وعدت إلى جبران، وما رآني حتى أقمر ليله وابتدرني قائلا: انقضى غرضي يا أستاذي. - ومن أين عرفت؟ - من وجهك الضاحك وعينيك.
وثاني يوم كان جبران بين تلاميذي على مقعد التدريس، وقدامي على المكتب كتابة منه: قبل مرور ثلاثة أشهر لا تسألني عن شيء، وبعد ذلك سل ما تشاء ...
لم يكن جبران وقت إلقاء الأمثولة يفتح كتابه، بل كان أذنا وعينا، وتلك الأذن العطشى لا ترتوي، وتلك العين لا تشبع. وكان يختلف إلي حينا إثر حين يلقي علي الأسئلة ويستشيرني في انتقاء كتب المطالعة، فحولته على كليلة ودمنة، والأغاني، ومقدمة ابن خلدون، ونهج البلاغة، ورسائل بديع الزمان، والدرر لأديب إسحق، والمتنبي، والبهاء زهير، والتوراة ... ودرس الطبيعة وطبائع البشر وأخلاقهم وعاداتهم والتواريخ.
وكان يأتيني بمقالات من عندياته يستقل بها، فأرى منها جسما متناسق الأعضاء عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يشاكل المعنى، فأمشي معه في ثقافته مشية من يرى تلميذه أكبر من تلميذ. وضعت له هذه القاعدة: فكر طويلا، واكتب قليلا؛ تكتسب كثيرا، إلى أن تفيض القريحة فيضا.
ومن أول مقال له أدركت ما هو جبران وقلت له: إنك صائر شاعرا مطبوعا، وكاتبا خياليا؛ فاتق الله. إلى الأمام.
وكان جبران ينمو في أسلوبه نمو الحورة، وينبثق انبثاق الحوض، ومعه تقوى الروح الوثابة العابثة المتمردة.
وفي آخر السنة تركت المدرسة ولم أعد أذكر إلى أين أتجه، إلى أن أهدى إلي كتابه وعليه العبارة: «أنت أولى بأولى بواكيري.» فكتبت إليه في بعض نقط فقطع الحبل ... وكل ما أقوله: لا تتعجل بنشر نقد جبران قبل أن تلم به من كل ناحية. وجبران كان يحذق فن التصوير وهو في المدرسة.
لا أقدر أن أبدي رأيي في جبران؛ لأني لم أطالع تآليفه كناقد، ولا جلد لي اليوم، بل أعتقد أنك بدرسك له الدقيق تجد الغث والسمين، وعسى نقدك أن يكون نظير عصا موسى وراء عصي سحرة مصر ... إن شاء الله الذي لا توفيق إلا منه.
ابن عمتك الخوري
9 آذار سنة 1936
অজানা পৃষ্ঠা