فإذا ما دعوت اليوم إلى الفهم النفسي للأدب والأديب، بل إلى رفع قواعد «المدرسة النفسية للأدب» فليس ذلك عمل اليوم، ولا بادي الرأي، بل هي حلقات متصلة يشد أولها آخرها، وترى الاتصال بينها قويا متسقا، ومن هنا أهديت هذا الرأي ... إلى الذين يرفعون القواعد من المدرسة النفسية في دراسة الأدب.»
ثم البيئة ... أيضا
وإذ تردد الحديث عن المنهج الأدبي وتحريره وتكميله، وقد سبقت قبل الآن كلمتي عن «إقليمية الأدب»، وشدة تأثر الفن ببيئته، وضرورة مراعاة ذلك في درس الأدب وتاريخه، فلعلك سائلي: أفلا يكون إذن أهدى لدرس «أبي العلاء» أن يقوم به أحد أبناء بيئته؟ فأجيبك: أن نعم ... لكن هناك أشياء في هذا الدرس، وفي الأديب المدروس ينبغي أن تقدرها.
فأما في الدرس: فإني إنما حاولت فهم الكيان النفسي لأبي العلاء، وتبين سمات شخصيته الفنية قبل كل شيء، وتركت ما وراء ذلك من بقية الدرس لأدبه: لفظا، ومعنى، وموضوعا، وفي ذلك يكون ابن بيئته أهدى مني وهو باق له.
وأما في المدروس: فهناك معنيان كبيران يحلان لي درس صاحبنا:
أولهما:
أنه حين أغمض عينيه مبكرا عما حوله من ظواهر الوجود قد عكف على باطنه يستلهم مذخوره ومحفوظه، فخف نوعا ما، أثر البيئة المادية عليه، واعتمد على أقدار مشتركة من الميراث الأدبي للعربية، جعلت الصلة بينه وبين أبناء البيئات الأخرى قريبة قوية.
وثانيهما:
وهو الأجل الأخطر، أن أبا العلاء في أدب العربية قد تفرد - أو كاد - بجعل الفن القولي - كما ينبغي أن يكون الفن - أداة لفهم الكون والإنسان، كما كان الدين، وكانت الفلسفة، وكان العلم، وكان غير ذلك، من محاولات إنسانية خالدة، وبذلك أخضع مشكلات الحياة والكون الكبرى لتأمل المتفنن ووجدانه، وأشرف من ذلك على آفاق بعيدة تلاقي آفاق التفلسف والتدين والتصوف في سعتها، فدنا - بذلك كله - من نفوس متفهمي الإنسانية جميعا، بله متذوقي أدب العربية، وساغ لكل مستمتع بالفن متأمل في الوجود أن يجول في آثار أبي العلاء فيجد الخفقات الكبرى للروح الإنسانية، ويبصر من أسرار هذا الهيكل البشري ما تكشفه له أضواء الخبرة النفسية.
وبهذا القدر كان أبو العلاء قريبا من البيئات العربية - بل الشرقية أو غير الشرقية أيضا - قربا لا يقصر درسه على أبناء بيئته.
অজানা পৃষ্ঠা