كان من المستحيل في تلك اللحظة أن أخبره أنني لا أريد نباتا؛ إنني أكره النباتات المنزلية. أخبرني كيفية الاعتناء بها، وكم مرة ينبغي ريها وما إلى ذلك؛ شكرته. لم يكن بوسعي فعل شيء آخر، وترسخ لدي شعور منفر بأن وراء ما يقدمه من اعتذارات وهدايا إدراكا جيدا لموقفي هذا، وأن هذا بطريقة ما أشعره بالرضى. واصل حديثه، مستخدما كلمات «مشاعر سلبية»، «مستاءة»، «أعتذر». حاولت مرة مقاطعته، بنية أن أوضح له أنني قد أعددت لمنطقة في حياتي لا تدخلها مشاعر سلبية أو إيجابية، وأن بيني وبينه - في واقع الأمر - لا داعي لأية مشاعر من الأساس؛ لكن جال بخاطري أن هذه خطوة مستحيلة. كيف سأواجه علانية هذا التوق للتودد؟ هذا إلى جانب أن النبتة في ورقها اللامع تثير في شعورا بالحيرة.
قال لي بأسلوب من يضع كافة الاختلافات التعيسة بيننا وراء ظهره: «كيف تبلين في الكتابة؟» «أبلي فيها كالمعتاد.» «حسنا، إذا نفدت ذخيرتك من الأشياء التي تريدين الكتابة عنها يوما، فلدي مخزون هائل منها.» صمت برهة ثم قال بشيء من الابتهاج الأليم: «لكن أعتقد أنني أستنفد وقتك هنا.» كان ذلك اختبارا لي، لكني لم أجتزه. ابتسمت، محدقة في تلك النبتة، وقلت إنه لا بأس. «كنت أفكر توا في الرجل الذي مكث هنا قبلك. اختصاصي المعالجة اليدوية. كان بإمكانك تأليف كتاب عنه.»
اعتدلت متخذة وضعية إنصات، وتوقفت يدي عن الحوم فوق المفاتيح؛ حيث إنه إذا كان الجبن وعدم الصدق أسوأ عيوبي، فالفضول بالتأكيد عيب آخر. «لقد أسس عيادة ناجحة هنا، لكن المشكلة الوحيدة أنه كان يجري تقويمات أكثر من تلك المدرجة في كتاب تقويم العمود الفقري بالمعالجة اليدوية. أوه، كان يقوم جميع أجزاء الجسم. جئت إلى هنا بعد أن رحل وماذا وجدت في ظنك؟ أجهزة عازلة للصوت! كانت هذه الحجرة بكاملها مزودة بأجهزة عازلة للصوت، كي يجري عمليات التقويم دون أن يزعج أحد. هذه الحجرة التي تجلسين فيها لكتابة قصصك.
علمنا بالأمر للمرة الأولى عندما طرقت سيدة بابنا ذات يوم، وطلبت أن أعطيها المفتاح الرئيسي لعيادته؛ فقد أغلق الباب في وجهها.
أعتقد أنه قد سئم من معالجة حالتها. أعتقد أنه أدرك أنه أخذ يدق على عظامها لوقت طويل. كانت سيدة متقدمة في العمر، وهو لا يزال شابا. كانت له زوجة شابة جميلة وطفلان من أجمل الأطفال الذين يمكنك رؤيتهم. هذا جزء قذر من الأشياء التي تجري في هذا العالم.»
استغرقت بعض الوقت كي أدرك أنه لم يخبرني بتلك القصة من قبيل النميمة ببساطة، بل باعتبارها شيئا سيهتم أي كاتب بالاستماع إليه. كانت ثمة صلة لذيذة غامضة بين الكتابة والفسق في ذهنه. مع ذلك، حتى هذه الفكرة، بدت كئيبة للغاية، وطفولية للغاية، حتى إنه خطر ببالي أن في انتقادها إهدارا للطاقة. أدركت حينئذ أنني يجب أن أتحاشى إيذاء مشاعره إكراما لي، وليس له. لقد كان خطأ جسيما اعتقادي أن قليلا من الغلظة سيسوي الأمور. •••
كانت الهدية التالية إبريق شاي. أصررت على أنني لا أحتسي سوى القهوة، وطلبت منه أن يعطيه لزوجته. قال إن الشاي أفضل لتهدئة الأعصاب، وإنه قد أدرك على الفور أنني شخص عصبي، مثله. كان إبريق الشاي مطليا بالذهب ومزخرفا بالورود، أدركت أنه ليس زهيد الثمن، على الرغم من قبحه الشديد، واحتفظت به فوق الطاولة. كذلك واظبت على الاعتناء بالنبتة التي ترعرعت إلى حد مثير للاشمئزاز في زاوية حجرتي. لم أستطع تحديد ما يمكنني فعله أكثر من ذلك. ابتاع لي سلة مهملات، سلة فاخرة نقشت فاكهة اليوسفي الصينية على جهاتها الثماني، وأحضر لي وسادة مطاطية لأضعها على مقعدي. ازدريت نفسي لأنني استسلمت لهذا الابتزاز. إنني حتى لم أشفق عليه في الحقيقة؛ كل ما في الأمر أنني لم أستطع صده، لم أستطع صد ذاك الاشتهاء الذليل. وقد أدرك بنفسه أنه قد اشترى قدرتي على الاحتمال، بطريقة كان يجب أن يمقتني بسببها.
في ذلك الوقت، حينما كان يتلكأ في مكتبي، كان يخبرني قصصا عن نفسه، وتبادر إلى ذهني أنه يكشف لي عن حياته على أمل أن أكتبها. بالطبع، ربما يكون قد كشف عنها أمام كثيرين من الناس دون سبب معين، لكن في حالتي بدا أن ثمة ضرورة خاصة، بل وملحة. كانت حياته سلسلة من النكبات، كما هي حياة الناس في الغالب؛ فقد خذله أشخاص وضع ثقته بهم، ورفض مساعدته أشخاص اعتمد عليهم، وخانه نفس الأشخاص الذين أحسن إليهم وقدم لهم مساعدات مادية. وحمل آخرون - ممن لم يكونوا سوى غرباء وعابري سبيل - على عاتقهم تعذيبه بلا مبرر بأساليب جديدة ومبتكرة. بين الحين والآخر، تعرضت حياته للتهديد، فضلا عن ذلك، كانت زوجته إحدى صعوبات حياته، مع صحتها المعتلة ومزاجها المتقلب؛ فماذا كان بيده أن يفعل؟ قال لي وهو يرفع يده: «ها أنت ترين كيف تجري الأمور، لكني على قيد الحياة رغم كل شيء.» ونظر إلي لأوافقه الرأي.
بدأت ألجأ لصعود الدرج على أطراف أصابعي، محاولة إدخال المفتاح دون إصدار صوت؛ كان تصرفا أحمق بالطبع لأنني لا أستطيع كتم صوت الآلة الكاتبة. فكرت بالفعل في الكتابة بخط اليد، وتمنيت مرارا وجود ذلك الجهاز العازل للصوت الذي كان يملكه إخصائي المعالجة اليدوية البارع. أخبرت زوجي بالمشكلة، فقال إنها ليست بمشكلة على الإطلاق. قال لي: أخبريه بأنك منشغلة. في واقع الأمر أخبرته بذلك فعلا؛ في كل مرة كان يأتي إلى بابي - مسلحا على الدوام بهدية صغيرة أو عذر ما - ويسألني كيف حالي، أخبره أنني اليوم منشغلة، وحينها كان يقول وهو يجتاز الباب في سلاسة إنه لن يأخذ من وقتي أكثر من دقيقة. وطيلة الوقت - كما قلت - كان يعلم ما يدور بخلدي، وكم كنت أتوق في وهن إلى التخلص منه. كان يدرك ذلك لكنه لم يكن يعبأ بالأمر . •••
ذات مساء بعد أن عدت إلى المنزل اكتشفت أنني تركت في المكتب خطابا أنوي إرساله بالبريد؛ لذا عدت إلى المكتب لأحضره. من الشارع رأيت النور مضاء في الحجرة التي أعمل بها، ثم رأيته منحنيا فوق الطاولة القابلة للطي. بالطبع كان يأتي ليلا ويقرأ ما أكتبه!
অজানা পৃষ্ঠা