ولقد شهدت في صباي شيئا عجيبا، وكان ذلك في أعقاب مطر غزير؛ إذ شهدت جماعة من النمل تخرج مخزونها من جحرها، وتنشره متفرقا تحت أشعة الشمس، ولا بد أن تكون قد وجدته مبللا بما تسرب إليه من ماء المطر، وليس مخزون النمل دائما جزئيات صغيرة من مختلف المواد التي تراها صالحة، بل قد يحدث أن تقع على صيد جسيم، فتبقيه على جسامته، وتحفر له مخزنا خاصا يسعه بكل حجمه. وراقبت ذلك بنفسي ذات يوم، وقد كنت عندئذ أجلس أمام غرفة بمستشفى ريفي، حيث كان أخي الأصغر مريضا، وكنت لا أفارقه لأرعاه - عليه رحمة الله ورضوانه - وهناك رأيت في الحديقة أمامي نملة كبيرة تناور «صرصارا» وتداوره، ثم تلذعه في أم رأسه لذعة رأيته يجمد بعدها، فبعدت النملة عنه مسافة قصيرة، حيث أخذت تحفر جحرا، وبسرعة البرق تم لها ما أرادت، فعادت إلى فريستها وجرته إلى حيث الجحر، واعجباه كيف أخذت تقيس «الصرصار» طولا وارتفاعا بخطوات سريعة أخذت تخطوها بجانبه، ومتسلقة على جسده، ثم تدخل الجحر بعد ذلك وحدها، ولعلها وجدت الجحر أصغر من أن يسع الفريسة، فراحت توسعه بحفر جديد، وأعادت عملية القياس، فلما اطمأنت، شدت صيدها، حتى أدخلته في محبسه وردمت من تراب الحفر، حتى أغلقت فتحة الدخول، وذهبت إلى حال سبيلها.
ذلك هو النمل وما يصنعه في تخزين قوته، فهو ماهر كل المهارة في جمعه، لكنه لا يغير منه شيئا. وأما النحل فأمره آخر؛ لأنه ما إن يمتص من الزهور رحيقها، حتى يدير لها معامله الداخلية، فتخرجه في الخلية عسلا. •••
وعلى طريقة النمل وطريقة النحل يكون الإنسان في جمع معارفه وعلومه: فتارة يصنع بها صنيع النمل، وطورا يجري عليها طريقة النحل، وبين الطريقتين تختلف الشعوب، وكذلك تختلف العصور: فشعب ما، أو عصر ما، قد تسوده عملية الجمع والتخزين، حتى إذا ما أراد أحد أن ينتفع بشيء من المعرفة المخزونة في حياته العملية أخرج من المخازن ما يريد؛ ليستخدمه كما كان قد تلقاه وحفظه. لكننا في الوقت نفسه قد نجد شعبا آخر وعصرا آخر، لا يستريح إلا إذا تحولت المواد المجموعة على يديه خلقا جديدا، وبمثل هذا الإبداع يتقدم الإنسان. ولعلك تلحظ عملية الجمع مشتركة في الحالتين، لكن بينما يوقف عندها في الحالة الأولى، يتخطاها المبدع إلى مرحلة تبنى عليها في الحالة الثانية، فالنمل والنحل كلاهما يجمع مواده، فأما النمل فيخزن ما تجمع كما هو، وأما النحل فيصير مما جمعه شيئا جديدا.
وإني لأسارع عند هذه النقطة من سياق الحديث، فأوجز بجملة واحدة ما سوف أعرضه بعد ذلك مشروحا مفصلا. ولماذا أسارع بذكر النتيجة قبل بيان مقدماتها؟ جوابي هو: لأقطع طريق الفرار أمام القارئ الملول الذي يكتفي من كل مقالة بفقرة أو فقرتين، وإذن فليحمل الفكرة معه قبل فراره، عسى أن تثير فيه القلق وإمعان النظر، فأقول: إن مصر قد مضى على بدء نهضتها الحديثة حتى الآن مائة وثمانون عاما؛ إنها بدأت نهضتها قبل أن تبدأ الروسيا نهضتها بما يقرب من ثلث القرن، وقبل أن تبدأ اليابان نهضتها بما يقرب من ثمانين عاما، ولكن مصر خلال الأعوام المائة والثمانين لم تبلغ من النهوض ما يكفي أن تبتكر هي الجديد وتضيفه، كما فعل من بدأ الشوط بعدها، فما علة ذلك؟ إن ذلك قد تكون له علل كثيرة، ولكن إحداها التي تجيء من سواها في الطليعة، هي أن مصر قد اختارت - على الأغلب - طريقة النمل، وقلما صنعت صنيع النحل، فأصبح لديها ما شئت لها من خزائن العلوم والفنون، لكنها مليئة بما أبدعه غيرها من الشعوب الناهضة. على أن الإنصاف هنا يقتضينا أن نقول إن الأمر ليس هو: إما منهج النمل وحده، وإما منهج النحل وحده؛ إذ قد يجمع الفرد الواحد شيئا من طريقة النمل، وشيئا من طريقة النحل، ومثل هذا الجمع بين الطريقتين نراه قد تحقق لعدد من أعلام النهضة الحديثة في مصر، ولكننا إذا ما أردنا حكما بما هو أغلب على مجرى حياتنا طوال الأعوام المائة والثمانين، قلنا إنه منهج النمل في الجمع والتخزين.
تعالوا نستعرض معا مسرعين، أمثلة من أقوى النهضات الثقافية التي شهدها التاريخ؛ لنرى على أي منهج سارت فأبدعت، وسنرى أنها جميعا قد تشابهت في مراحل السير: فخطوة «نملية» تجمع بها ما قد وصلت إليه الدنيا من أمهات الحقائق، تتلوها خطوة «نحلية» يمتص فيها أصحاب المواهب رحيق المعارف المجموعة، لا ليخزنوها في ذاكراتهم لتبقى على صورتها، بل ليحولوها في معامل المواهب إبداعا جديدا. أما في مراحل الانطفاء والركود، فإن الدارسين يحفظون عن ظهر قلب ما يتلقونه من مأثورات الأولين؛ ليخرجوها في المناسبات المختلفة «تسميعا» فتخرج وكأنها مومياوات محنطة خرجت من توابيتها لتوضع في المتاحف.
ولنجعل مثلنا الأول ذلك المد الثقافي الزاخر في تاريخ المسلمين، فلم يكد يمضي على ظهور الإسلام ما يزيد قليلا على قرن واحد، شغل فيه العلماء - أساسا - باللغة وما يتصل بها من قواعد وشواهد، حتى بدأت حركة الجمع من مصادر الآخرين ، وأعني حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية. ولقد سارت تلك الحركة على مرحلتين: كان المترجمون في المرحلة الأولى منهما يعملون فرادى، كل بحسب مزاجه، ودون أن يكون للدولة شأن بهم، وأما في المرحلة الثانية، فقد كان للدولة شأن عظيم، إذ أنشأ المأمون ما يسمى ببيت الحكمة، حيث يجتمع القائمون على الترجمة تحت رعاية الخليفة، وكانت حصيلة ذلك كله أن أصبح بين أيدي الدارسين ترجمات لمعظم مؤلفات أرسطو وما كتبه الشارحون للأفلاطونية المحدثة، وبعض محاورات أفلاطون، ومعظم مؤلفات جالينوس، وأجزاء مما كتبه غير جالينوس في الطب، فضلا عن المؤلفات في ميادين العلوم، ومنها كتاب إقليدس وكتاب أرشميدس. واختصارا فما بلغ القرن التاسع (الثالث الهجري) نهايته، إلا وقد شهدت العربية محصولا طيبا مما أنتجه السابقون في ثقافات أخرى. ولك أن تتخيل نفسك وقد دخلت بيت الحكمة في بغداد، لترى جماعة المترجمين منكبة على صحائفها، تنقل من لغة أخرى إلى اللغة العربية، وبين هؤلاء ثلاثة من أسرة واحدة هم: أبو زيد حنين بن إسحق، وابنه إسحق، وابن أخته جينس، فهل يسعك وأنت ترى هؤلاء يترجمون ما يترجمونه، إلا أن تدرك من فورك أنك إنما تشهد شيئا يشبه جهود النمل في الجمع والتخزين، وأن تلك المادة المنقولة إلى العربية لن تكون هي الثقافة العربية، ولكن الذي سيجعلها كذلك رجال آخرون، يتلقون تلك المترجمات ليرشفوا رحيقها، ثم ليخرجوا ما قد رشفوه خلقا جديدا، هو الذي نشير إليه اليوم، إذا ما تحدثنا عن التراث العربي وهو في عزه وذروة مجده.
وانتقل مع التاريخ العربي إلى القرن العاشر (الرابع الهجري)، وخذ ما اتفق ليديك أن تصلا إليه في خزانة الكتب التي عاش أصحابها في ذلك العهد، ثم انظر إلى محتواها، لترى كيف تحولت الأزهار إلى عسل، فاقرأ - مثلا - لأبي حيان التوحيدي تجدك أمام فكر عربي جديد، فلا هو شبيه بما قد كان عند أسلافه العرب من فكر ، ولا هو يشبه كل الشبه ما نقل إلى العربية من مؤلفات اليونان. وليس ذلك المذاق الجديد مقصورا على رجل أو رجلين، بل هو طابع شامل لعصر كامل امتد حقبة طويلة من الزمان، في المشرق العربي وفي المغرب العربي على السواء. وفي تلك الحقبة الطويلة لمعت أسماء كالنجوم الساطعة، من فلاسفة كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وشعراء حكماء كأبي العلاء، ونقاد مثل عبد القاهر الجرجاني، وعلماء في الرياضة والفلك والكيمياء والطب، وغير ذلك من شتى جوانب الفكر والأدب. •••
وننتقل إلى المثل الثاني من النهضات الثقافية الزاهرة، وهو مثل أوروبا في نهضتها التي وصفت بأنها ولادة جديدة، فها هنا أيضا كانت المرحلة الأولى شبيهة بما يصنعه النمل بطعامه المدخر، جمعا وتخزينا، حتى يحين له الحين، فما انفكت أوروبا في أواخر عصورها الوسطى، تجمع بين يديها أهم ما أنتجه العقل البشري: في ثقافة اليونان، وثقافة الرومان، وثقافة العرب. وترجم هذا كله، وأخذت دائرة انتشاره تتسع، حتى بات في متناول الدارسين في الأديرة والجامعات، وتحت أيدي رجال الفن والأدب، ثم جاء دور النحل والعسل، فإذا الدنيا أمام روح جديد وعقل جديد. ولم تكن تلك الجدة مقصورة على علماء من أمثال جاليليو وكوبرنيق، ولا على رجال فن من أمثال رفائيل ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي، ولا على أدباء وشعراء مثل شكسبير، بل الجدة شملت روح الحياة نفسها، وسادت في الناس فرحة غريبة كفرحة الطفل بكل شيء جديد، فانطلق الرحالة يجوبون البحار المجهولة، والأرض البعيدة، ويصعدون الجبال بعد أن لم تكن تلك الجبال قبل ذلك إلا مصدرا للخوف والتخويف. دبت في الحياة كلها روح المغامرة والبحث عما وراء الأستار، وما اختفى في الظلمات، فكان من كل ذلك أن دخل العالم عصره الجديد: علما، واكتشافا، وأدبا، وفنا، واهتماما بالإنسان الذي هو بشر تقله الأرض، وتظله السماء، لا بالإنسان من حيث هو زاهد يكفيه القليل.
وهذا الموضع من سياق الحديث، هو موضع ملائم لذكر سرفانتيز ورائعته الكبرى «دون كيخوته»، فوقفة منا عند هذا الكتاب، ضرورية لنا ضرورة المنبهات القوية إذا ما أخذت الإنسان سنة من النوم، وهو بحاجة إلى يقظة واعية، فليس كل شيء في «دون كيخوته» أنه يحارب طواحين الهواء ظنا منه أنها فرسان معادية، وأن يهاجم قطعان الخراف على أنها جيوش الأعداء مداهمة ومهاجمة، لا بل هنالك - عند فهم الكتاب - ما هو أعمق وأفعل أثرا، فيمن يحيا ركودا ثقافيا كالذي نحياه نحن اليوم.
فذلك الرجل «دون كيخوته» قرأ كتب السلف عن حياة الفرسان، وحفظ ما قد قرأ، لم يغير منه شيئا، ولم يضف إليه شيئا، ثم رسم حياته على نموذجه، فهو بمثابة نملة كبيرة وقعت على صيد كبير فخزنته؛ لتجعله وليمتها ذات يوم من شتاء، كالنملة التي حدثتك عما رأيته منها، حين جمدت «صرصارا» ضخما بالنسبة إلى حجمها، وحفرت له وخزنته. ولو كان «دون كيخوته» فعل ذلك في عصر سابق لعصره أيام أن كانت حياة الفرسان أمرا شائعا مألوفا، بل وكانت موضع تبجيل واحترام، لما كان في أمره ما يلفت النظر، إذ ماذا يلفت النظر في فارس يعيش في عصر الفرسان؟ لكن عصر الفرسان كان قد ذهب وولى، وتأهبت الدنيا للدخول في عصر جديد - هو عصر النهضة الأوروبية الذي أشرنا إليه - ثم ظهر «دون كيخوته» لا ليتنفس مع الناس الهواء الجديد، بل ليتنفس هواء مخزونا بين صفحات كتب قرأها عن عصر قديم. فإذا كان سائر الناس من لحم ودم، فقد كان هو إنسانا من كلمات محفوظة، وكانت دماؤه من مداد المحابر. وهل تظن أن «دون كيخوته» كانت أعجوبة بشرية ظهرت واختفت؟ أمعن النظر فيما حولك ومن حولك، تجد من طرازه مئات يدبون على ظهر الأرض بأجساد من ورق ودماء من مداد وأدمغة مشحونة بكلمات السابقين، لا لتكون مصدر إلهام لما هو جديد، بل ليعيشوها كرة أخرى كما لو لم تمض بيننا وبين أصحابها مئات السنين. •••
অজানা পৃষ্ঠা