ولم يطل انتظار الغانية، فدخل عبد من عبيدها، وأعلن قدوم السيد عانن تاجر سن الفيل. ودخل الرجل على الأثر يهرول في ثيابه الفضفاضة، ويزهو بشعره المستعار، يتبعه عبد يحمل صندوقا من العاج المطعم بالذهب، وضعه على كثب من كرسي الغانية، ورجع من حيث أتى. وانحنى التاجر على يد رادوبيس، ولثم أناملها، فابتسمت له، وقالت بصوتها الحلو: أهلا بك أيها السيد عانن. كيف حالك؟ أهكذا لا نراك إلا كل دهر طويل؟!
فضحك الرجل سعيدا مسرورا، وقال: ماذا أصنع يا مولاتي؟! .. هي حياتي التي اخترتها أو التي فرضتها الأقدار علي، أن أكون أخا سفر، جواب أرض، تتقاذفني البلدان، فأقضي نصف عامي في بلاد النوبة، ونصفه الثاني ما بين الجنوب والشمال، أشتري وأبيع، وأبيع وأشتري، لا أعرف لحياتي مستقرا!
فنظرت إلى الصندوق العاجي وهي لا تزال تبتسم وسألته: وما هذا الصندوق الجميل؟ أخال أنه هدية من هداياك النفيسة؟ - ليس الصندوق بالذات، ولكن ما فيه .. هو سن فيل مفترس، أقسم التاجر النوبي الذي ابتعته منه أن صيده كلفه أربعة من رجاله الأشداء، فحفظته في مكان أمين، ولم أعرضه على الطالبين . ولما ألقيت عصا الترحال في تنيس، دفعت به إلى أيدي صانعيها المهرة، فبطنوه بقشرة من خالص الذهب، وطلوه من الخارج، فصار كأسا لا يشرب منها إلا الملوك .. وقلت لنفسي: أحرى بتلك الكأس التي كلفت نفوسا غالية، أن تهدى إلى من تبذل في سبيلها النفوس العزيزة رخيصة وهي راضية.
فضحكت رادوبيس ضحكة رقيقة، وقالت: شكرا لك أيها السيد عانن .. إن هديتك على نفاستها لا تعدل بجمال حديثك!
فطرب أيما طرب، ورنا إليها بعين ناطقة بالإعجاب والتوسل، وقال بصوت خافت: ما أجملك! .. ما أفتنك! .. كلما عدت من سفر طويل أجدك أجمل وأفتن مما تركتك، وكأني بالزمان لا عمل له إلا السمو بحسنك الفاتن.
وكانت تصغي إلى إطراء حسنها، كمن يصغي إلى نغمة معادة، فطاب لها أن تتهكم به فسألته: كيف حال أبنائك؟!
فأحس بشيء من الخيبة، وصمت لحظة، ثم انحنى على الصندوق ورفع غطاءه، فبدا الكأس نائما على جانبه، ثم قال وهو يرفع رأسه إليها: ما ألذع سخريتك يا سيدتي! ومع هذا فلن تجدي شعرة بيضاء برأسي، وهل يستطيع من تقع عيناه على وجهك أن يحتفظ في قلبه بأدنى حرارة لامرأة سواك؟!
فلم تجبه، وما تزال تبتسم، ثم دعته للجلوس فجلس قريبا منها. واستقبلت على أثر ذلك جماعة من التجار وكبار المزارعين، منهم من يتردد على قصرها كل مساء، ومنهم من لا تراه إلا في الأعياد والمناسبات، فرحبت بهم بابتسامتها الفاتنة، ثم رأت المثال هنفر يلج باب البهو بقامته الرشيقة، وحنجرته الناتئة، وشعره المفلفل، وأنفه الأفطس، وكان من الرجال الذين تستخف ظلهم، فأعطته يدها، ولثمها الرجل في حب عميق. وقالت تداعبه: أيها الفنان الكسول.
ولم يرض هنفر عن هذا الوصف فقال: لقد انتهيت من عملي في زمن قصير. - والحجرة الصيفية؟ - هي الباقية بلا زخرف، وإنه ليؤسفني أن أقول لك بأني لن أزخرفها بنفسي.
فبدا التساؤل على وجه رادوبيس، فقال الرجل: سأرتحل بعد غد إلى بلاد النوبة؛ لأن أمي مريضة، وقد بعثت إلي رسولا يبلغني رغبتها في رؤيتي، فلم أر بدا من السفر . - خففت الأرباب عنها وعنك.
অজানা পৃষ্ঠা