بقعة الزيت عائمة على سطح الماء، محال عليها أن تغوص إلى غوره؛ لأن طبيعة الزيت وطبيعة الماء لا تأتلفان. قد تترك آثارها اللزجة في الماء الذي يلاصقها، ويترك الماء فيها ملوحته، لكن الزيت يظل زيتا، ويظل الماء ماء. يهتز الماء بموجه صاعدا هابطا، فلا تملك بقعة الزيت - مهما اتسعت رقعتها - إلا أن تهتز معه صعودا وهبوطا، لكن هذه المصاحبة الحركية لا تغير من الأمر شيئا، فالماء يظل ماء، ويظل الزيت زيتا، وعلى صورة تشبه ما بينهما من تجاور وتنافر معا، ومن اتصال في المكان مع انفصال في الطبع، رأيت العلاقة بين كتلة الشعب من جهة، وجماعة «المثقفين» من جهة أخرى، على امتداد الفترة الطويلة، التي هي عصر نهضتنا الحديثة، ممتدة من أول القرن الماضي، وإلى هذه اللحظة من ثمانينيات هذا القرن.
ولعلك قد لحظت أني وضعت كلمة «المثقفين» بين علامات تحصرها لتقف العين عندها قليلا، وإنما فعلت ذلك لأن هذه التفرقة نفسها، بين جمهور الشعب في ناحية، والجماعة التي أسميناها «المثقفين» في ناحية أخرى، كانت بين ما استحدثته النهضة الحديثة. وأما قبل ذلك - في القرن الثامن عشر وما قبله - فلم تكن هذه التفرقة معروفة على نحو ما نعرفها نحن اليوم - أو هكذا أظن - لأن تجانسا شديدا كان يربط من يعلمون ومن لا يعلمون، وكل ما في الأمر هو أن يرشد الذين يعلمون من لا يعلمون. وكان هؤلاء يريدون الإرشاد من أولئك ويتوقعونه؛ لأن علم الفئة الأولى يدور كله على أركان العقيدة وأحكام الشريعة، وهو علم يسعى إلى شيء منه سائر المواطنين، فكلما صادفت أحدهم مشكلة، التمس لها الحل الصحيح عند من تعلموا ودرسوا أصول الدين وأحكام الشرع ، فجاءهم علم باللغة العربية تبعا لذلك.
فلما فتحت علينا أوروبا أبوابنا، وجاءتنا بعلم جديد، وفكر جديد، وأدب جديد، وتلقت فئة منا هذه الألوان الجديدة، أصبحت تلك الفئة هي جماعة «المثقفين» وهم يتميزون بأن محصولهم الذي حصلوه، قد يؤدي بأشخاصهم هم إلى كثير أو قليل من التهذيب ورهافة الحس، لكنه محصول لا يشعر سائر أفراد الشعب أنهم في حاجة إلى شيء منه فلن تصادف أحدا منهم في حياته العملية أو الدينية مشكلة يلتمس حلها عند من أحاط علما بكل شيء عن الأدب الفرنسي أو الإنجليزي، أو ألم بكل شيء عن فلاسفة أوروبا من اليونان الأقدمين، فنازلا إلى الفلاسفة المحدثين والمعاصرين. وهنا انشقت فجوة رهيبة بين الشعب في مجموعه من جهة، وجماعة «المثقفين» من جهة أخرى، حتى لقد رأيت شبها بينهما وبين بقعة الزيت العائمة على سطح المحيط. وواضح أنني أستخدم لفظ «الثقافة هنا بمعناه الدقيق» وهو معنى لا يدخل «العلوم» في مجاله، كالكيمياء - مثلا - أو علم الطبيعة وما إليهما؛ لأن موقف الإنسان من هذه العلوم لا يتغير باختلاف الشعوب، وأما الثقافة بمعناها الضيق فتختلف باختلاف الشعوب وباختلاف العصور. ونستطيع القول - على وجه الإجمال - إن العلوم هي وسيلة الإنسان إلى تغيير بيئته، وأما بالثقافة فهو يغير من نفسه.
وإذن فقد استطاعت جماعة المثقفين عندنا أن تغير من نفوسها أفرادا، بحيث أصبح كل فرد منها أشد حساسية للقيم الخلقية والقيم الجمالية، وللإنسان وحقوقه وواجباته. ولكن هل استطاعت أن تنفذ إلى كتلة الشعب فتهزها وترهف حسها إلى تلك القيم، وإلى هذه الحقوق والواجبات؟ وإذا كانت قد استطاعت ذلك فإلى أي حد استطاعت؟
الذي أزعمه هو أنها لم تبلغ من ذلك إلا إلى قليل، وكان معظم هذا القليل في مجال السياسة، إذ أخذ الشعب - خلال المثقفين - يدرك حقوقه السياسة حيال المستعمر الأجنبي أولا، والمستبد الداخلي ثانيا. فإذا استثنينا بعد ذلك جوانب قليلة أخرى - لها أهميتها البالغة - كتحرير المرأة، قلنا إن الشعب في مجموعه لم يتأثر بجماعة «المثقفين» إلى الحد الذي يغير به رؤيته واهتماماته واتجاهاته الأساسية.
بلغت جماعة المثقفين ذروتها في إرادة التغيير وفي التبشير بكل ضروب الحرية وفي غزارة العطاء، إبان العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن ؛ إذ ما كادت ثورة 1919م ترفع لواءها مطالبة برحيل المحتل عن أرضنا، حتى شهدنا فروعا لحرية الإنسان تتفجر في مختلف الميادين، من الاقتصاد الوطني إلى الشعر والفن والنقد الأدبي. وهكذا أخذت آفاق الحرية تتسع أمام أبصارنا، ولكن كم - يا ترى - من تلك الدعوات بلغ آذان الجماهير؟ فإذا قلنا إن تلك الحركة الثقافية كانت تستهدف الأخذ عن ثقافة الغرب ما استطعنا أخذه مما يمكن الملاءمة بينه وبين ثقافتنا الموروثة، وإنها بذلك الاتجاه نفسه إنما كانت تستهدف في الحقيقة أن تكون حياة الإنسان في هذا العالم الدنيوي مدار الاهتمام، فهل شارك جمهور الشعب في التطلع إلى تلك الأهداف؟
أو إنه ظل - في مجموعه - كما كان سلفه قبل النهضة، لا يعرف من رجال الفكر إلا رجلا واحدا، هو عالم الدين الذي يستطيع بعلمه، أن يبصره بأمور عقيدته وشريعة دينه، وهذا - بالطبع - جانب لا غنى عنه لإنسان يستمسك بالعروة الوثقى، ولكن سؤالنا منصب على الإضافة التي كان يمكن أن تضاف، بعد أن فتحت أبوابنا لعلم العصر وثقافته، فهل أضافت كتلة الشعب اهتمامات جديدة إلى اهتمامها القديم؟ وبعبارة أقصر وربما كانت أوضح نقول: هل تغير شيء جوهري في وجهة النظر العامة عند الإنسان العادي، بفضل ما يكتبه «المثقفون»؟ جوابي على هذا السؤال هو بالنفي، إلا استثناءات قليلة، أهمها خاص بالوعي السياسي، فلقد أفلح المثقفون - حقا - في تنمية ذلك الوعي، إلى الحد الذي دفع الشعب إلى ثورات كبرى ثلاث: ثورة عرابي، وثورة 1919م، وثورة 1952م. وأما ما عدا ذلك مما ينادي به «المثقفون» فلا يكاد يستمع إليه المثقفون أنفسهم، فكأنما هم في ناد خاص بهم، يتحدث بعضهم إلى بعض، وأما المحيط الشعبي الفسيح العميق، فباق على هدوئه وسكونه.
اضرب لي مثلا بدعوة لها أهميتها، وجهتها جماعة المثقفين، وأبى الشعب أن يستمع. هكذا قال لي قائل ذات يوم، ونحن في مثل هذا السياق من الحديث ، قلت: الدعوة إلى اكتساب النظرة العلمية في غير مجالات العلوم، بمعنى أن يتلقى الأفكار من يتلقاها، بشيء من دقة التحليل والتمحيص لا لقبول المتسرع الغشيم . وهي دعوة واحدة، لو وجدت شعبا يصغي لها ويعيها، لتعذر على مستبد أن يستبد، وعلى مخادع أن يخدع، فلقد صادفت بين رجال الفكر من يعرف (بتشديد الراء) المثقف بأنه هو ذلك الذي يحلل الأفكار إلى ما يندرج فيها من ظلال الفوارق بين فروعها، فإذا قيل له - مثلا - «اشتراكية»، أخذ من فوره يمعن النظر في صنوف الاشتراكية وما يميزها بعضها من بعض؛ فالاشتراكية هنا غيرها هناك. وإذا قيل له «ديمقراطية» لم ينخدع بهذه اللفظة الواحدة، فيظن أن الديمقراطية واحدة كذلك أينما ظهرت، فوحدانية الاسم لا تدل بالضرورة على وحدانية المسمى، وهل تحت اسم «الزهور» يأتي نوع واحد من الزهر، وتحت اسم «البرتقال» لا يكون إلا صنف واحد من البرتقال؟ وقل مثل هذا - بل قل أكثر منه - إذا ما كان الأمر أمر «أفكار» مجردة. وأنت مثقف بمقدار ما تجد في نفسك دافعا لا قبل لك برده عنك، دافعا نحو أن تحلل المعاني التي يعرضونها عليك في بساطة، وكأن محتواها واضح ظاهر ظهور الشمس ووضوح النهار. وكم من ملايين البشر خدعها خادعون بألفاظ كهذه، يخطفون ببريقها أبصار الناس في سذاجتهم، فيتبعونهم عميا، وهم لا يفقهون أي شيء يتبعون.
ألم تطلب مني أن أضرب لك مثلا لما أردته حين زعمت لك أن جماعة «المثقفين» عندنا في واد، وجمهور شعبنا في واد آخر، فالأولون يقذفون بأفكار كبرى من شأنها أن تقلب وجهات النظر قلبا، ولو تلقاها الشعب بوعي كامل لمعانيها، لزحزحت جلاميده من ماض ذهب وانقضى، إلى حاضر مليء بمشكلات جديدة تريد لها حلولا، لكن أفكار المثقفين تلك، ترتد إليهم كما أرسلوها؟ فضربت لك مثلا بدعوة الناس إلى شيء من روية العقل الناقد للأفكار قبل الأخذ بها في ترحيب أبله.
وانظر إلى السنوات الثلاثين الأولى من هذا القرن، وإلى الأفكار العظيمة التي حاول «المثقفون» أن تنفذ إلى عقول الناس وقلوبهم . ولو فعلت لتبدلت الحال غير الحال: الشيخ محمد عبده في دعوته إلى الذهاب مع حكم العقل إلى آخر مداه في فهم الدين، فإذا بقيت بقية تستعصي على العقل، اكتفينا في قبولها بمجرد الإيمان. ويمكن القول بأن عباس العقاد سار على الطريق نفسه، ولطفي السيد في فكرته عن الحرية السياسية بمعناها الليبرالي الذي يجعل لكل فرد حسابه المستقل في كفة الميزان، وطه حسين في محاولته نزع قناع القداسة عن وجه الماضي، لنخضعه للتحليل العلمي في غير تردد وخوف، وهكذا وهكذا. لكن هل بلغت الرسالة غايتها؟ لو أنها فعلت لما رأينا الناس - وبينهم كثير جدا من المتعلمين غير المثقفين - يسرعون إلى تصديق كل ما يقال لهم عن الخوارق واللامعقول، فإذا قيل لهم إن أشباح الموتى ظهرت من قبورها واندست في زحمة الناس، صدقوا، وإذا قيل إن أرواح من انتقلوا إلى العالم الآخر إذا استحضرها خبير حضرت، ونظمت شعرا، وتحدثت نثرا ليسمع السامعون، صدقوا، وإذا قيل لهم إن العفاريت الزرق عبثت بمنزل فلان، وأخذت تزحزح له قطع الأثاث، وتحطم له ألواح الزجاج، صدقوا. ولك بعد ذلك أن تعجب ما شئت، إذا رأيت هؤلاء الذين لم يترددوا في تصديق الخوارق غير المعقولة، يترددون ألف مرة قبل أن يصدقوا ما يستطيع العلم في عصرنا أن يصنعه.
অজানা পৃষ্ঠা