ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة مذمات أو في نار
واعلم بأن مثل هذه الأبيات إذا سمعها أكثر الناس ظنوا وتوهموا أنه ليست لذة ولا نعيم ولا فرح ولا سرور غير هذه المحسوسات التي يشاهدونها، وأن الذي أخبرت به الأنبياء - عليهم السلام - من نعيم الجنات ولذات أهلها باطل، والذي أخبرت به الحكماء من سرور عالم الأرواح وفضله وشرفه كذب وزور ليست له حقيقة، فيقعون في شكوك وحيرة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تؤمن للأنبياء - عليهم السلام - بما أخبروك عنه من نعيم الجنان ولذات أهلها، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح، ورضيت بما تخيل لك الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة؛ بقيت متحيرا شاكا ضالا مضلا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الأنبياء - عليهم السلام - في وضعهم النواميس والشرائع، وغرض الحكماء في وضع السياسات ليس هو إصلاح أمور الدنيا فحسب، بل غرضهم جميعا في ذلك إصلاح الدين والدنيا جميعا، فأما غرضهم الأقصى فهو نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها وإيصالها إلى سعادة الآخرة ونعيم أهلها.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إنه إذا وصلت معاني النغمات والألحان إلى أفكار النفوس بطريق السمع وتصورت فيها رسوم تلك المعاني التي كانت مستودعة في تلك الألحان والنغمات؛ استغني عن وجودها في الهواء كما يستغنى عن المكتوب في الألواح إذا فهم وحفظ ما كان فيها مكتوبا من المعاني.
وهكذا يكون حكم النفوس الجزئية إذا ما هي تمت وكملت، وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها مع هذه الأجسام، فعند ذلك هدمت أجسامها إما بموت طبيعي أو عرضي، أو بقربان في سبيل الله تعالى، واستخرجت تلك النفوس من الأجسام كما يستخرج الدر من الصدف، والجنين من الرحم، والحب من الأكمام، والثمرة من القشرة، واستؤنف بها أمر آخر، كما يستأنف بالدر أمر آخر إذا رمي بالصدف وحصل الدر، وهكذا حكم الثمار والحب إذا أدركت ونضجت، فليس إلا الصرام والحصاد والرمي بقشورها وتحصيل لبها ويستأنف بها حكم آخر، وهذا حكم النفوس بعد مفارقة الأجسام يراد بها أمر آخر كما ذكر الله تعالى: @QUR027 أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون.
هكذا أيضا حكم نفوس الحيوانات بعد الذبح يستأنف بها أمر آخر، فلا تقدر يا أخي بأن غرض واضعي النواميس في تحليل ذبح البهائم في الهياكل عند القرابين إنما هو لأكل لحومها حسب، بل غرضهم تخليص نفوسها من دركات جهنم عالم الكون والفساد ونقلها من حال النقص إلى حال التمام والكمال في الصورة الإنسانية التي هي أتم وأكمل صورة تحت فلك القمر، وهذه الصورة هي آخر باب في جهنم عالم الكون والفساد، كما بينا في رسالة حكمة الموت.
فانظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتفكر واعلم بأن جسمك صدف ونفسك درة ثمينة لا تغفل عنها، فإن لها قيمة عظيمة عند بارئها وخالقها، وقد بلغت آخر باب في جهنم، فإن بادرت وتزودت وسعيت وخرجت من هذا الباب الذي ظاهره من قبله العذاب، ودخلت من الباب الذي باطنه فيه الرحمة، ساجدا في صورة الملائكة؛ فقد أفلحت وفزت ونجوت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن صورة الملائكة هي التي توفى نفسك عند مفارقة الجسد، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR011 قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ملك الموت هو قابلة الأرواح وداية النفوس، كما أن الداية للأجسام هي قابلة الأطفال.
واعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح، كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة، قال الله تعالى: @QUR06 ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين، وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية.
অজানা পৃষ্ঠা