كانت «هيل»، جالسة على عرشها، بلحمها الميت المسود، ولحمها الأبيض الشاحب، متجهمة وعابسة. كانت متوجة بالذهب والماسات التي تشع بالضوء، ثم اختفت مثل ألسنة اللهب عندما تنطفئ. كان «بالدر» بجوارها، جالسا على عرش مترف وبجواره زوجته، وأمامه طبق فاخر من الفاكهة الشفافة، لم تلمسه يده. كان وجهه الساطع مبيضا. والكأس الذهبي لشرابه لم تلمسه يد.
انحنى «هيرمودر» لملكة «هيل»، وقال إنه جاء متوسلا كي يعود «بالدر» إلى «أسجارد». فالآلهة والبشر، وكل المخلوقات، قد أضناهم الحزن، وفي حاجة إلى عودة الإله الشاب كي يعيد لهم حيويتهم، ويحيي الأمل في صدورهم. علاوة على ذلك قال «هيرمودر» إن الإلهة «فريج» طلبت منه التوسل إلى «هيل» كي يعود «بالدر»؛ لأنها لا تستطيع العيش بدونه. وردا على ذلك، أجابت «هيل» أن الأمهات على مر الزمان قد تعلمن كيف يحيين بدون أبنائهن. كل يوم يموت شباب ويأتون في صمت عبر جسرها الذهبي. فقط في «أسجارد» يمكنهم أن يموتوا في معركة يوميا، كما لو كانت لعبة، ويحيون مرة أخرى كي يقيموا مأدبة في المساء. أما في العالم القاسي، وفي عالم الأشباح، لم يكن الموت لعبة.
قال «هيرمودر»: لكن هذا الموت قلل نور العالم.
فقالت «هيل»: حسنا. لقد قل إذن.
جلس «بالدر» فاتر الهمة، ولم يقل شيئا. ومالت «نانا» على كتفه، ولكنه لم يحتضنها.
قالت «هيل»، ابنة «لوكي»، المطرودة من «أسجارد»: «أخبر «فريج» ... أخبر «فريج» أن «بالدر» من الممكن أن يعود لو بكاه طوعا كل إنسان، وكل مخلوق، في السموات، وعلى الأرض، وفي البحر، وتحت الأرض. هل يمكنها أن تنقذه من خلال الحزن، تلك التي لم تستطع حمايته من خلال الحب؟ لو ظلت عين واحدة جافة بلا دموع، في أي مكان، فسيبقى «بالدر» هنا. وكما ترى، فهو مكرم بين الموتى، وهو الضيف الرئيسي على مائدتي.»
عرف «هيرمودر» أنه لا بد أن يعود بهذه الرسالة. وعرف أيضا شكل هذه القصة. ورغم ذلك، فقد اعتقد أن إرادة «فريج» القوية، وأن شدة حبها، وقوة صوتها، قد تغير شكل القصة، وتحرر «بالدر» ليعبر الجسر، الذي لم يعد منه أي إنسان. ولذلك طأطأ رأسه، وفتح «بالدر» فمه الشاحب وأخرج الخاتم السحري، «درابنير»، الذي وضعه «أودين» بجوار جثته. وقال بلطف: «يجب أن يعيده «هيرمودر» إلى «أودين». إن «هيل » تعج بالذهب والفضة. لسنا في حاجة إليه.»
ومن ثم أرسل «الإيسر» الرسل، والآلهة الصغيرة، والطيور الحكيمة، والفرسان، والعدائين، برسالة واحدة لكل شبكة «ميدجارد»، الحي منهم والجماد، ذوات الدم الحار، وذوات الدم البارد، المائي والحجري، تفيد بضرورة بكائهم على «بالدر» حتى يتحرر من سلطة هيل. بكى «هودور» المظلم في عرينه الموجود في الغابة. ووقفت الماشية والأغنام متبلدة الحس وأصدرت خوارا وشخيرا ونحيبا. والقردة الصائحة والدببة المتجولة كفكفت دموعها المنهمرة من عيونها؛ وفحت الأفاعي والحيات ذوات الجرس وظلت ساكنة وهي تذرف الدموع. وسقطت القطرات من صواعد الكهوف وهوابطها؛ وخلطت الفوارات الحارة الدموع الدافئة في البخار المغلي؛ ونضحت الجلاميد والنتوءات الصخرية مياها دمعية، مثلما تفعل عندما تتحول من الطقس الجليدي إلى الطقس الدافئ. كان هناك بخار في الغابات والمروج من الأوراق التي تنهمر منها القطرات؛ كانت أسطح التفاح والعنب والرمان وتوت الثلج وتوت العليق زلقة من البكاء. كانت السماء نفسها ملبدة بالغيوم الكثيفة التي تكونت من الدموع، وبكت. وتحت السطح المالح، في غابة أعشاب البحر، ذرفت المخلوقات المجتمعة في «راندراسيل» ملحا إلى الملح، ونجم البحر المكلل بالشوك، والحبار البنفسجي، والقضاعات والبزاقات، والحلزونات البحرية والقواقع، صبوا قطرات من المياه المالحة إلى المياه المالحة. عيون السمك الخالية من الجفون، وعيون الحيتان الغارقة في الشحوم، ذرفت الماء في الماء وارتفع مستوى سطح البحر. والأمر نفسه فعلته كل البرك الراكدة والينابيع المعشوشبة، وحتى الأحواض الحجرية التي يوضع بها علف الخيول بكت داخلها الديدان الخيطية الحمراء على الضوء المشرق الذي ذهب. وتسلقت المياه إلى داخل قنوات «إجدراسيل» وتساقطت من الأوراق المشبعة بالماء على اللحاء الرطب والأرض المبتلة. وبكت الآلهة في قصرها الذهبي، وأخيرا بكت «فريج» التي كانت متحجرة ولم تذرف دمعة في حزنها الشديد. رقدت الدموع كحجاب على وجهها، كصفحة من الماء مثل تلك التي تفيض في الحشائش المغمورة بالماء حول الأنهار التي فاضت على ضفافها. كانت الأرض والبحر والسماء شيئا واحدا، وبكت كشيء واحد.
ما عدا واحدا. إنه ليس نبات الدبق هذه المرة. وليس أي شخص أو أي شيء أغفلته سهوا رسل الآلهة. إنه شيء، أو شخص، يقابل في حفرة صخرية، جافة مظلمة، في صحراء سوداء. دخل الرسول الدءوب بشجاعة عبر سطح الصخر الباكي، إلى الأنفاق المظلمة - التي ما زالت رطبة - ووصل أخيرا إلى حفرة سوداء، مسدودة، غير رطبة، تجمع فيها شيء شاسع وتمايل. ولكن من كان هذا الرسول؟ كان شخصا قريبا من «فريج»، ربما وصيفتها «جنا»، وهي فارسة كانت تجوب العالم بناء على طلبها. أصدر الشيء الموجود في الحفرة السوداء صوتا يشبه الأوراق الجافة، يشبه الصوفان، وأصدرت ملابسه خشخشة والتفت. كان جافا مثل عظمة جافة في مكان جاف، وكان وجهه جافا مثل وجه عظمة، ومسودا مثل أغلفته، ومحجرا عينيه غائرين، وفمه عديم الشفتين يعج بالأسنان السوداء. ظنت «جنا» أن هذا الشيء عملاقة من عمالقة الجبال. واقتربت - بهدوء - وقالت إنها جاءت لتطلب من سكان الكهف أن يبكوا مع بقية العالم، مع العالم كله، كي يتمكن «بالدر» من العودة إلى أرض الأحياء ويعيد إشراقته معه. قالت: «من أنت، أيتها الأم؟» «أنا «ثوك».» هكذا رد الصوت الجاف من داخل العظام المظلمة.
قال الصوت بنبرة آلية رتيبة:
অজানা পৃষ্ঠা