وتنفح الحقول الناس قاطبة بنفحة معهودة،
والأطيار تتشاكى لتلهب قلوبها الصغيرة، ⋆
وأنا أبكي عبثا لغير سميع، ⋆
فأشتد بكاء كلما رأيت عبث البكاء.
وتستطيع في غير عسر أن ترى أن ما يستحق التقدير في هذه المقطوعة الشعرية هي الأسطر المرقومة وحدها، وهي لا تختلف في لغتها عن النثر في شيء.
3
يتبين من هذا المثال السابق أن لغة النثر يجوز أن تستخدم في الشعر، ولقد زعمنا فيما سلف أن ألفاظ الشطر الأعظم من روائع الأشعار لا تختلف عن ألفاظ النثر الجيد في شيء، فلنخط إذن إلى الأمام خطوة فنؤكد تأكيدا لا يأتيه الباطل أن ليس ثمة، بل يستحيل أن يكون ثمة فارق جوهري بين لغتي النثر والشعر. إننا نميل إلى تعقب أوجه الشبه بين الشعر والتصوير حتى عددناهما تربين؛ فأين عسانا أن نجد من الروابط الوثيقة ما يكفي أن يجلو الصلة بين لغتي النثر والنظم؟ فكلاهما تنطقهما أداة بعينها وكلاهما يخاطب عضوا بعينه، ويمكن القول إن ما يكسو كليهما من الجسد قوامه مادة بعينها، ونزعتاهما متقاربتان بل تكادان تكونان متطابقتين، وليس يلزم بالضرورة أن يختلفا حتى من حيث الدرجة. إن الشعر
4
لا يهمي من العبرات «ما يشبه عبرات الملائكة» ولكنه يسفح دمعا آدميا طبيعيا. إنه لا يستطيع أن يفاخر النثر بأن دماء مقدسة تجري في عروقه فميزت دماءه من دماء النثر؛ إذ يدب في عروقهما على السواء دم بشري واحد.
فلو أقيم لي الدليل على أن القافية والوزن وحدهما يكونان فارقا يعكس ما زعمناه الآن من تشابه دقيق بين لغتي الشعر والنثر، ويمهد الطريق لفوارق أخرى مصطنعة يسلم بها العقل راضيا، لأجبت أن لغة هذا الشعر الذي أقدمه في هذا الديوان نخبة اختيرت بقدر المستطاع من لغة الناس كما ينطقون بها؛ فهي حيثما صيغت في ذوق سليم وشعور صادق تميز نفسها بنفسها أكثر جدا مما تظن عند الوهلة الأولى، ويكون فيها الفارق الذي يباعد مباعدة تامة بينها وهي مصوغة في الشعر وبين حوشية الحياة العادية وضعتها. وإني لأومن أنه بإضافة الوزن إلى تلك اللغة ينشأ فارق يكفي لإقناع العقل المنطقي، ولكن ترى هل ثمة فارق آخر؟ أنى عسى أن يجيء؟ وأين ينتظر أن يكون؟ يقينا إنه لن يكون حيث ينطق الشاعر على ألسنة أشخاصه؛ فها هنا لا تحتم الضرورة ذلك الفارق، لا من حيث التسامي بالأسلوب ولا من حيث ما يزعمون له من زخرف؛ إذ لو كان الشاعر موفقا في اختيار شخصه، فإنه سيتأدى بحكم ذلك الشخص وفي الفرصة الملائمة، إلى عواطف لو انتقيت عبارتها في صدق وفطنة، لجاءت نبيلة وبارعة وحية بما تحوي من ألوان البيان والبديع. وإني لأمسك هنا عن الحديث فيما يصيب القصيدة من تشويه يصعق له القارئ الذكي، إذا ما خلط الشاعر في شعره أبهة يضيفها من عنده إلى ما توحي به طبيعة العاطفة، وحسبي أن أقول إن هذه الإضافة لا تحتمها الضرورة، ويقيني أنه من الجائز جدا أن يكون لتلك العبارات التي تزخرفها ألوان البديع والبيان زخرفة منسقة ما هي جديرة به من أثر، على أن تساق في مواضع غير هذه، حيث تكون العواطف رخية قليلة العنف، على شريطة أن يجيء الأسلوب كذلك طيعا هادئا.
অজানা পৃষ্ঠা