واعلم يا أخي أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع، فمنها الملل والدول التي يستدل عليها من القرانات الكبار التي تكون في كل ألف سنة بالتقريب مرة واحدة، ومنها أن تنتقل المملكة من أمير إلى أمير، ومن أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت آخر، وهي التي يستدل عليها وعلى حدوثها من القرانات التي تكون في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة، ومنها تبدل الأشخاص على سرير الملك، وما يحدث بأسباب ذلك من الحروب والفتن التي يستدل عليها من القرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة واحدة، ومنها الحوادث والكائنات التي تحدث في كل سنة من الرخص والغلاء والجدب والخصب والحدثان والبلاء والوباء والموتان والقحط والأمراض والأعلال والسلامة منها، ويستدل على حدوثها من تحاويل سني العالم التي تؤرخ بها التقاويم، ومنها حوادث الأيام شهرا شهرا ويوما يوما التي يستدل عليها من الأوقات والاجتماعات والاستقبالات التي تؤرخ بها في التقاويم، ومنها أحكام المواليد لواحد واحد من الناس في تحاويل سنيهم بحسب ما يوجبه لهم تشكل الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم وتحاويل سنيهم، ومنها الاستدلال على الخفيات من الأمور كالخبر والسرقة واستخراج الضمير والمسائل التي يستدل عليها من طالع وقت المسألة والسؤال عنها.
واعلم يا أخي أنه ليس في معرفة الكائنات قبل كونها صلاح لكل واحد من الناس؛ لأن في ذلك تنغيصا للعيش واستجلابا للهم واستشعارا للخوف والحزن والمصائب قبل حلولها، وإنما نظر الحكماء في هذا العلم وبحثهم عن هذه السرائر ليرضوا بذلك نفوسهم، ويستعينوا بهذا العلم على الترقي إلى ما هو أشرف منه وأجل؛ وذلك أن الإنسان العاقل المحصل المستيقظ القلب إذا نظر في هذا العلم وبحث عن هذا السر وعن أسبابه وعلله واعتبرها بقلب سليم من حب الدنيا انتبهت نفسه من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وانتعشت وانبعثت من موت الخطيئة، وانفتحت لها عين البصيرة، فأبصرت عند ذلك تصاريف الأمور، وعرفت حقائق الموجودات، ورأت بعين اليقين الدار الآخرة، وتحققت أمر المعاد، وعلمت عند ذلك بها ومن أجلها وتشوفت إليها، وزهدت في الكون في الدنيا، فعند ذلك تهون عليها مصائب الدنيا، فلا تغتم ولا تجزع ولا تحزن إذا علمت موجبات أحكام الفلك من المخاوف والمصائب، كما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. وتصديق ذلك قول الله تعالى: @QUR010 لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.
واعلم يا أخي أن في معرفة علم النجوم فوائد كثيرة، فمنها: أن الإنسان إذا علم ما يكون من حادث في المستقبل أو كائن بعد الأيام؛ أمكنه أن يدفع عن نفسه بعضها لا بأن يمنع ويدفع كونها ولكن يتحرز منها أو يستعد لها كما يفعل سائر الناس ويستعدون لدفع برد الشتاء بجمع الدثار ولحر الصيف بأخذ الكن ولسني الغلاء بالادخار ولمواضع الفتن بالهرب منها والبعد عنها وترك الأسفار عند المخاوف وما شاكل ذلك، مع علمهم بأنهم لا يصيبهم منها إلا ما كتب الله لهم وعليهم.
وخصلة أخرى أيضا، وهي أنه متى علم الناس الحوادث قبل كونها أمكنهم أن يدفعوها قبل نزولها بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى والتوبة والإنابة إليه وبالصوم والصلاة والقربان والسؤال إياه أن يصرف ما يخافون نزوله ويرفع ويدفع عنهم ما يحذرون منه.
واعلم يا أخي أنك إن نظرت في أسرار النواميس، وتأملت سنن الشرائع وأحكام الديانات، علمت وتبين لك أن أجل أغراض واضعي النواميس كان هذا الذي ذكرت لك، وذلك أن موسى - عليه السلام - أوصى بني إسرائيل، فقال لهم: احفظوا شرائع التوراة التي أنزل الله علي واعملوا بوصاياها، فإن الله تعالى يسمع دعائكم، ويرخص أسعاركم، ويخصب بلادكم، ويكثر أموالكم وأولادكم، ويكف عنكم شر أعدائكم، ومتى خفتم حوادث الأيام ومصائب الزمان، فتوبوا إلى الله جميعا توبة نصوحا، واستغفروا، وصلوا له، وصوموا، وتصدقوا في السر والعلانية، وادعوه خوفا وتضرعا حتى يصرف عنكم شر ما تخافون، ويدفع عنكم ما تحذرون، ويكشف عنكم ما ينزل بكم من محن الدنيا ومصائبها وحوادث أيامها، وعلى هذا المثال كانت وصية المسيح - عليه السلام - لأصحابه الحواريين، ولا حاجة بنا أن نكرر وصية محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
•••
واعلم أن الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل الورع والمتنسكين قد نهوا عن النظر في علم النجوم وإنما نهوا عنه؛ لأن علم النجوم جزء من علم الفلسفة، ويكره النظر في علوم الفلسفة للأحداث والصبيان وكل من لم يتعلم علم الدين ولا يعرف من أحكام الشريعة قدر ما يحتاج إليه وما هو فرض عليه ولا يسعه جهله وتركه، فأما من قد تعلم علم الشريعة وعرف أحكام الدين وتحقق أمر الناموس، فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده في علم الدين تحققا، وفي أمر المعاد استبصارا وبثواب الآخرة وبالعقاب الشديد يقينا، وإليها اشتياقا وفي الآخرة رغبة وإلى الله تعالى قربة، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا طريق السداد وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد.
(تمت الرسالة الثالثة في الأسطرنوميا من رسائل إخوان الصفاء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.)
الرسالة الرابعة في الجغرافيا
بسم الله الرحمن الرحيم
অজানা পৃষ্ঠা