إن تخيل نهاية الأشياء في سن الطفولة ربما يكون من الأمور المستحيلة. كانت الطفلة النحيلة، على الرغم من الحرب التي تزداد ضراوة، تخشى من التعرض لملل أبدي؛ من ألا تفعل شيئا له أهمية، من أن تمر الأيام الواحد تلو الآخر دون أن تذهب إلى أي مكان، وذلك أكثر من خشيتها من الموت أو من نهاية الأشياء. فهي حين تفكر في الموت تفكر في الفتى الصغير على الجانب الآخر من الطريق الذي توفي إثر مرض السكري. ولم يعرف أحد في المدرسة، ممن علموا بهذا الأمر، كيف يتصرف. فبعضهم ضحك. والبعض الآخر تململ في مقاعده. أما هي، ففي الواقع، لم تتخيل أن هذا الفتى قد مات؛ وفهمت فقط أن هذا الفتى ليس موجودا معهم ولن يكون أبدا. كانت تعلم أن والدها لن يعود، ولكنها علمت هذا كحقيقة في حياتها هي، لا في حياته هو. فهو لن يأتي مرة أخرى. راودتها كوابيس عن عمليات الشنق، وكانت تفزع من فكرة أن يحكم إنسان على إنسان آخر أن يعيش في وقت يعلم فيه أن النهاية آتية لا محالة.
«راجناروك»
بدأ الأمر بطيئا. ذلك حيث هبت عواصف ثلجية حادة على حقول الشوفان والشعير التي حان وقت حصادها. كان الجليد يغطي برك المياه الصغيرة في الليل، حين كان قمر الحصاد، المكتمل أحمر اللون، لا يزال في السماء. غطى الجليد أباريق المياه، وهبت رياح حادة، تتزايد في شدتها ولم تهدأ قط؛ لهذا اعتاد الناس على تغطية رءوسهم وخفضها. كان هناك محصول وفير من العنب الذي يغطيه الصقيع، لصنع نبيذ «موزيل»، نبيذ الثلج، الذي يعبأ في براميل. ذبلت خضراوات الشتاء على سيقانها؛ إذ تجمدت قبل نضوجها. كما تساقطت أوراق الأشجار في الأدغال والغابات مبكرا، وطارت في دوامات من الرياح الحادة. كان ضوء النهار، في البداية، صافيا وباردا؛ فكانت كل الأشياء تلمع، الثلج الذي يغطي آثار العربات في الشارع، ورقاقات الثلج التي تزداد تكدسا على عتبات المنازل والشجيرات، لا تتقلص، ولا تذوب، بل تأتي مندفعة. ثم مع حلول الشتاء أظلمت السماء. وامتلأت بسحب رمادية كثيفة بلون الحديد مليئة بالثلوج، وأصبح الهواء ذاته مليئا بالثلوج والبرد، وهبت دوامات من قطع الجليد. تصلب سطح الأرض، وانكمش وصار أكثر كثافة، ومتجمدا لأعماق سحيقة يصعب على المجارف إزالتها. صار من الصعب انتزاع الخضراوات الجذرية أو إخراجها. وازداد سمك الجليد على البحيرات وصار يزحف ببطء على مجاري الأنهار. غاصت الأسماك إلى أعماق كبيرة، فسبحت في البداية تحت الألواح الجليدية، ثم انتهى بها الحال في الطين، باردة ونحيلة، بالكاد تتنفس. خرج الرجال حاملين فئوسا كسروا بها الجليد إلى قطع وضعوها في دلائهم وأخذوها إلى منازلهم لتذوب فيشربوا منها. في البداية أثار هذا الأمر حماستهم. فقد كان اختبارا للقوة. واختبارا للرجولة. استبقيت الماشية بالداخل ومنعت الأغنام من الخروج، ما بقي منها على قيد الحياة بعد الانجرافات التي اشتد ارتفاعها ولم تنحسر. دخل الدجاج في المنازل، واستلقت الخنازير بجوار المدافئ. خرج الرجال يرتدون أحذية الجليد، وعلى الزلاجات، وعربات التزلج، وقطعوا الأشجار لاستخدام خشبها في إشعال النار، واصطادوا كائنات الغابة التي ازداد دهاؤها ومكرها، مثل الأرانب والأرانب البرية، والغزلان الصغيرة وطيور الحجل، والديوك الصغيرة التي تتجمد أقدامها على غصون الشجيرات.
كان عليهم البقاء على قيد الحياة حتى فصل الربيع. حتى يصير النهار أخيرا أطول وتذيب الشمس الثلج والجليد، وتهدأ الرياح، ويمكن تعريض الجلد للهواء دون أن يتجمد من الصقيع.
حل أقصر يوم في السنة، فرقص البشر، وخاضوا في الثلوج، وأوقدوا النيران؛ احتفالا باستقبال العام الجديد وتغير الأجواء.
إلا أن الأجواء لم تتغير كثيرا. فقد ازداد لون السماء الرمادية شحوبا، كان هذا كل ما حدث من تغيير، بينما ظلت الأرض والهواء والماء في حالة تجمد.
فبدءوا يستخدمون أشياء لا يمكن استعاضتها. ذلك حيث شقوا حلق خنزير وقطعوا لحمه وجمدوه وشووه. وخنقوا الدجاج الذي لم يكن يضع البيض ونتفوا ريشه وسلقوه، ولم يكن من الممكن استعاضة هذا الدجاج لأن معظم الكتاكيت قد نفقت. أصبح إطعام الأغنام والخيول والحمير يزداد صعوبة أكثر فأكثر؛ بسبب تلف المحاصيل وتجمد الحقول. وأصبحت الشجاعة هي القدرة على الصمود، وزادت الحاجة الماسة إلى الحساء ليتناوله المحتضرون.
وفي الخارج، في الشفق الدائم، كانت الذئاب تعوي وتتجول. فقد كانت جائعة وغاضبة.
لقد ظنوا أن هذا يشبه حتما ما سيحدث عندما يحل «الشتاء العظيم». فقد أصبحت الشمس الكبيرة ذات لون أحمر باهت، ذاوية وكئيبة، مثل جمرة من نار. كانت تشع القليل من الضوء، وكان الضوء الموجود أحمر أو قرمزي اللون كالدماء. لقد اشتاقت عظامهم وعقولهم إلى ضوء صاف، ورياح دافئة، وبراعم متفتحة، وأوراق خضراء. امتد الشتاء إلى عام آخر، وعام بعده. فتجمدت البحار، وارتطمت جبال الجليد بالشواطئ، وطفت في أنحاء الخلجان. لقد بدءوا يدركون أن هذا ليس شبيها بالشتاء العظيم، بل هو نفسه الشتاء العظيم.
لقد صاروا غزاة. فاجتاحوا منازل بعضهم بعضا، يصيحون ويزأرون، فيذبحون الضعفاء، ويفرغون المخزون الشحيح من الطعام. كانوا يشربون ما يجدونه من نبيذ الميد، ويتجرعون النبيذ كما لو كان الغد لن يأتي، وهذا ما بدءوا يعتقدونه بالفعل. فالكائنات الجائعة والبشر الجائعون سيتناولون أي شيء. أقام الفائزون في المعارك ولائمهم بين الجثث النافقة، التي مزقتها الوحوش الزاحفة والرابضة. فقد كان بعضهم يمسك ببعض ويقعون حول النيران، ويرتكبون الفاحشة مع أي الموجودين من البشر أو الجماد. فكانوا يأكلون ويقبلون ويمضغون ويبتلعون ويتقاتلون ويتصارعون وينتظرون نهاية العالم، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد. وفي النهاية وصل الحال بهم، بالطبع، إلى أكل بعضهم بعضا.
অজানা পৃষ্ঠা