لكن السؤال الأكثر منطقية هو إذا كانت الجريمة النازية قد حدثت بالفعل، فلماذا تطوع النازي وسمح للنخبة اليهودية بالهجرة؟ والسؤال وجيه، لكن الوقائع تقول ما يفيدنا بإجابة مقنعة، فلعلنا نذكر أن منظمة الأورجون اليهودية في فلسطين، قد قامت بإعلان الحرب رسميا ضد حكومة الانتداب البريطانية عام 1944م. ونظمت نشاطات إرهابية متتالية ضد القوات البريطانية في فلسطين، وهو ما جاء في سقطة أخرى بخطاب السيد شامير في مدريد، في قوله: «لقد قامت الدولة اليهودية وتكونت؛ لأن الطائفة اليهودية الصغيرة بفلسطين أيام الانتداب ثارت على الاحتلال الإمبريالي!» وسقطة السيد شامير هنا فاضحة، ففي الوقت المفترض فيه، أن اليهود يحاربون الألمان، وأنهم ضحية المجازر النازية، كان اليهود في فلسطين يقومون بنشاطات إرهابية ضد بريطانيا! الأمر واضح تماما، تؤيده العلاقات غير الخفية التي قامت بين عصابة «شيترن» اليهودية بفلسطين، وبين إيطاليا الفاشية، وشنت بموجبها عددا من الهجمات الإرهابية على البريطانيين بفلسطين، أما مناحيم بيجن زعيم عصابة الأورجون، فقد وصل لفلسطين كجندي في الجيش البولوني لمقاتله النازية، ثم فر من الجندية، ونظم عصابته لقتال البريطانيين وقتل الفلسطينيين.
هكذا تمت الخطة الصهيونية على ثلاث محاور: محور يهود أوروبا، ومهمته قتال النازية لكسب تأييد الحلفاء، ومحور ألمانيا للتخلص من نفايات يهودية لا تؤمن باليهودية وحقوقها التاريخية، ليتم بها كسب عطف العالم والضغط على ضميره في أشد الظروف العالمية توترا. ومحور ثالث كان فيه صهاينة فلسطين يقدمون للنازي خدماتهم الجليلة، ويقاتلون بريطانيا لصالح دول المحور، تنفيذا للاتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشف لنا أهم جوانب طبيعة الخطاب الصهيوني، وهو التزوير الفاضح، وتهديد ضمير العالم دوما بدم اليهود المسفوك، لأنه إذا كان بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة، فإن ناموس الصهيونية قد أكد أنه بدون دم وسفك دم لا تقوم لإسرائيل دولة.
الدين والعنصر
وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد، هو أن الزعماء العرب الذين كنا نود أن نصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية. وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات، فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق «فلسطين»، إنما يشير إليها بوصفها «أرض إسرائيل»، هو ما يستدعي مجموعة تداعيات تاريخية، مع مداخلات تلفيقية تربط تلك الأرض بشعب واحد فقط، عاش مع مجموعة شعوب أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعب واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينا، والدين عرقا. كما يسمح بتداخل آخر مع التراث الديني للمسيحيين، بإجراء التطابق في الخطاب بمهارة علاقات التطابق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية، فالخطاب يتحدث عن رفض العرب «للدولة اليهودية»، وادعائهم أن أرض إسرائيل عربية فتتطابق هنا الدائرة الكلية لمفهوم الدين اليهودي، وتتكافأ مع الدائرة الكلية لأرض فلسطين. لكن بعد حذف «فلسطين» ووضع «إسرائيل»، لتصبح فلسطين إسرائيل، ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تواجد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء، هم «الزعماء العرب». المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزل رقيق للشعوب العربية، فنحن أصدقاء؛ كشعبين، وأهل، وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أما المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي، وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلة ضمن عدد كبير من الشعوب الأخرى - التي ذكرتها التوراة - في فلسطين، مثل الكنعانيين «الفلسطينيين»، والحيثيين، والعمونيين والأدوميين، والموابيين، والفرزيين، واليبوسيين ... إلى آخر القائمة المعروفة. ثم تجري المطابقة الدائرية مرة أخرى بين اليهودية كدين بعد أن أصبحت جنسا، وبين يهود اليوم المتناثرين بين جنسيات العالم على تفرقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا، وعرقا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدين واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا، تأسيسا على مدخل منطقي سافر التزوير، وعلى أساس ديني عقائدي، ينهض على أسس أسطورية، خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم، بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية، خاصة المتدينين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها، بحيث بدوا كما لو كانوا محافظين تماما على نقاء البذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراض يقوم على التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرة بنات اليهود، لا اليوم، ولا حتى في العصور التوراتية
وبنظرة سريعة عجلى على إصحاحات الكتاب المقدس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجا لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم، الذي حكى الكتاب عنه: «فانحدر إبرام إلى مصر، وقال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة
অজানা পৃষ্ঠা