ويريان القمر في ليالي الصيف فيمدان نحوه أيديهما، يتنهد قسمتي مغلوبا على أمره ويثور نصيبي غاضبا، ويتساءل الحاج: هل نحبسهما في البيت إلى ما شاء الله؟
فتقول ست عنباية: أخاف عليهما عبث الأطفال.
وقرر الحاج أن يقوم بتجربة، فجلس أمام البيت على كرسي خيرزان وأجلسهما إلى جانبه على كرسي آخر ... سرعان ما تجمع الصغار من مختلف الأعمار ليتفرجوا على المخلوق العجيب، ولم ينفع معهم زجر أو نهر، حتى اضطر الرجل أن ينسحب من مجلسه وهو يحملهما على ذراعه، وتمتم في أسى: بدأت المتاعب.
ولكن الله فتح على ست عنباية بفكرة ... فاقترحت أن تقنع جارتها بإرسال ابنها «طارق» وبنتها «سميحة» للعب مع محمدين، ووافقت الجارة مشكورة، فجاء طارق وسميحة، وكان طارق أكبر من محمدين بعام، أما سميحة فكانت تماثله في عمره. وقد فزعا أول الأمر ونفرا من الصحبة، غير أن ست عنباية استرضتهما بالهدايا حتى زايلتهما الوحشة وجرفهما حب الاستطلاع والمغامرة، وسعد قسمتي ونصيبي بالرفيقين الجديدين، وأحبا حضورهما حبا فاق كل تقدير، رغم أنه لم يفز بحب في مثل قوته، وتنوع الحديث واللعب وابتكرت الحكايات. وجدت الكرة الصغيرة من يتبادل رميها، ووجد الحبل من يتصارع على شده، وباتت سميحة هدفا ورديا كل يرغب في الاستحواذ عليه، وكل يدعوها إلى الجلوس إلى جانبه إذا جمعهم التلفزيون. وبسبب سميحة نشبت بينهما أول معركة حقيقية على ملأ من الأسرة، فدميت شفة «نصيبي» وورمت عين «قسمتي»، وبها تحرر قسمتي من الذوبان في نصيبي ... وأخذ يشعر بأنه فرد بإزاء آخر، فتبادلا من الآن فصاعدا التوافق كما تبادلا التنافر، وقال الحاج ذات يوم: جاءت السن المناسبة للمدرسة.
فتجهم وجه عنباية وارتسم في أساريره الشعور بالذنب، فقال الحاج: إنه باب مغلق!
وتفكر مليا ثم قال: سأجيء لهما بالمعلمين، يجب أن يعدا على الأقل ليحلا محلي في الدكان.
وجاء المعلمون، ولقنوهما مبادئ الدين واللغة والحساب، واستجاب «قسمتي» للتعلم بدرجة مشجعة، أما «نصيبي» فبدا راغبا عن العلم متعثرا في الفهم والاستيعاب، ومن أجل ذلك حنق على الآخر، وكدر ساعات مذاكرته بالعبث والغناء والمعاكسات الصبيانية، وبدا الخلاف مزعجا في تقبل التربية الدينية التي أقبل عليها قسمتي بقلب مفتوح، على حين وقف فيها نصيبي موقف اللامبالاة. وضاعف زجر المدرس من عناده، ونهره أبوه كثيرا، ولكنه أشفق من ضربه ... وعند بلوغ الثامنة أراد قسمتي أن يصلي ويصوم، ومع أن نصيبي لم يمل إلى ذلك، إلا أنه وجد نفسه يشارك بقدر لا يستهان به في الوضوء، وأنه يرغم تقريبا على الركوع والسجود ... ولشعوره بضعف مركزه أذعن للواقع وهو يمتلئ حنقا وغيظا، وأمره أبوه بالصيام، وحاول أن يشبع جوعه في الخفاء، ولكن قسمتي احتج، قائلا: لا تنس أن بطننا واحد، وإذا تناولت لقمة واحدة أخبرت أبي.
وصبر يومه حتى نفذ صبره، فبكى، فرقت له أمه، وقالت للحاج: الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، دعه حتى يكبر عاما أو عامين.
فقال الأب في حيرة: ولكنه إذا أفطر أفطر الآخر!
وهي مشكلة لم يحلها إلا إمام سيدي الكردي ... فقال إن العبرة بالنية، وإن صيام «قسمتي» صحيح حتى لو أفطر «نصيبي»، وصام قسمتي رغم إفطار نصيبي مستندا إلى نيته أولا وأخيرا. وتوكد لكل شخصيته، وحال بينهما نفور دائم آخذ في الاستفحال، وندرت بينهما أوقات الصفاء، وقالت الأم بعين دامعة: يا ويلي، لا يطيق أحدهما الآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فكيف تمضي بهما الحياة؟!
অজানা পৃষ্ঠা