه دليل محبة الله ﷿ الذي محبته والأنس به ومراقبته غاية سعي العبد وكده وهي أيضًا جالبة لمحبة الرب عبده ومغفرته له إذ يقول الرب تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ذلك لأنه رسوله المختار ليبلغ عنه دينه الذي شرعه لعباده، وهو المبلغ عنه أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه والدين ما شرعه. والرسول واسطة بين الله وبين عباده في بيان التشريع وما يترتب عليه من وعده ووعيده. وتبليغ وحيه الذي اشتمل على ذلك كله. قرآنًا وسنة. وقد كلف بذلك بقوله تعالى ﴿بَلِّغْ﴾ وبقوله ﴿لِتُبَيِّنَ﴾ وبقوله ﴿ادْعُ﴾ إذ يقول الرب ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ .. ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ .. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ .. ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ الآية.
إن هذه الآي من الذكر الحكيم تعلن بوضوح وظيفة الرسول ﵊ وهي التبليغ والبيان والدعوة إلى الله إلى دينه وشريعته، وهذه الأوامر الربانية الثلاثة تحقق غرضًا واحدًا وهو دلالة الخلق على الطريق الموصل إلى الخالق وهو راض عنهم حتى يكرمهم في دار كرامته لقاء ما قاموا به من أداء التكاليف في هذه الدار حتى يصدق في حقه ﵊ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ .
إنه والله رحمة مهداة ونعمة مسداة ولكن الشأن كل الشأن هل رفع أتباعه رؤوسهم لدراسة سنته كما يجب - مكتفين بها ومتجردين لها- تلك السنة التي هي ذلكم البيان وذلك البلاغ وتلكم الدعوة؟.
هذا هو موضع بحثنا من هذه النقطة؟ ! ولا يشك مسلم ما مهما انحطت منزلته العلمية وضعفت ثقافته وضحلت معرفته أن الرسول الكريم بلغ ما نزل إليه وهو القرآن وذلك لأن الإيمان بأن الله نزل القرآن على محمد ﵊. وأنه بلغه كما
1 / 100
نزل وأنه بين للناس ما يحتاج إلى البيان وأنه دعا الناس إلى سبيل الله ولم يفتر عن الدعوة إلى الله حتى التحق بالرفيق الأعلى.
إن هذا المقدار من الإيمان من أصول هذا الدين وأساسه الذي ينبني عليه كل ما بعده. إذا كنا نؤمن هذا الإيمان - ويجب أن نؤمن - فأين نجد بيانه الذي به يتحقق امتثاله ﵊ لتلك الأوامر ﴿بَلِّغْ﴾ ﴿لِتُبَيِّنَ﴾ ﴿ادْعُ﴾ الجواب نجد ذلك في سنته المطهرة التي قيض الله لها من شاء من عبادة فصانوها وحفظوها من كل قول مختلق وكل معنى مزيف، ليصدق قوله تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ والذكر المنزل المحفوظ هو القرآن في الدرجة الأولى وتدخل السنة في الدرجة الثانية عند التحقيق وإمعان النظر! !
وهذه السنة التي يتم بها البيان المطلوب هي أقواله وأفعاله وتقريراته.
" الآحاد والمتواتر "
في أثناء الفتوحات الإسلامية الواسعة دخلت على المسلمين اصطلاحات أجنبية بواسطة الكتب اليونانية التي ترجمت إلى اللغة العربية في عدة علوم ومن أخطرها علم المنطق والفلسفة، فدخلت تلكم البحوث والاصطلاحات في الإلهيات، فأفسدت على الناس جوانب خطيرة من عقيدتهم لأنها وجدت تشجيعًا رسميًا ودعمًا قويًا من الخلفاء المعاصرين وفي مقدمتهم المأمون العباسي الذي تعرفون موقفه من كبار علماء المسلمين والأئمة البارزين كالإمام أحمد بن حنبل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد حديثه عن موقف المأمون:" ما أظن الله غافلًا عما فعل المأمون بعقيدة المسلمين ".
ومن تلكم الاصطلاحات الغربية والدخيلة تقسيم الأحاديث النبوية إلى ظنية وقطعية كخطوة أولى في سحب ثقة المسلمين من أحاديث نبيهم.
فزعموا أن الآحاد من الأحاديث لا تقيد العلم ولا يجوز الاستدلال بها في باب العقيدة، وإنما يستدل في هذا الباب بالأدلة القطعية، وهي الأحاديث المتواترة أو الآيات القرآنية، وقد انطلى- وللأسف الشديد- على علماء الكلام هذا القول المزخرف لضعف بضاعتهم في علوم السنة وانشغالهم بالاصطلاحات الكلامية عن الكتاب والسنة،
1 / 101
ثم جعل المتأخرون من علماء الأصول يتناقلون فيما بينهم هذا الاصطلاح وهذه الدعوى مما جعل جمهور الخلف يعتقد هذا الاعتقاد، وظن الناس أن هذا هو معتقد المسلمين سلفًا وخلفًا. وخشية أن يفطن بعض الحذاق لهذا الخداع المقنع خطوا خطوة أخرى كذر للرماد في العيون. فقالوا قولة حق أرادوا بها الباطل وهي قولتهم المشهورة "أن طريقة السلف أسلم" وأوهموا الناس أن طريقة السلف مجرد سرد النصوص دون فهم لمعانيها حتى أطلق عليها بعضهم "أنها طريقة العوام" وأما الطريقة المثلي التي فيها التحقيق والتدقيق هي طريقة الخلف، ولما هدأوا الجمهور بعباراتهم تلك مضوا في طريقهم في إفساد عقيدة المسلمين وإبعادهم عن سنة نبيهم ولم يقف القوم عند هذا الحد بل خطوا خطوة أخرى أخطر من التي قبلها إذ قالوا: إن باب العقيدة باب خطير ومبحث هذا الباب أساس في الإسلام فلا ينبغي أن يستدل فيه إلا بدليل قطعي لا يتطرق إليه النسخ ولا يخضع للتخصيص أو التقييد. ألا وهو الدليل العقلي هذه هي الغاية في تدرجهم، وأنت ترى أن مفهوم الدليل القطعي قد تغير، فبينما كان المراد به في الخطوة الأولى الأحاديث المتواترة أو الآيات القرآنية فإذا يراد به هنا الدليل العقلي فقط. وأما الأدلة اللفظية أو النقلية قرآنًا وسنة فلا تنهض للاستدلال بها استقلالًا في هذا الباب. وإنما يستأنس بها إن وافقت الأدلة العقلية القطعية. هكذا تدرج القوم في أسلوبهم إلى أن عزلوا نصوص الكتاب والسنة عن وظيفتها وهي هداية الناس ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ والسنة مثل القرآن في الهداية "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما. كتاب الله وسنتي"، "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري!! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" رواه الترمذي، وفي لفظ "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإن ما حرمه الرسول مثل ما حرمه الله" أو كما قال..
وعلى الرغم من هذا النصوص وغيرها من النصوص التي تصرخ بأعلى صوتها بأن الهداية كل الهداية والخير كل الخير في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفي سنة رسوله المبينة للقرآن المفصلة ما أجمل فيه المقيدة لإطلاقه على الرغم من ذلك كله قد التمس القوم الهدى في غير وحي الله فأضلهم الله عقوبة لإعراضهم عنه واستخفافهم بشرعه. وفي حديث على بن أبي طالب عند الترمذي
1 / 102