الماضي الفخم؛ فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابُها أرواحَهم على أكفّهم، وقدّموا بين أيديهم دماءهم التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز، ونفوسَهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة، فمشت في الأعصاب النار، واستعد كتّاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب إذا هبّ.
ووصل موسى، ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأتِ في سنوات الهجرة الأولى، بل جاء في الأواخر من القرن التاسع، ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد، بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها.
وكانت تعلوه كآبة، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكًا أخرى أو قادسية ثانية، ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى، قد ختمه الآن بموسى!
ونظر موسى حوله، فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره، وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم، ونسوة تفتحت تفتح الأكمام عن زهراتها فرأت الطرقات مَن لم تكن الشمس تراهن صيانة وتعففًا، قد برزن يَسِرْنَ إلى المعركة ويزاحمن الرجال، ولم يكُنّ يخشين على جمالهن، فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس، فكان كل رجل أخًا فيه لكل امرأة.