غزلت أمي نسيجا على شكل مربعات لصنع غطاء صوفي، بجميع درجات اللون البنفسجي. كانت القطع المغزولة تسقط بين أغطية السرير دون أن تهتم بذلك. وما إن تنتهي منها حتى تنسى أمرها. لقد نسيت جميع قصصها التي كانت تدور حول أمراء البرج، والملكة التي قطع رأسها فيما كان كلب صغير يختبئ تحت ثوبها، وملكة أخرى مصت السم من جرح زوجها، وأيضا قصص أخرى عن طفولتها، وهو وقت لا أراه أسطوريا شأنه شأن غيره من الأوقات. بعد أن تولت ماري رعايتها، كانت تئن على نحو طفولي: «ماري، أتوق شوقا لأن تدلكي لي ظهري.» «ماري، هل من الممكن أن تصنعي كوبا من الشاي لي؟ أشعر أنني إذا احتسيت مزيدا من الشاي فسأثب من مكاني إلى السقف، كبالون ضخم، لكن تعلمين أن هذا كل ما أريد.» قالت ماري: «أنت لن تثبي إلى أي مكان. نحتاج إلى رافعة لتحريكك. هلمي الآن، انهضي، ستسوء حالتك قبل أن تتعافي!» ثم أبعدتني عن السرير وبدأت في جذب الملاءات بحركات عنيفة. «أنت ترهقين أمك. ماذا تريدين إزعاج أمك به في هذا اليوم الجميل؟» قالت أمي في دفاع واهن وغير صادق: «أظن أنها تشعر بالوحدة.» قالت ماري بأسلوبها المهيب الغامض المتوعد: «ستشعر بالوحدة في الفناء تماما كما تشعر هنا. ارتدي ملابسك واذهبي إلى الخارج!»
تغير أبي أيضا منذ أن جاءت ماري. عندما كان يأتي إلى الحجرة ليتناول وجباته كانت تنتظره دائما، فمزحة مع أبي تجعلها تتورم كضفدع كبير، فتبدو بمظهر شرس ويحمر وجهها. كانت تضع حبات الفاصوليا البيضاء غير المطهوة في حسائه، قاسية كالحصى، وتترقب لترى هل ستجعله آداب الطعام يأكلها أم لا. كانت تلصق شيئا بقاع كوبه الزجاجي كي يبدو كالذبابة، وتعطيه شوكة بسن ناقص وتتظاهر أنه من قبيل الصدفة. فيقذفها عليها، دون أن تصيب الهدف، مما أفزعني على نحو هائل. كان أمي وأبي يتحدثان بهدوء وبجدية عندما يتناولان العشاء، لكن في عائلة أبي حتى الراشدون يمارسون الحيل بالديدان والخنافس المطاطية، ودائما ما تدعى العمات السمينات للجلوس على مقاعد متداعية، والأعمام يخرجون الريح على الملأ ويقولون: «ووه! إلى أين؟» فخورين بأنفسهم كما لو أنهم عزفوا بالصفير لحنا مركبا. لا أحد قد يسأل عن عمرك دون إغاظتك بلغو فارغ؛ لذا كان أبي يعود إلى السلوكيات العائلية مع ماري ماكويد، مثلما عاد إلى تناول أكوام من البطاطا المقلية ولحم الخنزير المملح وفطائر الطحين السميكة، واحتساء الشاي السادة والمركز كالدواء من إبريق الشاي المعدني، وهو يقول في امتنان: «ماري، تعلمين ما يجب على الرجل تناوله!» مضيفا: «ألا تظنين أنه آن الأوان ليكون لك رجل تطعمينه؟» وهو ما جلب عليه، ليس شوكة مقذوفة، بل منشفة تنظيف الأطباق.
دوما ما تتركز إغاظته لماري على الأزواج. كان يقول: «فكرت في زوج لك هذا الصباح! أنا لا أخدعك الآن يا ماري، عليك أن تفكري في الأمر.» يبدأ ضحكها أولا في صورة نفخات غاضبة بسيطة وزمجرات من بين شفتيها المغلقتين، فيما يزداد احمرار وجهها أكثر مما يمكن توقعه، وينتفض جسدها، وتهمهم في توعد وهي جالسة على كرسيها. ليس ثمة شك أنها استمتعت بكل ذلك، كل هذه الزيجات المتخيلة المستحيلة، رغم أن أمي كانت ستقول بالطبع إنه أمر قاس، قاس وغير لائق مضايقة امرأة عانس بالرجال. في عائلة أبي بالطبع كان هذا محور المضايقات لها على الدوام، ماذا كان هنالك بخلاف ذلك؟ وكلما ازدادت ماري فظاظة وخشونة وصعوبة، ازدادت المضايقات الموجهة إليها أكثر. كان من قبيل السبة في هذه العائلة أن يوصف المرء بأنه «مرهف الحس»، كما وصفت أمي. وجميع العمات والأقارب والأعمام ترعرعوا على أن يكونوا منيعين بصورة هائلة أمام أي نوع من القسوة الشخصية، وطائشين وحتى فخورين - على ما يبدو - بأي نوع من الفشل أو العاهات قد يكون من شأنه أن يتسبب في إضحاك الجميع.
في وقت العشاء، كان الجو معتما في المنزل، رغم أوقات النهار الطويلة. لم يكن لدينا حينها كهرباء بالمنزل بعد. وصلتنا الكهرباء سريعا بعدها، ربما في الصيف التالي، لكن حينها كان لدينا مصباح على الطاولة. وعلى ضوئه شكل أبي وماري ماكويد ظلالا ضخمة، تأرجح رأساهما على نحو أخرق أثناء حديثهما وضحكهما. أخذت أراقب الظلال بدلا من الأشخاص. قالا: «بماذا تحلمين ؟» لكنني لم أكن أحلم، كنت أحاول استيعاب الخطر وقراءة إشارات الهجوم. •••
قال أبي: «هل تودين المجيء معي ورؤية المصائد؟» كان لديه مجموعة من مصائد فئران المسك على امتداد النهر. عندما كان أصغر سنا اعتاد قضاء أيام وليال وأسابيع بين الأجمة، مسافرا على امتداد الجداول شمال وجنوب مقاطعة واواناش، لم يصطد فقط فئران المسك حينئذ بل الثعالب الحمراء والمنك البري والسمور، وجميع الحيوانات التي يبلغ فراؤها أوجه فصل الخريف. أما فأر المسك فهو الحيوان الوحيد الذي يمكن صيده في الربيع. وبعدما تزوج أبي وامتهن مهنة الزراعة، احتفظ بمجموعة مصائد واحدة؛ وهذا لبضع سنوات فقط، ربما كان هذا آخر عام يمتلكها.
عبرنا الحقل الذي حرث الخريف الماضي. كان هناك قليل من الثلج يغطي الأخاديد، لكنه لم يكن ثلجا حقيقيا، كان قشرة رفيعة تشبه الزجاج المثلج أستطيع تحطيمها بعقبي. أخذ الحقل ينحدر ببطء نحو سطح النهر. كان السياج متهدما في بعض الأماكن من وطأة الثلوج، استطعنا أن نخطو من فوقه.
سار أبي أمامي منتعلا حذاءه طويل الرقبة. كان حذاء أبي بالنسبة لي فريدا ومألوفا كسمة مميزة له مثل وجهه. وعندما يخلع حذاءه ويضعه في زاوية المطبخ، تنبعث منه رائحة معقدة من السماد، وزيت الماكينات، والكتل الطينية السوداء، والمادة كريهة الرائحة المتناثرة الملتصقة بالنعل. كان حذاؤه جزءا منه، يقف منبوذا بصفة مؤقتة في انتظاره. كان مظهره عنيدا، بل وقاسيا، فرأيته جزءا من مظهر أبي، الجزء المتمم لوجهه، بجاهزيته لإلقاء النكات وكياسته. كما لم تفاجئني تلك القسوة أيضا؛ فقد كان أبي يأتينا دائما، أنا وأمي، من مواضع لا نستطيع أن نكون آراء إزاءها.
ذات مرة، كان هناك فأر مسك في المصيدة. في بادئ الأمر رأيته يتموج عند ضفة المياه، ككائن استوائي، كالسرخس الأسود. جذبه أبي فتوقف شعره عن التموج، والتصق ببعضه، اتضح أن ما بدا كالسرخس هو ذيل الفأر الزلق الذي يتقطر منه الماء. كانت أسنانه ظاهرة، وعيناه مبتلتين من أعلى، وكانتا متبلدتين وفاقدتين للحياة، وتلمعان كحصوات مغسولة. هزه أبي ولفه لينزل منه رذاذ قليل من مياه النهر الجليدية. قال: «إنه فأر عجوز جيد، إنه ملك عجوز كبير، انظري إلى ذيله!» ثم لعله ظن أنني أشعر بالقلق، أو لعله أراد أن يريني سحر الآلات الميكانيكية المثالية البسيطة، رفع المصيدة من المياه وشرح لي آلية عملها، جاذبا رأس الفأر إلى أسفل مرة واحدة وأغرقه بلا رحمة. لم أفهم أو أهتم. لم أرغب إلا في لمس الجسد المتيبس المبتل، حقيقة الموت، لكنني لم أجرؤ.
وضع أبي الطعم في المصيدة مجددا مستخدما قطعا من التفاح الأصفر الذي تجعد في فصل الشتاء. ووضع جثمان الفأر في كيس أسود وعلقه على كتفه، كأنه بائع متجول في إحدى اللوحات. عندما قطع التفاحة رأيته ممسكا بسكين السلخ، بنصله الرفيع اللامع.
ثم سرنا على امتداد النهر، نهر واواناش، الذي ارتفع منسوبه وزخر بالماء عن آخره، واكتسى باللون الفضي في منتصفه حيث صفعته أشعة الشمس، وحيث تتسارع حركة المياه في أقصى درجاتها. حسبت أنه التيار المائي، تصورت أن التيار شيء منفصل عن المياه، مثلما أن الرياح منفصلة عن الهواء ولها شكلها الخاص الذي تهب به. كانت ضفتا النهر منحدرتين وزلقتين وتصطف بطولهما شجيرات الصفصاف، التي ما زالت جرداء ومنحنية وتبدو واهنة كالحشائش. لم يكن هدير مياه النهر عاليا لكنه كان عميقا، وبدا أنه يأتي من بعيد من منتصفه، من مكان خفي حيث تخرج المياه من تحت الأرض محدثة زئيرا.
অজানা পৃষ্ঠা