كان يحاول أن يضع علامة على طريقه يهتدي بها عند العودة على الأشجار، كأن يكسر فرعا كبيرا، أو يربط منديلا، أو يلاحظ تميز صخرة ... إلى آخر ما صنعه من لغة ترشده سبيل العودة، كان يرسم المكان في ذاكرته، ينحت علاماته في ذاكرة المكان.
الحيوانات التي تلتقيه في الطريق هي الأرانب، فئران الجبل كبيرة الحجم، الصبرات، السناجب، الثعالب، هي لا تمثل له مخافات فعلية، بل إنه حاول أن يصطاد أرنبا كبيرا أبيض الفراء، فشل في ذلك.
في الحق كان هو المخافة، فزاعة الأرانب والفئران المسكينة، هل لأن رائحة الذئب تفوح من جلده؟ هل لأن روح الذئب؟ هل لأنه ...؟
تأكد أنه يمشي نحو العين عندما شاهد أمامه على بعد ميل واحة تجمع أشجارا ذات خضرة متميزة وقامات أعلى مما يجاورها من أشجار، وكلما اقترب من المكان وافته الريح ببرودة الماء ورائحته، عطن أوراق وفريعات متعفنة بفعل ماء المد.
يشق الأعشاب الكثيفة الخضراء قافزا هنا وهنالك، متخطيا عشبة شوكية وقنفذا صغيرا أو نتوءات صخرية، فإذا به يجد نفسه في مواجهة عين ماء ساحرة، لكنه لم يقترب كثيرا من موضع الماء؛ لأنه يعرف أن التماسيح التي تعيش في هذه الأنحاء غالبا ما تكون شرسة وشرهة ذات شهية منقطعة النظير للحوم البشر، جلس تحت شجرة وارفة لا يدري ما فصيلتها أو اسمها، لكنه شاهد منها كثيرا في هذه الأنحاء، لها ثمار زرقاء صغيرة مرمية تحتها كثيرة، بعضها يابس منكمش على ذاته كحبات النبق، بعضها لا يزال رطبا، أخذ واحدة، تذوقها، كانت حامضة، حامضة جدا، رماها بعيدا في عشب المحريب. البحيرة هادئة، سطحها منبسط مصقول كالمرآة، عندما تهب عليه نسيمات هادئات يتموج في بطء وانتظام مكونا أمواجا طفيفة لا تكاد تلاحظ كموجات خصلة حورية مسدلة على ظهرها، كان يترقب بين لحظة وأخرى أن تطل أنف تمساح مهشمة صقل السطح أو يخرج تمساح بكامله من الماء زاحفا نحو رمال الشاطئ، الرمال البيضاء الشهية التي لها لمعان حلو وهي تعكس ضوء الشمس المنسرق إليها عبر أغصان وأوراق الأشجار العالية الخضراء، كانت تفصله عن البحيرة عدة شجيرات ظليلة كثيفة الأوراق وهي لا تمنعه من مراقبة البحيرة لكنها تحميه من أن ينتبه لوجوده من جهة البحيرة، إذ بإمكان التماسيح الخروج ما شاءت والرقاد واللعب على الشاطئ الرملي أيضا دون أن يزعجها وجوده. كان يعرف أن التماسيح تفضل الشواطئ الرملية لأنها ستضع بيضها فيها وتظل تراقبه وتحميه إلى أن يفقس ولو أن هذا الفصل ليس بفصل التبييض، إلا أنها تخرج للبحث عن فريسة ما على الشاطئ. يظن أنه لو دقق النظر على سطح الماء سيتمكن من رؤية أنف التمساح، كان يعلم كباحث في الحياة البرية أن الوقت الذي يقضيه التمساح خارج الماء أكثر بكثير من الزمن الذي يقضيه بداخل الماء إذا كان مترقبا يقظا لكل بادرة تشير إلى أن هناك فكا مفترسا.
عندما أطل وجهها بين شجيرات الشاطئ الخيمية وأعشاب المحريب العطري، وسط مهرجات الفراشات والعصافير التي أخذت تهرب في كل صوب وجهة، عبر خشخشة أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض، عبر خياله المشحون يترقب ظهور تمساح بين حين وآخر، عبر عصارة الذئب تسري في شريانه في صمت وخبث ...
أطل وجهها.
وجهها الأبيض المسقي بوردية خفيفة هي سريان دم الشمس عبر شعيراتها الدموية الرقيقة ، ثم اندفعت كلها خارجة من بين الأشجار، كأنها جنة حقيقية، مثلما في خياله منذ الطفولة الأولى وقصص كامل كيلاني وأحاجي جدته عن الجنة التي تسكن شاطئ النهر، إذن هي جنة بكل ما يشاء لها من توصيف وتخيل، كان شعرها الأشقر مسدلا على كتفيها وظهرها هابطا إلى ما دون عجيزتها قليلا، فارعة القوام بجسد مهر، جسد نزق مشاغب، صدرها عار، نهداها منتصبان مكتنزان منفعلان كأنهما نسران يهمان بالطيران لكن تمسك بهما شباك الصياد، فلا هما يستسلمان ولا هما ينفكان، كانت تلبس رداء من القصب الناعم يبدأ من وسطها وينتهي ما دون الركبة ليفسح المجال لصراخ الفخذين الجنينين الثائرين ...
بالتأكيد هو رجل شجاع، لكنه كان في طريقه للانسحاب من تحت الشجرة وحمل خطاه في خفة والهروب بعيدا لولا أن ظهرت خلفها من بين الأشجار الفتاة المترجمة.
فلوباندو.
অজানা পৃষ্ঠা