فإنا نقول في ذلك: إن الله أعطى إبليس من الفهم واللب ما يقدر به على التمييز بين الأمور، ويعرف به الخيرات من الشرور، ويقف به على الصالح من ذلك والطالح، وإنما أعطاه الله ذلك، وجعله وكل الخلق المتعبدين كذلك، لأن يعرفوا [قوله](1) ويعرف ما افترض الله عليهم [وعليه](2)، فيتبع ذلك دون غيره ويثابر عليه، ويعرف ما يسخط الله فيجتنبه ويتقيه، ويحاذر انتقامه فيه، ولو لم يعطه وغيره ذلك لم يهتدوا أبدا إلى فعل خير ولا شر، ولا تخير طاعة، ولا إيثار هوى، ولا اتباع تقوى، ولو كان [ذلك وكان] (3) الخلق كذلك؛ لكان معنى الثواب ساقطا عنهم، ولما جرى أبدا عقاب عليهم، ولو لم يجر عقاب، ولم ينل ثواب؛ لم يحتج إلى جنة ولا نار، ولما وقع تمييز بين فجار ولا أبرار، وقد ميز الله ذلك فقال: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}[الحشر: 20]، ولو كان ذلك كذلك، لكان معنى الملك والتمليك عندالله سبحانه ساقطا هنالك، ولكنه سبحانه لما خلق الخلق لم يكن للخلق بد من عمل، ولم يكن العمل كله لله رضى، ولا كله سخطا [طرا معا](4)، ولما كان من الأعمال مرض لله ومسخط، لم يكن بد من الأمر بالعمل المرضي، والنهي عن العمل المسخط، فلما كان ذلك كذلك لم يكن بد من الترغيب على العمل الصالح بالثواب، والترهيب على العمل الطالح بالعقاب، فجعل(5)الجنان ترغيبا، والنيران ترهيبا، وترهيب الشيء من الشيء الذي لا يستطيع أن يرهبه محال، كما أن ترغيب الشيء فيما لا يقدر على أن يرغب فيه محال، فاحش من الفعال، ولا يكون ترغيب إلا لمن يقدر على الرغبة، ولا ترهيب إلا لمن يقدر على الرهبة، ولا أمر ولا نهي إلا لمن [يقدر على أن](6) يميز بين المأمور به والمنهي عنه، فجعل الله وركب فيهم استطاعة وتمييزا، ليعرفوا رضاه فيتبعوه، ويفهموا سخطه فيتجنبوه فيثيبهم أو يعاقبهم على ما يكون من أفعالهم باختيارهم، لأن المثيب على فعله إنما هو مجاز لنفسه. ثم أمرهم عز وجل ونهاهم، ثم قال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، ولو لم يعلم أن لهم(1) مشيئة وتمييزا واقتدارا على الفعل والترك لم يقل: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. وقال سبحانه: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12]، ولو لم يكن فيه استطاعة مركبة قبل الأمر، ولم يكن قادرا على أخذ الكتاب؛ لم يقل: خذ، وهو لا يقدر على الأخذ، لأن القائل للحجارة وما كان مثلها يقال (2): مخطيء محيل في المقال، فتعالى الله عن ذلك.
وقال: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} [الجاثية: 14]، ولو لم يكن المؤمنون يقدرون على الغفران لمن أمروا بالمغفرة له لم يقل: يغفروا، وكان يحدث فيهم الغفران لأولئك فيغفروا، ولم يكن ليأمرهم من الأمر بمالا يطيقون.
পৃষ্ঠা ২৮৫