بل الفرد الواحد من أفراد الناس حياته سلسلة من حالات وجدانية، ولكل حلقة من هذه السلسلة ما يميزها من بقية الحلقات؛ فليس ما أشعر به الآن من ضيق نفسي هو نفسه الضيق النفسي الذي شعرت به أمس القريب أو أمس البعيد. إن حالتي النفسية الآن - مهما يكن مضمونها وفحواها - متفردة بخصائص أستطيع إدراكها لو وهبني الله موهبة الأديب الحق الذي يستطيع إدراك الخصائص التي تفرد الحالات والمواقف والأشخاص، وإذن فليس ما هنالك هو «ضيق نفسي عام» أحسه أنا ويحسه كل من ضاقت نفسه من أفراد البشر، بل الأمر في حقيقته حالات خاصة جزئية فريدة متميز بعضها من بعض، على الرغم مما بينها من تشابه يجيز لنا أن نجمع كل حزمة من المتشابهات في مجموعة واحدة ونطلق عليها اسما واحدا.
ولو وقف الرائي عند أوجه الشبه التي تجمع الأفراد في مجموعة واحدة، كان أقرب إلى العالم وأبعد عن الأديب؛ لأنه لو أراد له الله أن يكون أديبا بحق لاستوقفه من الأفراد - مهما يكن نوعها - ما يميزها ويخصصها، لا ما يطويها مع غيرها في مجموعة عامة الخصائص مجردة الصفات.
فالشاعر يكون شاعرا حين يلتفت إلى إحدى خبراته الوجدانية الذاتية، ثم يخرج هذه الخبرة الواحدة في بناء من اللفظ تتعاون أجزاؤه على إثارة مثل هذه الخبرة الوجدانية نفسها عند القارئ؛ فلو كنت شاعرا ونظرت إلى حالتي الوجدانية الراهنة - مثلا - وهي حالة من الضيق، لها عناصرها وخصائصها، لكن هذه العناصر والخصائص بالطبع تجتمع معا في نفسي لتتكون منها «خبرة واحدة»، ثم أردت إخراج هذه الحالة الداخلية ألفاظا ترص على الورق، وجب ألا تجيء هذه الألفاظ فرادى، بل وجب ألا تجيء العبارات المؤلفة من هذه الألفاظ عبارات فرادى، لا شأن للواحدة منها بالأخرى، بل ينبغي أن تتعاون على بناء كائن واحد، يصور الكائن الواحد الذي هو خبرتي الوجدانية؛ وإذن فمقياسنا في تقدير القصيدة من الشعر هو الإشارة إلى الخبرة الوجدانية الداخلية أولا، وثانيا إلى ما بين أجزاء القصيدة من ترابط يجعل منها بناء واحدا فريدا.
وقل شيئا كهذا في سائر الصور الأدبية؛ فعلامة القصة الجيدة أو المسرحية الجيدة هي تكامل الشخوص المصورة تكاملا يجعل منها أفرادا كهؤلاء الأفراد الأحياء الذين نراهم ونتحدث إليهم ويكون بيننا وبينهم حب أو كراهية، وعلامة المقالة الأدبية الجيدة أن تصور حالة وجدانية مرت بنفس الأديب بكل ما لها من خصائص تجعل منها حالة فريدة معدومة الأشباه، إذا أريد بالشبه كمال التماثل والتطابق.
أما إذا صاغ لنا الشاعر طائفة من القواعد العامة في سلوك البشر، وهو ما يسمونه «بالحكمة» حين يقولون عن شاعر إنه حكيم في شعره؛ وأما إذا استهدف القصصي أو الكاتب المسرحي أو كاتب المقالة مذهبا فكريا أو حقيقة عقلية يريد أن ينشرها في الناس لأنه يعتقد في صوابها، فذلك - في رأيي - قد يكون كلاما مفيدا نافعا له قيمته الكبرى في الرقي بالإنسان إلى ما شاء له الكاتب أن يرقى، لكنه لا يكون أدبا بالمعنى الخاص للأدب. •••
وأما في الفلسفة فإني أتبع فيها أصحاب المدرسة التحليلية بصفة عامة، والشعبة التجريبية العلمية المعاصرة منها بصفة خاصة؛ فأرى أن عمل الفيلسوف الذي لا عمل له سواه، هو أن يحلل الفكر الإنساني كما يبدو في العبارات اللغوية التي يقولها الناس في حياتهم العلمية أو في حياتهم اليومية على السواء، ليست مهمة الفيلسوف أن تكون له «آراء» في هذا أو في ذاك؛ لأن الرأي هو من شأن العلماء وحدهم؛ إذ لديهم دون سواهم أدوات البحث من مناظير ومخابير ومعامل وما إليها، بل مهمة الفيلسوف هي تحليل ما يقوله هؤلاء العلماء وتوضيحه، وهو يختار مما يقوله العلماء عبارات أو ألفاظا محورية أساسية ليلقي عليها الضوء بتشريحها إلى عناصرها الأولية، فإن أقام العلم - مثلا - بناءه على علاقة السبب بالمسبب، تناول الفيلسوف هذه العلاقة السببية بالتوضيح ، أو تحدث العلم عن كيفيات الأشياء وكمياتها، تولى الفيلسوف مدركات الكيف والكم بالتحليل، وهكذا.
وبديهي أن العالم يكون أقدر من سواه على تحليل الألفاظ الرئيسية التي ترد في علمه؛ ولذلك كان الأفضل دائما - وهذا الأفضل هو ما يحدث في كثير من الأحيان - أن يكون العالم هو نفسه فيلسوف علمه، وكل ما في الأمر أن يغير من وجهة سيره، فيسير إلى قاع البناء بدل أن يتجه إلى قمته؛ فلو كانت الأعداد - مثلا - هي نقطة الابتداء في السير، فالباحث عالم رياضي لو بدأ من هذه النقطة صاعدا نحو التركيبات المختلفة التي تتألف من هذه الأعداد، ولكنه يصبح فيلسوفا رياضيا لو بدأ أيضا من هذه النقطة نفسها هابطا إلى أسفل، بحيث يحلل الأعداد إلى عناصرها الأولية التي منها تتكون، وبهذا تكون الفلسفة امتدادا للعلم، ولكنه امتداد يسير في اتجاه مضاد.
ولو أخذنا بهذه النظرة إلى العمل الفلسفي لألقينا عن كواهلنا ما يثقلها من «مذاهب فلسفية» لبث الفلاسفة يدورون فيها قرونا من الزمن، لا فرق بين آخرهم وأولهم؛ وكيف يكون بينهما فرق وهما لا يتعاونان على بناء واحد، بحيث يبني أولهما الطابق الأرضي ويبني الآخر طابقا أعلى، بل «يذهب» كل منهما «مذهبا» كالتائه في الصحراء لا يساير زميله في درب واحد؟ •••
لما هممت بنشر هاتين المجموعتين من الأبحاث والمقالات في هذا الكتاب الذي أقدمه الآن للقارئ، راجعت ما تراكم عندي من هذه المقالات والأبحاث، فوجدتها متفاوتة في أزمانها تفاوتا بعيدا أو قريبا؛ فمنها ما كتبته منذ أكثر من عشرين عاما - نشر أو لم ينشر - ومنها ما كتبته منذ أقل من عام واحد؛ فالبحث الذي صدرت به الجزء الخاص بالنقد الأدبي ترجمة للمقدمة المشهورة التي قدم بها وليم وردزورث ديوانه عن الحكايات الوجدانية المنظومة، وشرح فيه وجهة نظره إلى الشعر وألفاظه؛ وقد ترجمت هذه المقدمة منذ خمسة وعشرين عاما، ولم أنشرها، وها أنا ذا أنشرها كما وجدتها بين أوراقي؛ لأنها - فيما أعتقد - ستصادف جوا فكريا ملائما، في هذا الوقت الذي يصطرع فيه نقادنا حول معايير الشعر، وكذلك مقالة «عينية ابن سينا» كتبتها - ونشرتها - منذ أكثر من عشرين عاما، فيما أذكر؛ ولذلك سيراها القارئ نشازا في نغمتي الفلسفية الراهنة.
هكذا تفاوتت أزمان هذه المقالات والأبحاث، لكنها في مجموعها تصور - كما قلت - مذهبي في الأدب ومذهبي في الفلسفة تصويرا موجزا دقيقا.
অজানা পৃষ্ঠা