ماذا؟! كره الله جميع ما أمر به اليهود بالغ العناية مفصلا تفصيلا عجيبا! أليس أصح من هذا أن يقال إن شريعة موسى قامت على المحبة والعبادة؟ قد ينطوي رد كل شيء إلى حب الله على ما هو أقل من مقت كل ينسيني لقريبه الموليني. (21)
وأهم شيء للحياة هو اختيار مهنة، والحكم في ذلك للنصيب، والعادة هي التي تصنع البنائين والجنود المسقفين.
وما الذي يستطيع أن يقضي في أمر الجنود والبنائين وجميع العمال الميكانيين إن لم يكن ما يسمى النصيب والعادة؟ ولا يوجد غير المهن القائمة على العبقرية ما يعين تعيينا تلقائيا، وأما المهن التي يستطيع جميع الناس أن يقوموا بها فإن من الطبيعي جدا، ومن المعقول جدا، أن تحكم العادة في أمرها. (22)
وليفحص كل واحد فكرة، فهو يجده مشغولا بالماضي والمستقبل دائما، ونحن لا نكاد نفكر في الحاضر مطلقا، ونحن إذا ما فكرنا فيه؛ فذلك لكي نقتبس من نوره ما نحكم به في أمر المستقبل، فليس الحاضر غرضنا مطلقا، ونعد الماضي والحاضر وسيلتين لنا، والمستقبل وحده هو هدفنا.
ولنشكر، مع الابتعاد عن التوجع، لصانع الطبيعة إنعامه علينا بهذه الغريزة التي تمضي بنا إلى المستقبل بلا انقطاع، فأثمن كنز لدى الإنسان هو هذا الأمل الذي يلطف أحزاننا، والذي يصور لنا ملاذ المستقبل في موكب الملاذ الحاضرة، ولو كان الناس من الشقاء ما لا يبالون معه بغير الحاضر ما زرعوا مطلقا، وما بنوا مطلقا، وما غرسوا مطلقا، وما استعدوا لشيء مطلقا، ولأعوزهم كل شيء بين هذا التمتع الخادع، وهل كان يمكن ذكيا مثل مسيو بسكال أن يبدي مثل ذلك الرأي الفاسد في مكان عام؟ فالطبيعة قضت بأن يتمتع كل إنسان بالحاضر، وذلك بأن يتغذى وينسل أولادا وأن يصغي إلى الأصوات العذبة وأن يعمل ملكة التفكير والإحساس فيه، فهو إذا ما قام بهذه الأحوال فكر في أمر الغد في أثناء قيامه بهذه غالبا، وإلا هلك اليوم بؤسا. (23)
ولكنني عندما نظرت إلى ذلك عن كثب، وجدت أن ابتعاد الناس عن الراحة والسكون إلى أنفسهم ناشئ عن سبب فعال؛ أي عن الشقاء الطبيعي الملازم لضعفنا وزوالنا وبؤسنا البالغ الذي لا يستطيع شيء أن يسلينا عنه لو لم يوجد ما يمنعنا من التفكير فيه، ولو قصر أمرنا على غير رؤية أنفسنا.
لا تجد أي معنى لكلمة «غير رؤية أنفسنا.»
وما يكون الإنسان الذي لا يسعى مطلقا، والذي يفترض إنعام نظره في نفسه؟ لا أقتصر على القول بأن هذا الإنسان يكون غبيا غير نافع للمجتمع، بل أقول: إن هذا الإنسان لا يمكن أن يكون، وإلا ففيم ينعم النظر؟ أفي جسمه ورجليه ويديه وحواسه الخمس؟ هو إما أن يكون غبيا وإما أن ينتفع بجميع هذا، وهل يقف عند تأمل ملكة تفكيره؟ هو إما ألا يفكر في شيء، وإما أن يفكر في الآراء التي كانت قد أتته، وإما أن يؤلف آراء جديدة، والواقع أنه لا يمكن أن ينال أفكارا من غير الخارج، وهكذا ترى باله مشغولا بحواسه أو بآرائه بحكم الضرورة إذن، وهكذا تراه خارج نفسه أو غبيا إذن.
ونعود فنقول: إن مما يتعذر على الطبيعة البشرية أن يبقى الإنسان غارقا في هذا الخيل الخيالي، وإن من المحال أن يفكر فيه، وإن من الحماقة أن يدعي ذلك، فالإنسان ولد ليعمل، وهو في هذا كالنار التي تميل إلى الصعود، والحجر الذي يميل إلى السقوط، ولا فرق بين عدم العمل وعدم الوجود نظرا إلى الإنسان، والفرق كل الفرق بين الأشاغيل اللطيفة والأشاغيل الصاخبة، وبين الأشاغيل الخطرة والأشاغيل النافعة. (24)
وللناس غريزة خفية تحملهم على طلب التسلية والشغل في الخارج، وتأتيهم من شعورهم ببؤسهم الدائم، وللناس غريزة خفية أخرى تبقى من طبيعتهم الأولى، فيعرفون بها أن السعادة ليست في غير الراحة بالحقيقة.
অজানা পৃষ্ঠা