حلمت أيضا أنهم أخذوا والديها وربطوهما في حفرة وسط غابة مظلمة، غابة «آيرنوود». رقد والداها مقيدين وعاجزين بين أجمة السرخس الميتة والوحل. تحرك الألمان المبهمون ذوو الخوذات الرمادية بهمة، وفعلوا أشياء بالمعدن والحبال لم تستطع فهمها. كانت الطفلة نفسها مختبئة فوق حافة الحفرة، وتنظر لأسفل على السجناء المذعورين، ولم تكن حتى تريد معرفة ما كان الألمان على وشك القيام به. ما كان مخيفا، كما فهمت الطفلة النحيلة، هو أن يصبح أبواها عاجزين. وقد كان هذا هو الصدع في الجدار الواقي، هكذا كانت تعتقد، الذي يحيط بطفولتها التقليدية ويحميها. حلمت بأشياء لا تعرفها، حلمت بأن والديها كانا خائفين ومتشككين. كانت طفلة مفكرة، وعملت على حل هذه المشكلة. وعلى عكس أغلب حالات المعرفة، التي كانت بمثابة قوة وسرور، فقد آذتها المعرفة في هذه الحالة.
سألت نفسها من هم الألمان الطيبون والحكماء الذين كتبوا «أسجارد والآلهة» بغرض جمع «قصصنا ومعتقداتنا الألمانية»، حسبما قالوا. لمن كان صوت الراوي الذي استحوذ على خيالها، واقترح تفسيرات بلباقة؟ (10) «فريج»
شرعت الإلهة «فريج» في رحلتها لجعل كل شيء على الأرض، وفي السماء، وفي المحيطات؛ يقسم على ألا يؤذي «بالدر». اقتبس المحرر الألماني في كتاب «أسجارد والآلهة»، من كتاب «إدا» الأيسلندي الذي ألفه «سنوري سترلسون». تلقت «فريج»، حسبما قرأت الطفلة النحيلة، وعودا جادة بأن «بالدر» لن يطوله أذى النار والماء والحديد، وجميع أنواع المعادن، والأحجار، والتربة، والأشجار، والأمراض، والحيوانات، والطيور، والسم، والأفاعي. حاولت الطفلة النحيلة تخيل مشهد القسم ذلك. صورت «فريج» في الكتاب على شكل أنثى طويلة القامة ومهيبة الهيئة ومتجبرة، يكلل رأسها تاج ينسدل من تحته شعر باهت مسترسل، يتمايل مع الرياح. كانت ترتدي قميصا واقيا ضيقا، وتنورة لائقة، وصندلا إغريقي الطراز ذا سيور جلدية لا يتماشى مع باقي ملابسها. هل ارتحلت بعربتها أم سيرا على الأقدام؟ كانت المخيلة البصرية للطفلة النحيلة تقودها إلى تصور الأشياء على نحو حرفي، هكذا كانت طبيعتها.
فتخيلت الإلهة في عربتها، وهي تشق طريقها في السماء على عجل، وتنادي على السحب، التي كانت تمثل عقل العملاق «يمير»، وعلى صواعق البرق المتشعبة، والبرد، والعواصف الثلجية، والفيضانات، وهي ترجوهم ألا يؤذوا ابنها، وتخيلت الطفلة النحيلة أن جميع هذه الكيانات قد توقفت للحظة عن اندفاعها، وجيشانها، وتأججها وانصاعت لرغبتها، فكفت عن أي فعل لها. بيد أن الطفلة الهزيلة رأت بعين خيالها الإلهة تمشي على قدميها كذلك. ذلك حيث تسير أغلب الوقت في مسارات منحدرة محيطة بجبال شاهقة ووعرة، وتلك هي المناظر الطبيعية التي شهدت فوضى الصخور المهيبة التي حدثت في وقت سابق، والتي، كما وصفها الكتاب الألماني، قد خلق البشر من رحمها في البدء الآلهة وعمالقة الجليد، «هيرمثرس». خاطبت الإلهة التي كانت محاطة بهالة من الضوء الذهبي البراق جميع هذه التكوينات الجامحة بشجاعة وتوسلت إليها ألا تؤذي ابنها. ومرة أخرى، قوبل توسلها بلحظة من الهدوء والسكون إيذانا بالموافقة. فهرولت الإلهة نازلة حتى أسفل نقطة في أعماق الجبال، إلى الكهوف المظلمة تحت الأرض التي كانت التنانين والديدان العملاقة بداخلها تقرض جذور شجرة المران الرمادية، وتحدثت إلى الوحوش، وليس فقط إليها بل تحدثت أيضا إلى جدران الكهوف المتوهجة، إلى حبيبات الحجر الجيري والبازلت، وإلى عروق الحديد والقصدير والرصاص والذهب والفضة التي نسجت نسجا معقدا في الأحجار. كما خاطبت الحفر الممتلئة بالحمم البركانية الحمراء الفائرة وحجر الخفاف المتدفق الذي ينبعث منه البخار. وتحدثت إلى أحجار الياقوت الأزرق، والماس، والعقيق، والزمرد، والياقوت الأحمر. واستطاعت الطفلة النحيلة، في قمة نشوة خيالها، سماع صوت جميع هذه الجمادات وهي تهمس وتصر وتخشخش، وتقطع وعودها. كل الأشياء اجتمعت لتشكل جزءا من عالم «واحد»، وهذا العالم لن يؤذي «بالدر» الجميل.
أحيانا كانت الطفلة النحيلة تتخيل الحيوانات واقفة في صفوف منتظمة، وكأنها في طريقها إلى «سفينة نوح»، أو كما كانت في أيام الخلق الأول. كانت الحيوانات مغطاة بالشعر الأملس اللامع، وقد صاحب ارتفاع شفاهها العلوية زمجرة وكشفت عن أنياب ممزقة. كانت هناك الفهود السوداء، والنمور المرقطة، والضباع المخططة، والأسود المتهادية في مشيتها، والنمور التي تلمع أعينها ببريق كاللهب المتقد، والثعالب المتواثبة، والذئاب بالطبع، الذئاب الرمادية، كلهم تجمعهم علاقة مع العدو المتخيل سواء كانوا يلاحقونه كفريسة لهم، أو كان بينهم تحالف. وعدوا جميعا، ومعهم قردة الغابة - القردة المنتحبة - وخلد الماء بأسنانه الفتاكة، والدببة سواء تلك التي تعيش في المناطق الثلجية أو الغابات، بوجوهها الودودة التي تخفي شراستها، كل هؤلاء قطعوا وعودا، ومعهم الحيوانات المفترسة التي تقطن السياج الشجري، وهي ابن عرس، والقاقم، والغرير، والنمس، والزبابة. لم تكن لتلك المخلوقات التي قدمت الوعود أي علاقة بالأرانب والسناجب الرقيقة التي أنصتت إلى تلك المعلمة الإلهية في المنطقة المقطوعة الأشجار بالغابات. كانت تلك المخلوقات قاسية، وبالغة الشراسة والضراوة، واتسمت بكونها صائدة وفريسة معرضة للاصطياد، على حد سواء، ومع ذلك فقد توقفت عما تفعله لتعد الإلهة التي طمأنها ذلك الوعد فتنفست الصعداء ومضت في طريقها. وكذلك وعدتها الطيور؛ النسور، والصقور، والحداء، وطيور القيق، والعقعق، بجانب الخفافيش المعلقة مثل الجلد المطوي في الكهوف، بأفواهها الصغيرة التي تشرب بها الدماء.
كانت الطفلة النحيلة ترتعد أثناء تخيلها للثعابين. فقد رأت ذات مرة جلد أفعى منسلخا عن جسدها، ذي الرأس الماسي الشكل. فتحت الأفاعي أنيابها، وأصدرت فحيحها وقطعت الوعد، بما فيها الحنش الصغير والحية الضخمة سيدة الأدغال، وأفعى الغضوب السامة، والكوبرا، والأفاعي اللادغة، والنافثة، والجرسية، والأفاعي الضخمة العاصرة بالغابة، مثل الأصلة العاصرة والأناكوندا. وكانت هناك ثعابين البحر الآخذة في الالتفاف والتي يبرق جلدها على صفحة مياه البحر اللامعة، والحيوانات البحرية المفترسة، مثل تماسيح المناقع وتماسيح القاطور، والأسماك، كأسماك القرش الملساء، والحيتان القاتلة المرحة، والحبار العملاق، والقناديل اللاسعة، وأسراب أسماك التونة والقد. وما زال عدد لا نهائي من المخلوقات آخذا في قطع وعوده حتى تلك الموجودة في شق الهلاك؛ مخلوقات بالكاد يمكن اعتبارها مؤذية، مثل المحار، وأبو مقص، وشقائق النعمان في الغابات وعلى الشعاب المرجانية، وحتى العشب، ومئات الأنواع من الحشائش. وكانت هناك جميع النباتات التي لم يبد عليها أنها مؤذية أو تلك التي كان مظهرها مغريا وتأثيرها قاتلا، مثل المغد الفتاك، ونبات القوطيسوس ذي اللون الأرجواني القاتم، الذي تتدلى منه براعم صفراء فاقعة، وفطر الأمانيت فالوسياني ذي الشكل المبهرج، وفطر الحصان، وغاريقون الذباب.
وذكر «سنوري»، من بين ما ذكره من أشجار وحيوانات، الأمراض كذلك. كيف يا ترى يمكن جعل الأمراض تقسم على عدم إحداث الأذى؟ كانت الطفلة النحيلة تعاني الأمرين من مرض الربو، الذي تسبب في ملازمتها الفراش وقراءتها للموسوعات وكتاب «أسجارد والآلهة». تخيلت الطفلة الربو الذي كان يسكن جسدها كمخلوق غريب ودخيل، وقد كان هذا الأمر صحيحا. تخيلته كيانا ضعيفا ذا لون أبيض نقي، ينشر جسده الطفيلي عبر رئتيها البائستين، ورأسها المصاب بالدوار، وكأن له جذورا تشق طريقها في مبنى حجري، أو كأنه مخلوق له صلة قرابة بالأصلة العاصرة وشجرة التين الخانقة. اضطرها مرضها إلى أن تتعلم كيف تجلس، وكيف تستلقي، وكيف تمسك بقفصها الصدري ليتسع لقبضته. وتخيلت أن «فريج» تتحدث إليه على عجل - طالبة منه ألا يؤذي ابنها - واللحظة الوجيزة التي أرخى أثناءها قبضته، ليعدها بذلك. تخيلت أيضا الوجوه الشرسة للحصبة والجدري؛ فهي وجوه حادة وجشعة، لكنها مع ذلك قطعت هذا الوعد. كانت الحصبة قد استولت على جلدها لتنبعث منه حرارة لاهبة. كما طفح الجدري على جلدها في صورة بثور شديدة السخونة. ومع ذلك، فقد وعدت هذه الأمراض «فريج» بأنها لن تؤذي ابنها.
كل الأشياء اجتمعت تحت راية تلك الاتفاقات. وكان سطح الأرض كأنه قطعة قماش مطرزة رائعة، أو قطعة من النسيج الوثير، جانبها السفلي مكون من خيوط متصلة ومحاكة معا بأسلوب معقد. اعتادت الطفلة السير في الحقول في طريقها إلى المدرسة، أثناء فصلي الربيع والصيف. ذلك حيث تحيط إطارات من الزهور بحقول القمح، وهي مليئة بالخشخاش القرمزي، وورود الذرة الزرقاء، وأقحوانات المروج البيضاء الكبيرة، والحوذان، وآذريون الماء، وحوذان الذرة، وهندباء «أرنوسيريس»، والحلبلاب المستدير الورق. كما كانت هناك نباتات سبيرج عريضة الأوراق، وقراص القنب الأحمر، وكيس الراعي، وإبرة الراعي، وبقدونس الحصاد. وفي العشب الطويل بالمروج كانت هناك نباتات الحرف الكاليفورني، والأوركيد، وعصا الراعي.
تحت الأرض كانت الديدان مشغولة؛ حيث تجري الديدان الألفية، وتزدهر حشرات قافزات الذيل، بينما تحفر كل أنواع الخنافس جحورا وتضع بيضها. وتتلوى اليرقات والديدان الصغيرة، التي أكلت الطيور الصغيرة وفئران الحصاد بعضها، أما بعضها الآخر فقد تحول بأعجوبة إلى فراشات، بيضاء وذهبية اللون، وأرجوانية وبنية، وزرقاء ساطعة، وزرقاء شاحبة، وخضراء كالنعناع، ومتلألئة بخطوط وأهداب لامعة وعيون تستقر على جسد أسود مخملي. وانطلقت طيور القبرة من حقول الذرة، وحلقت مرتفعة وهي تغني. وهبطت طيور الزقزاق في السماء، وهي تصدح بصوتها المميز. كان لدى الطفلة النحيلة كتب عن الطيور، وأخرى عن الزهور، وقد لاحظتها كلها؛ عصفور الشجرة، وطائر الدغناش، وطائر السمنة المغرد، وطائر أبو طيط، والعصفور التفاحي، وطائر النمنمة المغرد. كانت تأكل وتؤكل، هذه هي الحقيقة، كانت تتلاشى وتختفي مع دوران الأرض، ثم تعود مجددا عند الانقلاب الشمسي، وستعود دائما، على العكس من «بالدر» الذي على الرغم من كل الوعود، كان الموت مقدرا له. إذا لم يعد والد الطفلة النحيلة، فإذن لن يعود «بالدر» أبدا.
لا يوجد أثر عن أن «فريج» قد طلبت من البشر ألا يؤذوا ابنها. فربما كانوا دائما ما يقفون عاجزين في مواجهة الآلهة. ربما كانوا لا قيمة لهم أو كانوا موجودين في قصة أخرى. لم يكن البشر جزءا من نسيج القصة اللامع البراق، ولا من نقوشها الغائرة والبارزة.
অজানা পৃষ্ঠা