وننتقل بعد ذلك إلى ما يراه الدكتور زكي ويصر عليه - كما يقول - من وجوب قيام النقد كعلم ورده لقولنا «إن النقد ليس علما ولا يمكن أن يكون علما، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.»
لقد تساءل الدكتور الفاضل تعليقا على جملتنا السابقة تساؤلا لاذعا فقال: «لست أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟» ثم سارع فرد على تساؤله، فعرف العلم بأنه «منهج البحث» مضيفا قوله: «ولست أعلم للعلم تعريفا غير هذا.» وفي هذا ما يدهش؛ لأن الدكتور الفيلسوف لا بد قد طالع عدة تعريفات للعلم، ولست أدري أين طالع تعريف «العلم» بأنه «منهج البحث» أو «ترتيب منهجي للحقائق» - نعم لست أدري أين طالع هذا «التعريف الوحيد!» وذلك لأن الذي يعرفه الجميع تعريفا للعلم هو «أنه مجموعة من القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» ووظيفته هي استنباط تلك القوانين - وأما أن للعلم منهجا ولكل علم خاص منهج فتلك مسألة لا يعرف بها العلم.
ولقد زادني دهشة تساؤل الدكتور الفيلسوف عن الفرق بين العلم وروحه؛ وذلك لأن هذا الفرق أيضا من البديهيات.
يقول فردريك رو - الفيلسوف الأخلاقي المعروف - في صدد العلم والأخذ به في الدراسات الأخلاقية ما يأتي: «الشي الذي يجب أن نأخذه عن العلم، ليس هذه الوسيلة أو تلك ... بل روحه ... وذلك لأنه يلوح لنا أن ليس هناك علم عام أو منهج عام، وإنما هناك منحى علمي عام ... لقد خلط الناس لزمن طويل بين الروح العلمية في ذاتها وبين منهج هذا العلم أو ذاك، بسبب النتائج الدقيقة التي انتهى إليها ذلك المنهج، وبذلك أصبحت وحدة العلوم الطبيعية والعلوم الأخلاقية ليست إلا فرضا أوليا
، ومع ذلك فهناك منحى نفسي نواجه به الطبيعة وهو منحى مشترك بين العلماء.»
ويفسر لانسون هذه العبارات ويطبقها على الأدب ونقده فيقول: «(منحى نفسي نواجه به الطبيعة) هذا هو ما نستطيع أن نأخذه عن العلماء فننقل إلينا النزوع إلى استطلاع المعرفة والأمانة العقلية القاسية والصبر الدءوب والخضوع للواقع والاستعصاء على التصديق، تصديقنا لأنفسنا وتصديقنا للغير، ثم الحاجة المستمرة إلى النقد والمراجعة والتحقيق.»
وإذن فهناك شيء اسمه «العلم» وهناك شيء اسمه «روح العلم» وروح العلم هي تلك الصفات العقلية والأخلاقية الرفيعة التي عددها لانسون في الفقرة السابقة.
وأما أن يكون النقد علما وأما إصرار الدكتور زكي على ذلك فقد أغناني لانسون أيضا عن الرد عليه عندما قال: «لقد كان تقدم علوم الطبيعة خلال القرن التاسع عشر سببا في محاولة استخدام مناهجها في التاريخ الأدبي غير مرة؛ وذلك أملا في إكسابه ثبات المعرفة العلمية وتجنيبه ما في تأثرات الذوق من تحكم وما في الأحكام الاعتقادية من مسلمات غير مؤيدة، ولكن التجربة قد حكمت بإخفاق تلك المحاولات.» ثم يضرب لذلك أمثلة بما حاوله نين وبرنتيير في فرنسا.
ويضيف ذلك الناقد العظيم: «استخدام المعادلات العلمية في أعمالنا بعيد عن أن يزيد من قيمتها العلمية. إنه على العكس ينقص منها؛ إذ إن تلك المعادلات ليست في الحقيقة إلا سرابا باطلا عندما تعبر في دقة حاسمة عن معارف غير دقيقة بطبيعتها؛ ومن ثم تفسدها ... لنحذر الأرقام. الرقم لا يمحو الفضفاض والعائم في تأثرنا بل يستره ... الاصطلاح العلمي عندما ننقله عندنا لا يلقي غير ضوء كاذب، بل قد يحدث أن يلقي ظلمة ... إلخ إلخ.»
ونحن في الحق لا ندري ماذا يقصد الدكتور زكي بأن يكون النقد «علما»، فإذا كان ما يقصد إليه هو قيام النقد على منهج فذلك ما نقره عليه، وقد كتبنا كتابنا كله على هذا الأساس. وإذا كان يقصد الأخذ بروح العلم في النقد الأدبي فذلك أيضا ما نقره، بل ندعو إليه. وأما إذا كان يقصد محاولات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما جاهد رجل كتين مثلا في أن يفسر الأدب والأدباء بالزمان والجنس والبيئة، ولا يترك لأسرار العبقرية الفردية شيئا، أو رجل كبرونتيير عندما أخذ يطبق التطور على الأدب وتسلسل أنواعه في تكلف سقيم. نعم إذا كان يقصد دكتورنا أمثال تلك المحاولات فذلك ما نأباه ونصر فيه على إبائنا هذا؛ لأنه خطأ جسيم، ولا فائدة من العودة إلى تجارب قطع الزمن بفشلها.
অজানা পৃষ্ঠা