فلكي نفهم هذا السياق على المعنى الصوفي، نترجم «حادي العيس» إلى «الداعي إلى الحق»، وتترجم «الحبيبة» إلى الحقائق الإلهية التي رحلت عن قلب الصوفي، فيكون الخطاب معناه: لا تتعجلوا السير، فإني مضطر إلى البقاء هنا إلى ساعة الأجل؛ لأني حبيس البدن، وأما النفس فتريد العروج إلى السماء لولا ذلك القيد، وإن ما قد خيم في الوادي المقدس هي المعارف الربانية التي يتعشقها كأنها له لب الحياة وجوهرها.
على أن هذا التعادل في المعنى بين الظاهر والباطن، لا ينفي قولنا بأن الشاعر قد قصد أول ما قصد إلى المعنى الغزلي الظاهر في كثير من قصائده، ثم صرف الظاهر إلى باطن. ويجدر في هذا المقام أن نشير إلى الذكر الصريح الذي ورد في بعض قصائده لحبيبته «النظام» - إما بالاسم أو بالوصف المحدد - كقوله في شطر بيت (ص84) «هي بنت العراق بنت إمامي.» وكقوله (ص83):
طال شوقي لطفلة ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
وفي شرحه لهذا البيت وردت هذه العبارة: «لغزنا هذه المعارف كلها خلف حجاب النظام بنت شيخنا، العذراء البتول شيخة الحرمين وهي من العالمات المذكورات.»
ومهما يكن من أمر هذا الديوان، فهو غزير بشعره، غني بصوره، مجنح بخياله، مثقل بفكره وحكمته، نابض بحرارة إيمانه، فهو لقارئه متعة ودراسة وحياة.
من وحي الكعبة
جلست على بعد خطوات من الكعبة، حيث قضينا ساعات الضحى، حتى الظهيرة وما بعد الظهيرة، جلست شاخصا بما عندي من بصر قليل، لكن بصيرتي كانت - بحمد الله - يقظانة الوعي سريعة التلبية والأداء، إذا جاءها البصر العليل بشعاع واحد، أمسكت به البصيرة لتضيف إليه ألف شعاع، إذا قال البصر: ها أنا ذا أرى أمامي مقام إبراهيم عليه السلام، وثبت بصيرتي إلى أحداث التاريخ التي وضع أركانها خليل الله، فقبل أن ينتهي المطاف بإبراهيم الخليل إلى مقامه هذا ليقيم بيت الله، كان قد جاهد في سبيل الله، محاولا أن يهدي قومه بأرض كنعان سواء السبيل، داعيا إياهم أن يحطموا أصنامهم ليعبدوا الله الأحد الذي لا شريك له، فأبوا عليه دعوته، فحطم هو تلك الأصنام، فأرادوا له شرا، إذ أوقدوا نارا وألقوا به في لهبها، فأمر الله - جلت قدرته - أن تكون النار على إبراهيم بردا وسلاما. ولما كتبت له النجاة، اتجه إلى فلسطين، لكن أرض فلسطين ما لبثت أن شملها جدب قضى على موارد الطعام والشراب، فرحل نبي الله وخليله إلى مصر. ألا حياك الله يا مصر، فهو - جل جلاله - الذي شاء لك أن تكوني ملاذ إبراهيم، وموطن موسى، ومنجاة عيسى (عليهم جميعا أفضل السلام)، ثم حافظة الإسلام منذ أريد بالإسلام شر ونكر على أيدي التتار، فلو كان في الدنيا بأسرها موقع واحد يصلح للبشر على اختلاف دياناتهم الثلاث، كنيسا، وكنيسة، ومسجدا، لكان هذا الموقع هو أنت يا مصر، يا من أسماك رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام: «أرض الكنانة» مريدا بذلك أرض العتاد الذي يصان به حمى الإسلام.
ويشخص البصر الكليل إلى مقام الخليل، الذي هو على بعد أمتار قليلة منه، كأنما أراد أن يرد تيار البصيرة إلى من نحن جالسون في رحابه، فيعود إلى سيرة إبراهيم عليه السلام، لائذا بمصر وخصبها، وكان قد بلغ من العمر عتيا دون أن ينجب ولدا، من زوجته سارة، فتزوج في مصر من إحدى بناتها، تزوج من هاجر، فأنجبت له إسماعيل، ليكون إسماعيل بعد ذلك أبا للعرب، وليكون إبراهيم بذلك جد العرب، وربي أعلم بما حدث. وقد شاء الله لسارة أن تلد لزوجها إبراهيم ولدا بعد مولد أخيه إسماعيل من أبيه، وأسمت سارة ابنها «إسحق»، وقد قرأت كلمة عبرية معناها «اضحك» (والتشابه واضح بين «اضحك» العربية و«إسحق» العبرية)، ولقد أريد بهذا الاسم إشارة إلى سعادة الوالدين بابن ظلا ينتظرانه، حتى بلغا من الشيخوخة ما بلغا، أقول: إن ربي أعلم بما قد حدث ليدفع نبي الله إلى الارتحال إلى مكة، لا يصطحب إلا هاجر وابنهما إسماعيل، وها هنا أمر بإقامة بيت الله الذي أجلس الآن في جواره خاشعا.
ولكن هذا «الحق» الذي أقيم ها هنا بأمر الله، لم يلبث مع الأيام أن أحاطه الإنسان بالباطل؛ إذ ها هنا أيضا أقامت قريش بأصنامها، وهو باطل ظل قائما إلى أن نزلت الرسالة على محمد عليه الصلاة والسلام، وجاءه في حربه مع قريش فتح ونصر، فحطمت الأصنام؛ لتعلو إلى الأبد كلمة الله الأحد.
অজানা পৃষ্ঠা