ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم والحصر لهم، فيعمهم إذاؤه ويشملهم ضنكه ويسوء عليه حالهم، وتشتد به المؤنة عليهم وتخبث له ظنونهم، وليكن موضع إنزاله إياهم مستديرا ضاما جامعا، ولا يكون منتشرا ممتدا فيشق ذلك على أصحاب الأحراس، ويكون فيه النهزة للعدو والبعد من المادة إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته وأوعز إليه في أحراسه، ومره فليول عليهم رجلا ركينا مجربا جريء الإقدام ذكي الصرامة جلد الجوارح بصيرا بموضع أحراسه، غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهة والسعة وتقدم العسكر أو التأخر عنه؛ فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك، وأمنه به على جيشه.
واعلم أن موضع الأحراس من موضعك ومكانها من جندك، بحيث الغناء عنهم والرد عليهم، والحفظ لهم والكلاءة لمن بغتهم طارقا وأرادهم مخاتلا، ومراصدها المنسل منها الآبق من أرقائهم وأعبدهم وحفظ العيون والجواسيس من عدوهم، واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه على الصرامة لمواصرتك في كل أمر حادث وطارق إلا في الملم النازل والحدث العام؛ فإنك إذا فعلت ذلك به دعوته إلى نصحك، واستوليت على محض ضميره في طاعتك، وأجهد نفسه في ترتيبك وإغاثتك. وكان ثقتك وزينك وقوتك ودعامتك، وتفرغت لمكايدة عدوك مريحا نفسك من هم ذلك، والعناية به ملق عنك مؤنة باهظة وسلفة فادحة، إن شاء الله.
ثم اعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام، ولا يمثله أحد من الولاة لما يجري على يديه من مغالظ الأحكام ومجاري الحدود، فليكن من توليه القضاء بين أهل العسكر من ذوي الخير في القناعة والعفاف والنزاهة والفهم، والوقار والعصمة والورع والبصر بوجوه القضايا ومواقعها قد حنكته السن، وأيدته التجربة وأحكمته الأمور، ممن لا يتصنع للولاية ويستعد للنهزة ويجترئ على المحاباة في الحكم والمداهنة في القضاء ، عدل الأمانة عفيف الطعمة حسن الإنصات، فهم القلب ورع الضمير متخشع السمت هادي الوقار محتسبا للخير، ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه وفرغه لما حملته وأعنه على ما وليته؛ فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وثواب الآخرة، أو شرف العاجلة وحظوة الآجلة إن حسنت نيته، وصدقت رويته وصحت سريرته، وسلط حكم الله على رعيته، منفذا قضاءه في خلقه عاملا بسنته في شرائعه آخذا بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك ومعسكرك بحيث ولايتك، وفي الموضع الجارية أحكامه عليهم النافذة أقضيته بينهم، فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه، إن شاء الله.
ثم تقدم في طلائعك؛ فإنه أول مكيدتك ورأس حربك ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة، وبأس وصرامة وخبرة وحماة كفاة قد صلوا بالحرب وتذاوقوا سجالها، وشربوا من مرارة كئوسها وتجرعوا غصص درتها وزبنتهم بتكرارها، وحملتهم على أصعب مراكبها، ثم اتبعهم على عينك واعرض كراعهم بنفسك، وتوخ في انتقائهم ظهور الجلد وسجاحة الخلق وجمال الآلة، وإياك أن تقبل من دوابهم إلا إناث الخيول مهلوبة؛ فإنها أسرع طلبا وأنجى مهربا وأبعد في اللحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقداما، ونجذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد شاكة السنخ، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير وأسوق الحديد، مموهة الركب محكمة الطبع خفيفة الصوغ، وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي رقاق المعطف، بأكف وافية وعمل محكم، وبلق البيض مذهبة ومجردة فارسية الصوغ خالصة الجوهر سابغة الملبس وافية اللين، مستديرة الطبع، مبهمة السرد، وافية الوزن كتريك النعام في الصنعة، معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ؛ فإنها أهيب لعدوهم وأفت لأعضاد من لقيهم، والمعلم مخشي محذور، له بديهة وادعة معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات، مسنونة الشحذ غير كليلة المشحذ مشطبة الضرائب، معتدلة الجواهر صافية الصفائح، لم يدخلها وهن الطبع، ولا عابها أمت الصوغ، ولا شانها خفة الوزن، ولا فدح حاملها بهور الثقل، قد أشرعوا لدن القنا طوال الهوادي زرق الأسنة مستوية الثعالب، وميضها متوقد، وشحذها متلهب، معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم، أجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة، وعقدها حنكة، شطبة الأسنان، محكمة الجلاء مموهة الأطراف، مستحدة الجنبات، دقاق الأطراف، ليس فيها التواء أود، ولا أمت وصم، ولا لها سقط عيب، ولا عنها وقوع أمنية مستحقب كنائن النبل، وقسي الشوحط والنبع، أعرابية التعقيب، رومية النصول؛ فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع وأشك في الحديد، سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفين من الآلة والأمتعة، إلا ما غناء لا بهم عنه.
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم إلى أحد من أعوانك أو كتابك؛ فإنك إن وكلته إليهم أضعت موضع الحزم، وفرطت حيث الرأي، ووقفت دون الحزم، ودخل عملك ضياع الوهن وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين، ولا عدة ولا حصنا يدرءون به ويكتنفون بموضعه.
واعلم أن الطلائع عيون وحصون للمسلمين: فهم أول مكيدتك، وعروة أمرك، وزمام حربك، فليكن اعتناؤك بهم، بحيث هم من مهم عملك ومكيدة حربك، ثم انتخب لهم رجلا للولاية عليهم، بعيد الصوت مشهور الفضل نبيه الذكر له في العدو وقعات معروفات وأيام طوال وصولات متقدمات، قد عرفت نكايته وحذرت شوكته وهيب صوته، وتنكب لقاؤه، أمين السريرة ناصح الغيب، قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته من لين طباعه، وخالص المودة، ونكاية الصرامة وغلوب الشهامة، واستجماع القوة وحصافة التدبير، ثم تقدم إليه في حسن سياستهم واستنزال طاعتهم واجتلاب موداتهم واستعداد ضمائرهم وأجر عليهم أرزاقا تسعهم، وتمد من أطماعهم سوى أرزاقهم في العامة، وفي ذلك من القوة لك عليهم والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمن معك وأقمعها مكمنا، وأشجى لعدوك، ومتى يكن في البأس والثقة والجلد والطاعة والقوة والنصيحة، حيث وصفت لك وأمرتك به تضع عنك مؤنة الهم، وترخي عن خناقك دروع الخوف، وتلتجئ إلى أمر متين، وظهر قوي وأمر حازم تأمن به فجآت عدوك، ويصير إليك علم أحوالهم ومتقدمات خيولهم، فانتخبهم رأي عين، وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علامتك، وحصانة كهوفك ، وقوة سيارة عسكرك، وإياك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة أو تحتمله على هوادة، أو تقدمه منهم لأثرة، وأن يكون مع أحد منهم بغل نقل أو فضل من الظهر أو ثقل فادح، فيشتد عليهم مؤنة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به عن عدوهم إن دهمهم منه رائع، أو فاجأهم لهم طليعة، فتفقد ذلك محكما له، وتقدم فيه آخذا بالحزم في إمضائه - أرشدك الله لإصابة الحظ، ووفقك ليمن التدبير.
ولدراجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافهم، ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشرف محمود الخبرة معروف النجدة، ذا سن وتجربة، لين الطاعة قديم النصيحة مأمون السريرة، له بصيرة في الحق تقدمه، ونية صادقة عن الادهان تحجزه واضمم إليه عدة من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه، ثم تقدم إليه في إخراج المصاف وإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف وشدة الحذر.
ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم، كل قائد بإزاء موضعه، وحيث منزله قد شد ما بينه وبين صاحبه بالرماح شارعة والتراس موضونة، والرجال راصدة ذاكية الأحراس وجلة الروع، خائفة طوارق العدو وبياته، ثم مره أن يخرج كل ليلة قائدا من أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيرا على غلوة أو غلوتين من عسكرك، محيطا بمنزلك ذاكية أحراسه؛ قلقه التردد مفرطة الحذر، معدة للروع متأهبة للقتال آخذة على أطراف العسكر ونواحيه، متفرقين في أخلافهم كردوسا كردوسا يستقبل بعضهم بعضا في الاختلاف ويكسع متقدما في التردد، فاجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوبا معروفة وحصصا مفروضة، لا يعد منه مزدلفا بمودة، ولا يتحامل على أحد فيه بموجدة، إن شاء الله.
অজানা পৃষ্ঠা