تلك ناحية، وناحية أخرى، أن حديثي كله الذي تحدثت به عن منهجي الفلسفي وتطبيقه، إنما يقتصر فقط على مجال «العلم» (ومرة أخرى أود لو أني أخذت أكرر كلمة «العلم» ألف مرة: العلم ، العلم، العلم ... إلى أن أبلغ الألف) أي أنه منهج فكري لا يراد به، ويستحيل أن يراد به ، الانطباق على مجال الدين، أو على أي مجال آخر غير مجال «العلم» والعلم وحده.
فقل لي بالله، كيف يمكن بعد هذا كله أن يخلط الخالطون بين قول قيل في عالم الفلسفة، وبين ما لم نذكره من عالم الدين، ماذا كنت أصنع تحديدا وتوضيحا لأمنع حدوث الخلط الذهني الذي علق في أذهان من أخذوا على أنفسهم عهدا أن يعيشوا حياتهم في الغموض الفكري شهيقا وزفيرا؟ فأولا لم يكن لي في الكتاب المذكور أي شأن بأي قول ورد في أي دين من الأديان. وثانيا لم يكن المرفوض هو الأنساق الميتافيزيقية في ذاتها، فتلك الأنساق بناءات فكرية محكمة النسج إحكاما لا يقارن إلا بالبناءات الرياضية، فلو أن الفيلسوف الميتافيزيقي قدم نسقه الفكري على أنه تصور عقلي لا يشترط لقبوله أن يكون تصويرا لحقيقة الكون كما هي قائمة في الواقع الفعلي، لما كان لنا على عمله اعتراض، وهذا نفسه هو الموقف بالنسبة لأي نسق في العلوم الرياضية، فهو يكون صحيحا بالنسبة للعلاقات الاستدلالية الكائنة بين أجزائه، لكنه ليس حتما هو الصورة التي تطابق الواقع الخارجي.
الفروق بين الدين والفلسفة واسعة وعميقة، بحيث يستحيل أن يخطئها بصر، والاختلاف بينهما متعدد الجوانب، فهو اختلاف في المصدر؛ إذ الدين مصدره وحي يوحى إلى نبي أو رسول، وأما الفلسفة فهي قائمة على رؤى يحدسها إنسان من البشر، وإما جاءت تلك الرؤى صادقة ونافعة، وإما جاءت باطلة لا تنفع أحدا، وهو كذلك اختلاف بينهما في الطريقة التي يتلقى بها المتلقي ما يقدم إليه، ففي الدين إما أن يصدق المتلقي ما يقال له وإما أن يرتاب، أعني أنه إما أن يؤمن بالرسالة وإما ألا يؤمن بها. وأما في الفلسفة فالقبول أو الرفض أو التعديل مرهون بمراجعة الاستدلالات المنطقية التي ينتقل بها الفيلسوف من جزء إلى جزء آخر، ثم هو مرهون كذلك بقدرة ما يقدمه الفيلسوف على تفسير ما نراه في الكون وكائناته. وهو فوق هذا وذاك اختلاف بينهما في الوظيفة التي يؤديها كل منهما، فالدين منظومة من العقائد والشرائع والعبادات والمبادئ، يتكون منها خطة حياة هنا في هذه الدنيا، وتمهد للحياة الآخرة يوم يكون الحساب. وتلك المنظومة الدينية إذا ما أرسيت قواعدها في حياة الناس، فهي إنما تصبح ركيزة إيجابية - بل أهم الركائز الإيجابية جميعا - فتضاف إلى ما عند الناس من علوم وفنون وآداب وأعراف وتقاليد وغير ذلك من مقومات المجتمع. وأما الفلسفة فهي مختلفة عن ذلك كل الاختلاف؛ لأنها تبدأ فعلها بعد أن يكون المجتمع قد أقام مقوماته تلك ليحيا في إطارها؛ إذ يأخذ صاحب الفكر الفلسفي في تعقب أي مقوم من تلك المقومات إلى أصوله المضمرة المستورة أو قد يكون الفيلسوف واسع الأفق، فيتناول جميع ما حوله في قضمة واحدة، ليردها جميعا إلى أصل واحد مشترك. وبعبارة أخرى نقول إن الفلسفة التي تصب فاعليتها على ظاهرة معينة لتكشف عن طبيعتها أولا، وعن علاقاتها ببقية الظواهر ثانيا، لا بد - بالضرورة - أن تجيء بعد قيام الظاهرة بذاتها، ففلسفة العلم - مثلا - لا بد أن يسبقها وجود العلم، وفلسفة اللغة لا بد أن تسبقها اللغة، وفلسفة الإسلام لا بد أن تجيء بعد ظهور الإسلام، وفلسفة التاريخ لا بد أن تجد تاريخا لتصب رؤيتها عليه، وفلسفة الوجود بصفة عامة لا بد أن يسبقها ذلك الوجود.
قارن بين متكلم يقرر في جملة يقولها أنه يحب ليلى، وبين مفكر يتناول حالة هذا المحب ليتعقبها إلى نشأتها كيف تكون، تجد أن الفرق بين الرجلين هو كالفرق بين عابد مؤمن يحيا حياته الدينية، وفيلسوف يتأمل مقومات تلك الحياة ليخرج مضامينها المضمرة في ثناياها، فإذا وجدت الآن أن الفرق بات واضحا بين ما ينخرط فيه المتدين من أسلوب للعيش وطرائق للعبادة وغير ذلك، وبين رجل يتناول الظاهرة الدينية كلها بالنظر النافذ الذي يبين مكنونها من مبادئ وأهداف، أقول إنك إذا وجدت الآن أن الأمر بينهما أصبح واضحا، فقل لي نشدتك الله: كيف يمكن لصاحب فكر فلسفي، إذا ما استعرض أقوالا لفلاسفة بالتحليل ليكشف فيها عن جوانب الصواب وجوانب الخطأ من وجهة نظره، أقول: كيف يمكن لرجل كان هذا هو عمله، يتعرض لمن يتهم وجهة نظره بأنها منافية للدين بأي وجه من الوجوه؟
إنه الخلط الفكري الذي رزئنا به في حياتنا الثقافية، حتى أصبحنا وكأننا في تلك الحياة نخوض في عماء فوقه سحاب أدكن، ويكتنفه ضباب قاتم كثيف.
ذلك دور المسلمين
تلقيت في يوم واحد رسالتين، كلتاهما تستند في سياق حديثها، إلى أقوال قالها المفكر الفرنسي الكبير روجيه جارودي، ولقد قالها في معرض حديثه إلى الناس هنا - في مصر - عن الدوافع التي انتهت به إلى اعتناق الإسلام. أما إحدى الرسالتين فقد جاءت من قارئ يباهي بإسلامه، لكنه - كما رأيته - لا يتخلق بأخلاق المسلمين في أدب الحديث. وأما الرسالة الثانية فمن شاب أخذته الحيرة، ولم يعد يدري أين يكون الصواب في النظرة إلى حضارة هذا العصر، وأين يكون الخطأ. على أن الذي استوقفني في الرسالتين معا، اشتراكهما في نقطة أوردها جارودي في أحاديثه عن إسلامه، فأبرزتاها باهتمام شديد. وخلاصتها هي أن حضارة الغرب في عصرنا هذا، إنما هي حضارة بلا أهداف، وأن الإسلام يمثل الحياة الكاملة التي تعرف أهدافها، فأما صاحب الرسالة الأولى - وهو ذو منصب تربوي كبير - فيسوق لي هذه الفكرة في نغمة التوبيخ على ما أردده من دعوة إلى الأخذ بحضارة العصر، وأما الرسالة الثانية فمن طالب حيران، وعلى أي الحالتين، فالفكرة تتطلب وقفة هادئة متروية نزيهة، لعلنا نرسو بها على نتيجة نطمئن إليها، فهي ليست بالفكرة الثانوية التي لا نأبه لها، بل هي في الحقيقة فكرة محورية أساسية في رسم اتجاهنا الحضاري، الذي من شأنه أن يؤثر في كل فروع حياتنا: فكيف يكون التعليم؟ وكيف يكون الاقتصاد؟ وكيف تكون صورة الحكم؟ وكيف تكون كل صورة أخرى من صور الحياة الاجتماعية والحياة الفردية على السواء؟ أنميل بذلك كله نحو العصر وحضارته بدرجة كبيرة أو بدرجة صغيرة بحسب ما يقتضيه كل جانب على حدة؟ أم نغلق أبوابنا ونوافذنا دون العصر وحضارته حتى لا يصيبنا منه بلاء التيه الذي نضرب فيه على غير هدى؟ إذ هو سير إلى غير هدف معلوم.
وأغض النظر عن الرسالة الأولى التي أعوزها أدب الإسلام في توجيه الخطاب - وهذا هو أقل ما يقال فيها - وأقف عند الرسالة الثانية، وفيها جاء ما يأتي، مكتفيا منه بمضمون معناه:
إنه لتأخذني حيرة، ويساورني قلق، إزاء ما تدعو إليه من حتمية اللحاق بحضارة الغرب، فها أنا ذا أقرأ عن الغرب أنه يحيا حياة مادية، كانت نتيجتها حياة اجتماعية تتسم بالاستعباد والسخرة في المجتمع الشيوعي، أو تأخذ طابع المنافسة والصراع في المجتمع الرأسمالي، وأما الاقتصاد فقد أصبح هدفه مجرد تشغيل الآلة، لتنتج هذه الآلة ما تقدر قيمته بملايين الدولارات من أسلحة الدمار، ثم تحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي، يهدف إلى خلق حاجات، ثم إلى إشباعها. وبالتالي فقد أصبح الفرد يعيش معيشة حيوان، كل همه إشباع حاجاته، أما الثقافة فهي إما مجمدة وإما مسخرة لخلق نسخ أخرى من مجتمعات تجيء على تلك الصورة الفاسدة، وسبب ذلك هو الفصل بين العلم والحكمة، وبين الوسيلة والغاية، فالحياة هي لمجرد الحياة، والعلم هو لمجرد العلم. «هذه يا سيدي هي آراء أحد أبناء الغرب، بل أحد فلاسفته، وهو روجيه جارودي.» ثم يسأل صاحب الرسالة قائلا: أهذه هي الحياة التي تدعونا لنلحق بها؟ فأي شيء مما قاله جارودي يغري الإنسان، بأن يحاول خلق مجتمع تلك هي حياته، وهذه هي نهايته؟
وأبدأ قولي بأنني أقدر السيد جارودي تقديرا يرتفع ما ارتفعت مكانته العليا في دنيا الفكر المعاصر، ولم يكن فكره من ذلك النوع المجرد الأجرد الخالي من الروح والحيوية، بل كان فكرا فعالا مستجيبا للحياة وظروفها، ولم يكن ليتحرج من الانتقال بفكره من طرف إلى طرف، إذا وجد أن متابعة الحق - كما يراه هو - تقتضيه مثل ذلك الانتقال، وهذا ما حدث بالفعل، فقد كان شيوعيا ذات يوم، ثم ها هو ذا اليوم يعتنق الإسلام، وبين الشيوعية والإسلام ما بينهما من اختلاف في الأسس المبدئية الأولى.
অজানা পৃষ্ঠা