(كتبت هذه المقالة منذ أكثر من عشرين عاما، كتبها الكاتب وهو في صدر الشباب.) ***
ادن مني يا صديقي واستمع إلى هذه القصة الممتعة الرائعة التي يرويها ابن سينا عن الروح، وما أدراك ما الروح؟! هذا السر العجيب الذي سري واستكن بين أحنائك فلا تكاد تدري من أمره شيئا! وهل يداخلك شيء من الريب في أنك مزيج من مادة وروح؟ فأما المادة فهي هذا اللحم والعظم، وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع والخيال البارع وتلك الحركة المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يوما قضاؤك المحتوم، انطلق كل من العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون، وأيان يذهب بعد الموت؟ ذلك ما يرويه ابن سينا في قصيدته وما أنا محدثك به الآن، قال ابن سينا:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
فقد كانت تعيش الروح أول أمرها مطلقة مجردة في الرفيق الأعلى، ثم كتب عليها أن تهبط إلى هذا الدرك الوضيع. ولقد آثر فيلسوفنا الشاعر لفظ الهبوط على السقوط لأنها في رأيه لم تسقط إلى هذا الحضيض من عل كما يسقط الحجر الجماد سقوطا لا شعور فيه، أو كمن ينتكس من أوج الجبل إلى سفحه انتكاسا يقربه من الجماد المرغم على السير في طريق بعينها لا يملك لنفسه شيئا، إنما هبطت إليك الروح، وفي لفظ الهبوط معنى الشعور والإدراك، من محلها الأرفع، حيث تسبح العقول المجردة روحانية خالصة لا تشوبها شائبة من مادة، ولكني عهدتك يا صديقي عنيدا ملحاحا لا ترضى بالقول يرسل إرسالا، بل تقتضي محدثك الأمثلة يضربها توضيحا لما يريد، وكأني بك تسائلني أو تسائل الشاعر: وكيف كان ذلك الهبوط؟ فهو يجيب إن شئت للروح في هبوطها مثلا مما تعلم من ألوان الحركة فهي أشبه بالطير سابحة في أجواز الفضاء، محومة صاعدة هابطة، وماذا ترى بين الأشياء التي تتحرك بالإرادة أشد شبها بالروح من الطير في خفته ولطف جوهره، وفي هبوطه وصعوده؟ لعمري لقد وفق فيلسوفنا، بل لقد وفق أصحاب الفن منذ أقدم العصور في تصويرهم للملائكة أو ما يتصل بالملائكة من كائنات روحانية بالجسوم المجنحة إدراكا منهم لهذه الرابطة القوية الصادقة بين خفة الأرواح ولطفها، وبين رشاقة الطير ورقته، ولكن فيلسوفنا الشاعر لا يرضيه تشبيه الروح في هبوطها بالطير على عمومه، بل أجال بصره في عالم الطير لعله يجد بينها نوعا خاصا يكون أقربها صلة بالروح، فما أسرع أن ساقه صدق شعوره وكمال إحساسه إلى الحمائم! وهل تستطيع أن تدلني على طير هو أشد من الورق استئناسا ووداعة، وأطول من الورق حنينا وأصدق بكاء؟! وإذن فما أشبه الروح بالورقاء! فهي قد نشأت في عالم قدسي رفيع، مجردة عن ملازمة المادة ومواصلتها، فلما كان لها أن تهبط إلى الجسد المادي، طال ترددها واشتد تعززها وتمنعها، وكانت فيما أحست من ألم كمن ينتحب بالبكاء؛ حنينا إلى عالمها ذاك، ونفورا وازورارا من الأخلاط الجثمانية التي كتبت لها أن تهبط إليها فتعيش بينها فترة من زمان.
محجوبة عن كل مقلة ناظر
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
ألا ما أعجب الروح! إنها تلازمك أينما حللت، لا تفارقك إلا يوم تكون أنت لست إياك؛ فهي قريبة منك، بل هي أنت؛ تسري في دمائك، وتدب في كل عضو من أعضائك، ثم هي مع ذلك تمتنع على النظر وتستعصي على الإدراك! فإذا ما حاولت رؤيتها تحجبت وأسدلت حول نفسها قناعا صفيقا لا ينفذ منه شعاع من بصر، لماذا؟ لأنها تذكر ماضيها الجليل، يوم كانت في العالم الأقدس الرفيع، فتأخذها العزة والكبرياء، وتتعالى عن إدراك العيون! وكيف تريدها على الظهور أمام مقلتيك وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ فأما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر، وكل محاولة منك في هذه السبيل صائرة حتما إلى فشل وإفلاس، ولكن لا تيأس يا صاحبي؛ فثم سبيل لإدراكها غير هذه المقل، وغير هذه الحواس جميعا، انظر إليها بعين العقل تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها لا تسدل من دونه البراقع والستور؛ فهي إن كانت تأبي أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي إنما تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها. إذن فالروح مع كمال خفائها وشدة غموضها عن العين، يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان.
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات توجع
অজানা পৃষ্ঠা