Reasons and Etiquettes of Disagreement
الخلاف أسبابه وآدابه
প্রকাশক
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
জনগুলি
الخلاف أسبابه وآدابه إعداد
د. عائض القرني
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد. . .
1 / 1
فيقول سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ هود (١١٨-١١٩) .
قال بعض العلماء: أي للاختلاف خلقهم.
والصحيح أن الله ﷾ خلق الخلق للعبادة؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات (٥٦) . فخلقهم سبحانه للعبادة لا للاختلاف، لكن من سنته ﷾ في الكون أنه ميز بين كل شيء، فميز بين الأطعمة والأمزجة والألوان والأفكار.
فجعل الحلو والحامض، وجعل الظلمة والنور، وجعل الليل والنهار، وجعل الحار والبارد.
وجعل ﷾ من آياته التي تثبت تدبيره للكون ﷾ وخلقه له، وبديع صنعه فيه: اختلاف الألسنة والألوان، فقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ الروم (٢٢) فتبارك الله أحسن الخالقين، وسبحان الذي يُغير ولا يتغير.
1 / 2
وكما أن الخلاف يقع في الكون بأكمله، فهو لا شك واقع في المجتمع الصغير بدءا بالأسرة، ثم القرية، ثم المدينة، ثم الشعب، ثم الأمة، ثم المعمورة.
فلا بد أن يقف الإنسان بتعقل أمام سنة الله ﷾ في الاختلاف.
1 / 3
وقد اخترت الحديث عن هذا الموضوع (الاختلاف) لأنه قد كثر في عالم الشباب، وانتشر مع التنابز والفرقة والخوض في الأعراض والنيل من الفضلاء. فكان لا بد لعلماء الإسلام ودعاته أن يتصدوا لهذه الظاهرة المتفشية.
ولقد تأملت الخلاف بأنواعه واستعرضته أمام خاطري فرأيت أن سبب الخلاف العام هو وجود الخطأ، فهو (أي الخطأ) بوابة الخلاف الرئيسة حتى وإن كان هناك - حقيقة - أبواب رئيسة أخرى تكبر بوابة الخطأ قد تكون هي سبب الخلاف الحاصل؛ مثل: بوابة الحسد أو البغض أو غير ذلك من الأسباب، ولكن يظل الخطأ هو السبب المتفق عليه سواء كان ذلك حقيقة أو تلبيسا لإخفاء حقيقة لا يحب المخالف أن يظهرها، فيفرغ ما بداخله بحجة أن فلانا أخطأ أو انحرف عن الطريق، والله وحده هو الذي يعلم السرائر، ولكن يجب أن نذكر أنفسنا بقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كان هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (١)، والأجر والحساب عند الله علام الغيوب.
_________
(١) أخرجه البخاري (١)، ومسلم (١٩٠٧)،وأخرجه أبو داود (٢٢٠١) والترمذي (١٦٤٧) والنسائي١ / ٥٩-٦٠. انظر كتاب الجمع بين الصحيحين للموصلي رقم (٢٨٥٧) .
1 / 4
فأقول: ما دام أن الخطأ والوقوع فيه هو البوابة الأم لوقوع الخلاف، لذلك كان لازما على من أراد أن يتكلم عن ردة الفعل أن يدرس ويسأل عن الفعل أصله. وهنا نقول بأن الخلاف ردة فعل لفعل أو لسبب الوقوع في الخطأ. إذا لا بد أن نقدم بين يدي هذا الموضوع (الخلاف أسبابه وآدابه) كلمةً عن الخطأ تمهيدا فقط، حتى لا يطغى على موضوع الكتاب.
إن الخطأ أمر متوقع ومأخوذ في الحسبان في إمكانية حدوثه بكل أشكاله وصوره ودرجاته من بني آدم إلا من عصمه الله تعالى، وقد جاءت السنة المطهرة بتحقيق ذلك في قوله ﷺ: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (١) .
_________
(١) أخرجه الترمذي (كتاب صفة القيام رقم ٢٤٩٩) وقال: حديث غريب. تحقيق كمال الحوت، وابن ماجة (كتاب الزهد رقم ٤٢٥١) تحقيق خليل مأمون شيحا، وأحمد (٣ / ١٩٨) .
1 / 5
وهذا الحديث لو شرحناه شرحا وافيا لكان كافيا لتوضيح الخطأ من حيث واقعية حدوثه، ومن حيث إنه الضابط العظيم الذي يربط بإذن الله المرجئة والجبرية وأشباههم أو حتى من كان على غير ملة الرسول ﷺ، وهو قوله ﷺ: «خير الخطائين التوابون» حتى لا يفهم أن حتمية الخطأ على ابن آدم ذريعة للوقوع في مخالفات شرعية على مختلف أشكالها أو على الأقل الاستمرارية في ممارسة الأخطاء، وحتى لا يفهم الحديث خطأ فإن الحديث الشريف لا يعني تساهل الإنسان بالوقوع في الأخطاء بحجة أنه خطّاء، فلم يفهم الصحابة والسلف الصالح ﵃ هذا الفهم الغريب، بل كانوا يسعون في الأرض إصلاحًا وطاعةً لرب العباد، وإذا أخطؤوا تابوا، ولكن من رحمة الله - تعالى - على الإنسان أنه إذا أخطأ رجع وتاب، فإن خير الخطائين التوابون، وبالتالي فإن حصول الخطأ من الناس وارد؛ فهم ليسوا بمعصومين وإنما المعصوم هم الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام.
1 / 6
أولا- المرحلة القبلية للخطأ
وأقصد بذلك المرحلة التي تسبق الحكم بخطأ الشيء:
١- التحري والتبين والتثبت من الخبر:
وقد أمرنا الله - تعالى - بضرورة التبين والتثبت من الأخبار لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ الحجرات (٦) . ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ النساء (٩٤) .
ولقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ الإسراء (٣٦)
ولقوله ﷺ: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (١) .
وقد ذكر الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في كتابه رياض الصالحين باب الحث على التثبت فيما يقوله ويحكيه حديثا عن سمرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (٢) .
_________
(١) مسلم ١ / ١٠ (٥)؛ كتاب الجمع بين الصحيحين للموصلي تحقيق د. علي حسين البواب ٢ / ٣٤٠.
(٢) مسلم:المقدمة ١ / ٩، كتاب الجمع بين الصحيحين السابق، ج٢، ص٣٤١.
1 / 7
ومن التثبت طلب سند الكلام؛ أي تقول للناقل: من أخبرك بهذا الكلام؟ أو ما مستندك؟ وهذه الخصيصة من أهم خصائص أمة محمد ﷺ، فتجدها في العلاقات الاجتماعية بين الناس، وتجدها في طلب العلم بكل فنونه، فهم على سبيل المثال لا يقبلون قول أي إنسان في علم الحديث ما لم يعرف عند علماء الرجال وهذا نوع من التثبت والتحقق.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى:" الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء فإذا قيل له من حدثك بقي " (١) أي اتضح وانكشف.
٢ - معرفة حال الناقل:
وهنا يتأتى وزن ناقل الخبر من حيث القبول أو الرد، ومن ذلك الصدق والعدالة والضبط والإتقان والأمانة والاحتياط من مرض التحاسد بين الأقران والمعاصرين، وفي ذلك يقول الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى - في ترجمة عفان الصفار: (كلام النظير والأقران ينبغي أن يتأمل ويتأنى فيه) (٢) .
_________
(١) صحيح مسلم.
(٢) ميزان الاعتدال (ج٣، ص ٨١) انظر: فقه التعامل مع الأخطاء، د. عبد الرحمن مدخلي، ص ٣٣- ٣٩.
1 / 8
وكما مر معنا في النقطة السابقة فإن معرفة حال الناقل ضرورة لا بد منها في تلقي الأخبار سواء الشرعية وهي الأصل والأهم، أو حتى الأخبار الاجتماعية التي تدور داخل المجتمعات؛ وذلك لأن المعرفة التامة بحال القائلين تخرج - بإذن الله تعالى- أولئك الكاذبين المرجفين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ الحجرات (٦) . كذلك من معرفة حال الناقل ومعرفة ظروفه المحيطة سواء النفسية الداخلية أو الخارجية فربما يكون سبب نقل هذه المعلومة الخاطئة من هذا الثقة أمرًا خارجًا عن إرادته وأهليته قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ النحل (١٠٦) . ولا أريد أن أطيل كثيرًا لعل الصورة وضحت، ولكن المهم هنا معرفة حال الناقل سواء كان فردًا أو جماعة معرفة تامة.
٣- عرض هذا الأمر على الأصول:
1 / 9
الخطوة الثانية - بعد التثبت أن هذا الأمر حصل فعلًا - ينبغي عرض هذا الأمر الذي أرى أنه خطأ على الأصول (كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ بالفهم النبوي الشريف وفهم الصحابة الكرام، فإنه سوف يتضح هذا الأمر فإن كان صحيحًا أقر وإن كان خطأ رفض أو صُحح.
يقول ﵎: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ النساء (٥٩) . والرد إلى لله - تعالى - هو الردُّ لكتابه الكريم، والرد للرسول ﷺ هو الرد لسنته المطهرة ﷺ.
ومن لوازم معرفة الأصول المعرفة الصحيحة العرض على العلماء لأنهم (ورثة الأنبياء)، وهم أهل الذكر الذين أمرنا الله - تعالى - بسؤالهم لقوله سبحانه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل (٤٣) وبالتالي يتضح الأمر جليًا بإذن الله تعالى.
٤- الروية وعدم التسرع في الحكم:
1 / 10
ينبغي عدم التسرع في إطلاق الأحكام على الناس حتى نرى الحقيقة جلية ونسلك المسالك الشرعية في معالجة الأخطاء، ولا نتعجل النتائج فقد دعا الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - أقوامهم سنين طويلة، وذلك لأن التسرع في إطلاق الأحكام وبخاصة غير المحببة ربما يكون فيه ظلمٌ وتعدٍّ على الآخرين؛ لأن بناء الحكم ينبغي له التأني والمرور بخطوات سابقة تجعلك بإذن الله - تعالى - قوي الموقف في هذه القضية، حتى وإن كان هذا القائل كافرا، يقول شيخ الإسلام: " والظلم محرم في كل حال فلا يحل لأحد أن يظلم أحدًا ولو كان كافرا " (١) .
٥- معرفة حال الفاعل وظروفه:
ومن ذلك أن يسأل الشخص المقصود بالأمر بما وصل إلينا عنه، ويأخذ رأيه، ويقول له: يا فلان، وصلنا عنكم كذا ولم نصدق، فنحن نعرف منهجكم ونعرف فضلكم في سبيل الخير، وكل ذلك بلين ورحمة وتواضع وابتسامة، قال - تعالى - في رسوله ﷺ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ آل عمران (١٥٩) .
_________
(١) الفتاوى، ج١٩، ص: ٤٤٠.
1 / 11
وهذا منهج سلوكي يجب أن نتبعه ما دمنا مسلمين متابعين لرسول الله ﷺ، فإنه بعد ذلك سوف يوضح لك هذا الشخص وجهة نظره ورؤيته للأمر، أو ينفي علاقته بتلك المخالفة، أو حتى يقلع عن المخالفة فورًا بلا حوار، فلعل الرجل لديه شبهة أو قرأ فكرة منحرفة خدشت سلوكه ومبادئه، أو طرأ عليه طارئ لا تعلمه فوق استطاعته كان سببًا فيما سمعتَ أو نُقل إليك من خلاف عنه، وفي قصة حاطب ﵁ عندما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخطة الرسول ﷺ: (وهذا فعل خطير)، وأراد عمر ﵁ قتله لأنه رأى أن هذا العمل نفاق، ولكن الرسول ﷺ قال لحاطب: «ما هذا يا حاطب؟)، قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، إني كنت امرءًا من قريش ولم أكن من أنفَسِهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي. وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، فقال النبي ﷺ: (إنه قد صدقكم)، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال ﷺ: إنه شهد بدرًا وما يدريك لعل
1 / 12
الله ﷿ اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (١) .
إذًا لا بد من معرفة رأي المخالف ومعرفة تصوره حتى يكون حوارنا على أسس سليمة ومتينة.
_________
(١) صحيح البخاري عناية الشيخ محمد علي القطب والشيخ هشام البخاري ج٣، ومختصر صحيح مسلم للمنذري في فضائل الصحابة ﵃ (١٧٢٠) بلفظ أقرب جدًّا.
1 / 13
ثانيًا - المرحلة البعدية للخطأ
وهذه المرحلة تأتي بعد مشوار طويل من التحقق والرجوع والتأصيل والنظر، فإذا ثبت أن الأمر المنقول كان خطأ فإنه يجب تصحيحه بالطرق الشرعية، وتنحصر هذه المرحلة في ضرورة الوصول للمخالف وتصحيح الأمر إلى الصواب سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، ولنعلم أن صاحب هذا الخطأ يعد مخالفًا وإن كان الخلاف يسيرا، فإننا نتكلم عن مبادئ وبالتالي دخلنا في دائرة الخلاف سواء كان الخلاف سائغًا أو غير سائغ، وينتقل الأمر إلى مواجه تتطلب آدابًا سيأتي ذكرها لاحقًا بمشيئة الله تعالى.
وقبل الشروع في الحديث عن الخلاف أود الإشارة إلى أنني تركت التقسيمات والتنويعات سواء للأخطاء أو للخلاف فإن الأخطاء فيها ما هو كبير جدًا يدخل في المعتقدات، ومنها ما يدخل في العبادة والسلوك وما إلى ذلك.
وكذلك الخلاف منه ما هو سائغ كالخلاف بين المذاهب السنية في مسألة فرعية في الفقه مثلًا، ومن الخلاف ما هو غير سائغ بل محرم كخلاف الكفار والمبتدعة ونحو ذلك (١) .
_________
(١) للتوسع في أقسام الخلاف انظر: فقه الخلاف. د / عوض القرني.
1 / 14
وذلك حتى لا أطيل المقام وحتى لا أكرر كثيرا مما كتب، وإنما يستطيع القارئ - إن شاء الله تعالى - أن يعرف النوع والدرجة عند حديثي عن الأسباب والآداب للخلاف، فليس من المعقول أن يفهم القارئ عند حديثي عن أسباب الخلاف أن الحسد من أسباب الخلاف المحمود أو المساغ لا، بل أحسبه يفهم أن هذا من أسباب الخلاف المحرم ونحو هذا. والله أعلم.
1 / 15
أسباب الخلاف أولا - وجود الخطأ أصلا
إن وجود الخطأ كما ذكرنا آنفا سبب قوي في نشوء الخلاف، يكبر الخلاف معه ويصغر، وهو يشكل علاقةً مطردةً، لذلك أهل السنة والجماعة على خلاف مع الفِرَق المبتدعة سواءً الأشاعرة أو المعتزلة أو القدرية أو الجبرية أو الرافضة أو الخوارج أو الصوفية، وذلك بسبب أخطاء تلك الفرق المبتدعة، والخلاف معهم ليس بدرجة الخلاف الذي يكون مع الزنادقة والكفرة والملاحدة، كما أن الخلاف هنا مع ضخامته ضد أهل الضلال والزيغ، فإنك تجده محجمًا بين المذاهب السنية الأربعة المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة، وذلك لأن الأخطاء الواقعة كانت في مسائل فقهية فرعية، فهم لم يختلفوا بحمد الله في مسائل عقدية كالمبتدعة، وبالتالي كان الخلاف بينهم صغيرًا وبسيطًا، يتحقق فيهم قوله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (١) . ولكن يظل خلافًا يجب رده للكتاب والسنة.
_________
(١) أخرجه البخاري (٧٣٥٢) ومسلم (١٧١٦) عن عمرو بن العاص ﵁.
1 / 16
ثانيًا - البغي والعدوان
البغي بغير علم وبغير هدي، فإنك تجد بعض الناس يحب أن يبغي على الآخرين، لأن من طبيعته العدوان، فهو كبعض الحيات التي تحتوي على السم، فإذا لم تلدغ في السنة مرة ماتت. فتجد بعض الناس كهذه الفصيلة مع الآخرين.
فهو كما يقول زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يُهدَّم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
وهذا البيت أوله صواب، ولكن آخره خطأ؛ لأنه يدعو إلى الظلم والعدوان.
والذي يخالف دائمًا بهوى، وبدون حق يبغضه الخالق. والذي يحب أن يخالف بحق فله مكانته ورأيه.
قال ﷾: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ آل عمران (١٩) .
وقال سبحانه: ﴿جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ البقرة (٨٩)
فاليهود يشهدون أن محمدا ﵊ رسول من عند الله، فلما جاءهم بالعلم كفروا بغيًا وعدوانًا.
1 / 17
ثالثًا - الحسد
قال ﷾: ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ (البقرة (١٠٩)
والحسد يسري في أهل المهن المتشابهة،والمتقاربين في السن، والزملاء والأقران، إلا من رحم الله، فتجد الشيخ يخالف الشيخ، والطالب يخالف الطالب، والمهندس يخالف المهندس، والطبيب يخالف الطبيب، والشاعر يخالف الشاعر. .
وكثير من الأشياء لها أضداد تخالفها حتى الحديد وهو أقوى الأشياء.
قيل لأحد الحكماء: ما أقوى شيء خلقه الله؟
قال: أقوى شيء خلقه الله ﷾ هو الجبال.
قالوا: وما أقوى من الجبال؟
قال: الحديد.
قالوا: وما أقوى من الحديد؟
قال: الريح.
ولذلك يقول ﷾: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ الأحقاف (٢٥)
وأثبت ذلك العلم الحديث.
قالوا: فما أقوى من الريح؟ قال: الصمت.
فالصمت أقوى من الريح، ولذلك يقول (البردوني) يُحيي الرسول ﵊ ويحيي دعوته:
بُشرى من الغيب ألقت في فم الغارِ ... وحيًا وأفضتْ إلى الدنيا بأسرارِ
بشرى النبوة طافت كالشذا سحرًا ... وأعلنت في الدنا ميلادَ أنوارِ
1 / 18
وشقَّت الصمتَ والأنسامُ تحملها ... تحت السكينة من دارٍ إلى دارِ
فالمقصود: أن الحسد يحمل بعض الناس إلى أن يخالف غيره، ولو كان الحق مع المخالف. وهذا مذهب بني إسرائيل، والعياذ بالله، فهم يحسدون الناس كما قال ﷾: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ النساء (٥٤) .
وبنو الإسلام يقع فيهم الحسد كما يقع في غيرهم، ولو كانوا مؤمنين.
وكثيرًا ما يقع الحسد بين الأقران:
إن العرانيين تلقاها محسدةً ... ولا ترى لِلِئام الناس حُسَّادا
وكتب ابن الوزير العالم اليمني لعمه رسالةً يشكو فيها من حسد الأقران، فرد عليه عمُّه وقال:
وشكوت من ظلم الوشاة ولن تجد ... ذا سؤددٍ إلا أصيب بحسَّدِ
لا زلت يا ابن الكرام محسَّدًا ... والتافه المسكين غير محسَّدِ
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟
قال: ويلك!! أنسيت قصة أبناء يعقوب لما حسدوا يوسف ﵇؟
قال: فماذا أفعل؟
قال: إذا حسدت فلا تبغ.
1 / 19
رابعًا - الكبر
وهذا أوضحه، وقد عرفه النبي ﷺ بقوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» (١) بطر الحق أي ردّه، وغمط الناس: أي احتقارهم.
فتجد بعض الناس، لا ينظر إلى الآخرين لأجل هذا الكبر.
تقول له: السلام عليكم ورحمة الله. . . فلا يرد لأنه من فصيلةٍ أخرى، فدمه دم آخر. فإذا نصحته غضب عليك، وأخذته العزة بالإثم؛ لأنه يرى أن مثله لا ينصح.
فهذا هو رد الحق وبطره.
وما حمل أبا جهل على رد دعوة الرسول ﷺ إلا الكبر، وكذلك الوليد بن المغيرة، وكذلك الطغاة من قبلهما كفرعون وقارون وهامان.
لقد كان أبو جهل يعلم أن محمدًا ﷺ صادق ورسولٌ من عند الله ﷿، لكنه كان يقول: إذا قال بنو هاشم: عندنا النبوة فماذا نقول؟ فانظر إلى الكبر والعياذ بالله.
قال ﷾: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ الأنعام (٣٣) .
وقال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ الأعراف (١٤٦) .
_________
(١) جزء من حديث عند مسلم برقم (٩١) بشرح النووي ج٢، وأخرجه أبو داود برقم (٤٠٩١)، والترمذي برقم (١٩٩٩)، بتحقيق كمال الحوت بلفظ قريب جدًّا.
1 / 20