فتمتم بحرارة: الحمد لله.
ولكن ثمة مشكلة أخرى اعترضت أمنه في بيته الأول تتعلق بصحة إحسان، لاحظ أن بدانتها تمضي ببطء وثبات دون توقف، وأنها تنتفخ بصورة لا تغيب عن عين أحد، بل أخذ نشاطها يقل، وحركتها تثقل، وأحيانا تجلس فلا تقوم إلا بمعاونة الخادمة، هذا بالرغم من أنها أبعد ما تكون عن الإفراط في الطعام، ويقول صادق: ليلى تأكل ضعفها ولكنها لم تفقد رشاقتها.
وأخيرا رأى أن يعرضها على طبيب فاكتشف بها خللا في الغدد ووصف لها الدواء، ولكن الدواء لم يجد، واتبعت نظاما قاسيا في الغذاء دون ثمرة، وساورها القلق على نفسها، وشاركها قلقها من قلب بات يقدرها أكثر من الأول، ولم ير بدا من استخدام طاهية لها مسلما أمره إلى الله. وفي تلك الأيام وسع من نشاطه المالي فاشترى البيت الذي ولد فيه ب «بين الجناين» وبيت إسماعيل قدري بشارع حسن عيد، وهدمهما ليشيد مكانهما عمارتين جديدتين كانتا أول عمارتين حديثتين تقومان في العباسية الغربية، ويسهمان في زيادة سكان العباسية والقضاء على ما يتبقى لها من هدوء تقليدي.
حمادة الحلواني يواصل حياته العريضة ولا يكف عن إلقاء أحاديثه الممتعة التي تمثل جولاته بين المعارف متحررا من أي التزام. وكم أشفقنا من أن يخطفه الثراء منا فيأنس إلى أناس آخرين وأجواء جديدة ويزهد في العباسية وقشتمر! ولكنه لم يتخلف ليلة عن قشتمر وأصدقاء طفولته. ولأنه الأعزب الوحيد تعلق قلبه بحرارة بالصداقة وذكريات الماضي، ولم يحظ بأي تعويض لدى أخيه توفيق للبرود المتبادل بينهما منذ الصغر، واضطر كذلك للابتعاد عن شقيقته المحبوبة لما ترامى إليه من أن زوجها يتحدث عنه بازدراء باعتباره حشاشا مدمنا، فلم يبق لقلبه من مجال يمارس فيه عواطفه سوى قشتمر وسماره القدامى، وقد ماتت أمه عفيفة هانم بدر الدين فيما يشبه المغامرة؛ إذ كانت أسرته أول أسرة في العباسية تركب في بعض حجراتها أجهزة تكييف الهواء، وفي يوم اشتد قيظه جلست الهانم أمام التيار البارد تجفف عرقها السائل، فأصابها التهاب رئوي، ولما عولجت بالبنسلين - الساحر الجديد - تبين أنه يحدث بها حساسية شديدة ففاضت روحها فجأة، وتلقى حمادة حادث الوفاة - في منتصف الحلقة الرابعة كان - برزانة لا تتناسب مع حبه القديم لأمه. ولما كان أخوه توفيق يقيم في المعادي وأخته أفكار في الزمالك فقد وجد نفسه يبيت أياما في قلعة مكتظة بالخدم والحشم، وقد يمر أسبوع كامل لا يطؤها بقدم، فمن هنا نشأت فكرة بيع السراي. وتحركت غريزة الملكية والثراء لدى صادق ولكنه خاف أن يبتلع الثمن المطلوب - مائتا ألف من الجنيهات - سيولته المالية، فضلا عن أنه لا يشتري مثل هذه السراي إلا ليحولها إلى عمائر وهو ما لا يتاح له الآن، فاشتراها عم حسنين صاحب الطابونة، وهدمها وشرع في إقامة أربع عمائر في مكانها، كانت أول سراي داخل العباسية الشرقية تتحول إلى عمائر، وتجذب فيما بعد إلى سكانها أناسا ما كانوا يحلمون بالوجود في العباسية الشرقية إلا كسياح أو عشاق متسللين، ويزداد ثراء حمادة بنصيبه من ثمن السراي وبما ورثه عن أمه وهو ما يقارب خمسين ألفا من الجنيهات. الثراء عادة من عاداته اليومية يكاد يفقد سحره، ونطلق عليه عادة: البوق الذي يذيع كل رأي دون أن يكون له رأي، وهو دائما وأبدا القارئ السامع المشاهد الفاسق الشريب الحشاش، ولكن يغلب عليه الحشيش فيلوح في ثقل نظرته وبطء حركته وشدة استهانته. مرة قال له صادق: يا بختك، أنت أسعد الجميع وأصفاهم بالا.
فحرك رأسه معترضا ولكنه لم ينبس بكلمة، وإذا به يقول لنا ذات ليلة: عندما أستيقظ صباحا أتساءل: وماذا بعد ذلك؟!
فقال له طاهر عبيد: إذا أتحفنا المطرب بنغمة حلوة هتفنا له: أعد ... أعد.
فقال بهدوء: أحيانا لا يرحب القلب بالإعادة!
فسأله صادق باهتمام: هل بدأ الملل يناوشك؟!
فأجاب بسرعة كأنما يدفع عن نفسه تهمة: غير صحيح، ما هي إلا حال تمر، ولكن تؤرقني مسألة! - مسألة؟! - إن الحياة أخذ وعطاء، أما أنا فآخذ فقط.
فقال طاهر ساخرا: ما دام يوجد من يعطي ولا يأخذ فلا بأس أن يوجد من يأخذ ولا يعطي.
অজানা পৃষ্ঠা