ومهما يكن من أمر القصائد وشروحها، فها هي ذي قصتها كما يرويها لنا ابن عربي في المقدمة؛ يقول إنه لما نزل مكة - وكان له من العمر عندئذ نحو ثمانية وثلاثين عاما - التقى بجماعة من الفضلاء، كان من بينهم «الشيخ العالم الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام، نزيل مكة البلد الأمين، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني»، وكان لهذا الشيخ «بنت عذراء ... تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبها ... ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت ... ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن ... فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق. ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس، ويثيره الأنس، من كريم ودها ... فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني، ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحية، والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى.»
غير أن بعض الفقهاء بمدينة حلب أنكر على أشعار هذا الديوان أن تكون من الأسرار الإلهية، وأن الشيخ إنما يريد به غزلا حقيقيا بفتاة حقيقية، وإن يكن يخفي ذلك لكونه منسوبا إلى الصلاح والدين ، فما إن جاء هذا النبأ إلى ابن عربي، حتى شرع في شرح ديوانه على مسمع من جماعة من الفقهاء، شرحا يوضح كيف يصاغ القول بعبارات الغزل والتشبيب، حين يكون المقصود هو الأسرار الإلهية، فلما سمع الشرح ذلك المنكر، تاب إلى الله.
والحق أن ما يذكره ابن عربي عن هذا الديوان بصفة خاصة، حين يقول: «وشرحت ما نظمته بمكة المشرفة من الأبيات الغزلية ... أشير بها إلى معارف ربانية، وأنوار إلهية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية، وتنبيهات شرعية، وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها.» حين يقول ابن عربي هذا القول عن هذا الديوان بخاصة، فهو إنما يساير نظرته العامة، التي تجعل من الأشياء والصور «مسارح تتجلى فيها صفات الحق وأسماؤه، بل هي عين تلك الصفات والأسماء، فكل صفة وجودية ندركها في الأشياء، إنما هي مجلى خاص من مجالي صفة إلهية مطلقة، أو اسم إلهي مطلق.»
2
ولم نكن لنتشكك في صدق هذا الزعم بالنسبة إلى ديوان «ترجمان الأشواق» لولا أننا وجدنا قصائد كثيرة من قصائده تكون أكثر انسياقا مع المعنى الغزلي المباشر، وأن أمثال هذه القصائد، حين تؤول على التفسير الصوفي، يقتضي شيئا من الاعتساف الذي يشد المعنى شدا يخرجه عن طريقه السوي السليم. على أنه من الحق كذلك أن ثمة قصائد أخرى نراها أكثر انسياقا مع التأويل الصوفي منها مع الغزل المباشر، كما أن هنالك فئة ثالثة من القصائد يكاد يتوازن فيها الاتجاهان موازنة عادلة، فهي متسقة مع الغزل المباشر اتساقها مع التأويلات الصوفية على حد سواء، وسنسوق - في موضع تال من هذا المقال - أمثلة توضح هذه الحالات الثلاث.
2
وفي مقدمة الديوان، وكذلك في مواضع أخرى من الشرح - وقد أطلق على شرح الديوان اسم «ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق» - إشارات تدل دلالة واضحة على منهج الرمز عند ابن عربي؛ ففي قصيدة قوامها ستة عشر بيتا، يوردها في المقدمة، يضع قاعدته الأولى، ويسوق لها الأمثلة، وهي أنه إذا ما ذكر في حديثه طللا ، أو سحابا، أو زهرا، أو بروقا، أو رعودا، أو غير ذلك من صور الكائنات، فينبغي للقارئ أن يصرف الخاطر عن ظاهرها، وأن يطلب الباطن المختفي وراء ذلك الظاهر، ليعلم المعنى المقصود، لا بل إن الضمائر والحروف ينبغي كذلك أن تؤول عند الفهم تأويلا يستخرج منها السر الصوفي الكامن فيها:
كل ما أذكره من طلل
أو ربوع أو مغان كل ما
وكذا إن قلت ها أو قلت يا
অজানা পৃষ্ঠা