عندما يتخذ هيئة الصقر كان يصطاد مخلوقات صغيرة ويعود بها إلى منزله ويفرد أمخاخها ورئاتها على الطاولة كي يستطيع دراسة الأشكال الكامنة في كتلتها العديمة الشكل المعقدة، والمكونة من خلايا هوائية إسفنجية، ومن الأوردة المتفرعة، وشقوق جذورها. كما كانت الأمخاخ، أيضا، تمتعه. أحب الكتل الملتفة المجدولة، البيضاء من الداخل والرمادية من الخارج، والشقوق التي تمتد بين الفصوص. كان القربان البشري على شكل صليب، أو شجرة مبسطة. رئة، ودماغ، كانتا تعقيدا خرج عن السيطرة، وفوضى عارمة وإن كان يمكن أن يلتمس فيها نظام من نوع مختلف.
وجمع أيضا أشياء أخرى تبدو في الوهلة الأولى عديمة الشكل. كانت ريشة جناح أحد الطيور منتظمة الشكل، حيث كانت عبارة عن ريش معقوف متفرع بشكل منتظم من شوكة الريشة. أما في الداخل - داخل البطة، أو داخل البجعة ذات الخصلات الملبدة أو السائبة - فكان الداخل فاتنا، كانت هناك إيقاعات وتكرارات كامنة في الخيوط المنفوشة.
وقد درس النار والماء في المقام الأول. النار كانت عنصره ولكنه أيضا غير هيئته إلى سمكة سلمون كبيرة وشق طريقه سريعا عبر تلاطم الشلال، وعبر دوامات البركة العميقة، مجتازا حافتها ومتجها نحو النهر المندفع، الذي يتفرع حول صخرة كبيرة، ويتجمع مرة أخرى، ويتعرج ويصدر الفقاقيع.
يمكنك قراءة المستقبل في أعمدة الدخان، أو في الشرارات المتطايرة لألسنة اللهب الحمراء والصفراء والخضراء المائلة للزرقة، التي لا تتوقف أبدا ولكنها تظل محتفظة بشكلها. لماذا يتصاعد الدخان بسرعة وسلاسة في عمود مستقيم، ثم فجأة ينقسم إلى أعمدة ملتفة، تزداد اضطرابا؟ لماذا يتدفق الماء بسلاسة نحو الصخور، بحيث يمكنك رؤية خطوط محددة من الفقاعات المنسابة فيه، أو تدعها تجري على حراشفك اللامعة، باللونين الوردي والفضي؟ ثم، فجأة، ينقسم الماء حول الصخر في كل اتجاه، مزبدا وملتفا في منحنيات وخطوط ملتوية، ويتجمع أحيانا ويدور في دوامات مفاجئة. يشتد هياج الماء، تماما مثل الدخان، ويشبهه في كثير من الأوجه. أراد «لوكي» التعلم من هذا، لا أن يجيد التحكم في النار أو الماء، وإنما أن يفسر حركتهما. ووراء فضوله كان يكمن شعور بالسعادة. فهو يسعد بالفوضى. كان يحب أن يزداد هياج الأشياء، وأن تصبح أكثر جموحا، وخروجا عن السيطرة؛ فالاضطراب هو ما يشعره بالسكينة. وقد يثير الاضطراب ليرضي نفسه ويحاول فهمه حتى يتمكن من إحداث المزيد منه. فهو يكون في أعمدة الدخان المشتعلة في ساحات المعارك. أو في الأنهار الهائجة التي تغمر ضفافها، أو في شلالات مياه المد المرتفع وهي ترتطم بمصدات الفيضان وتحطم السفن والمنازل.
لقد كان طائشا وماكرا في الوقت نفسه. ذلك حيث سبح في ممراته المائية بحثا عن أماكن للاختباء حينما تأتي الآلهة؛ رقع من الحصى لا يمكن من بينها رؤية السمكة الكبيرة الحرشفية اللامعة وهي تقف ساكنة، قنوات عميقة يمكنه عبرها الانزلاق نحو البحر، برك مياه مضطربة تحجب فيها التموجات وموجات السحب الرؤية.
فكر بطريقة الآلهة حتى يستبقهم ويحبط مخططاتهم. فإن كان هو إلها، ويعلم أن عدوه سريع ويتخذ شكل سمكة، فكيف سيصطاده؟ كان سيبدأ باستخدام شرائط طويلة مجدولة من خيوط الكتان، ويصنع منها شبكة تمتد بطول المخرج من بركة المياه، يمكن لسمكة ضخمة أن تعلق فيها. جذبت هذه الفكرة اهتمامه، واخترع عدة أنواع جديدة من العقد، ونوعا من الأربطة كي تلتف حول السمكة التي تحاول الإفلات. فكر في نفسه، وقال إن «هذا» لا بد له من الإمساك بها، ولاحظ فجأة تصاعد الدخان بشدة من ناره، فتصاعد تدفق قوي ومنتظم من الدخان، إلى الأعلى، ثم تحول إلى الدوران في دوامات. كان هذا علامة على عثور من يطاردونه عليه، وأنهم يمتطون السحب في طريقهم إليه. رمى شبكة الصيد بسرعة في النار التي اشتعلت بلون أزرق والتهمت الشبكة. ثم تحول إلى طائر وطار إلى شلال المياه حيث تحول إلى سمكة سلمون وسبح إلى الأعماق. •••
ركب موكب الآلهة، بخيولهم الطائرة، وعرباتهم التي تجرها الماعز وحتى القطط، الرياح الشمالية واقتحموا المنزل من أبوابه الأربعة. وتفقدوا المكان، ولكنهم لم يجدوا أثرا ل «لوكي» المخادع. لاحظ أحدهم أنه قد غادر المنزل لتوه؛ إذ كانت المدفأة، والرماد فيها، ما زالا دافئين. تقدم «كفاسير»، وهو إله متقد الذكاء، اشتهر بنظمه للشعر، إلى الأمام وفحص الرماد الساخن. كان الرماد يتكون من أعواد خشبية وبقايا نبات السرخس، التي لا تزال تحتفظ بأشكالها الرمادية التي تشبه الأشباح، بيد أنها كانت عند لمسها تتهاوى إلى أشكال تخلو من المعالم. وفوق هذه النباتات المحترقة استقر شكل متفحم، ومنتظم، من مربعات ومعينات وخيوط وعقد. تفحص «كفاسير» العقد، وأخبر الآخرين ألا يلمسوا أي شيء، وعثر على مخزون «لوكي» من خيوط الكتان. قال «كفاسير» للآلهة الآخرين إن هذا الشيء هو البقايا المحترقة لما كانت مصيدة أسماك بارعة الصنع. وإنه يمكن صناعة واحدة جديدة تشبهها، بعد فحص متأن لأشكال العقد. ومن ثم جلس القرفصاء، وعمل بسرعة ومهارة، وصنع شبكة جديدة.
خرج الآلهة وتوجهوا نحو الشلال، وهم يحملون معهم شبكة صيد الأسماك. سمعت السمكة أصوات وقع خطواتهم في الماء، فغاصت إلى الحصى، ووقفت ساكنة لا تحرك إلا خياشيمها. وقفت الآلهة حول بركة المياه العميقة وألقوا الشبكة فيها. لم يستطيعوا رؤية أي شيء بسبب انتشار الفقاعات على سطح المياه المضطرب. حركت السمكة زعانفها من أجل تحريك الحصى، ودفنت نصف جسدها فيه، واستقرت الشبكة الملقاة فوقها تماما. ففكرت في طريقة تفلت بها من هذا المأزق، وخطر لها الانطلاق نحو طرف بركة المياه ثم إلى المجرى المائي المفتوح. إلا أنهم قد يرونها، فبصرهم حاد للغاية. فكرت في أنها ربما تستطيع التصرف مثل سمك السلمون وتفاجئهم بقفزة قوية إلى «أعلى» تيار الماء وتسبح بعيدا عنهم ضد التيار. قال هذا المخادع لنفسه في عقله المتكبر وهو يتحرك فينشر الحصى من حوله إنه، وهو واثق من هذا، أذكى من كل هذه الآلهة مجتمعة، وهذا أقل ما يقال في حقه. إلا أن «كفاسير» تبادرت إليه فكرة إثقال الشبكة وسحبها عبر قاع البركة المغطى بالحصى؛ إذ يمسكها ثور من جانب، وجميع الآلهة الأخرى من الجانب الآخر. وهذا ما فعلوه، وبدءوا في التحرك ببطء وعزم، ثم شعروا باصطدام الشبكة بجسم صلب ومقاومته لها. فسحبوا الخيوط المجدولة بمهارة وأخرجوا هذه السمكة الملساء المرنة ذات الأعين الغاضبة، وهي تناضل محاولة الإفلات. ظلت تترنح حتى هاجموها عند وصولها إلى الحافة، وقفزت قفزة شديدة قوية، وكادت تهرب لولا أن مد ثور يده الضخمة وأمسك بها من ذيلها. وظلت السمكة تقاوم.
ومن ثم أمسكه إله الرعد بإحكام، منتقما لنفسه على ما تعرض له من سخرية وعدد لا يحصى من الحيل المزعجة. ولفوه في نسختهم من شبكته المحترقة وحملوه عائدين إلى «أسجارد».
كلمة «الآلهة» هي نفسها الكلمة التي تعني «القيود»، ولوكي، مثل ابنه «فنرير»، كان مقيدا. فأخذوه إلى كهف ووضعوا ثلاث صخور مسطحة، وأحدثوا ثقبا في كل منها. وأحضروا أسرته لتشهد هزيمته - ليست أسرته الجامحة التي تسكن «آيرنوود»، وإنما زوجته المخلصة «سيجين»، وابناها «فالي» و«نارفي». قالت الآلهة إن المتحول لا بد أن يرى أشكالا تتحول أمامه، فحولوا الفتى الشاب «فالي» إلى ذئب شرس، انقض على أخيه على الفور ومزقه إربا. وبعد ذلك قتلت الآلهة المبتسمة غبطة هذا الذئب؛ إذ غرس «أودين» رمحه الضخم «جونجنير» في أحشائه. أخذ الآلهة، وهم يضحكون، الأحشاء والأوتار المضرجة بالدماء لكل من الذئب وأخيه، وقيدوا بها «لوكي» بين الصخور الثلاثة؛ الأولى تحت كتفيه، والثانية تحت خصره، والثالثة تحت ركبتيه.
অজানা পৃষ্ঠা