20
ونقرأ هذا الاتهام الموجه إلى الطوائف المذكورة كلها، ثم ننتقل فورا إلى الطائفة الأولى التي قدمها للمناقشة - وهي الحشوية - فإذا هي بحكم مبدئها لا تأخذ بالتأويل، وتلتزم الظاهر التزاما متطرفا، حتى لتحرم إعمال العقل في شيء منه.
فليس وجه النقص - إذن - في طائفة الحشوية، أنها أولت ظاهرا بمجاز، بل وجه النقص فيها هو أنها انصرفت عن الأدلة العقلية في معرفة وجود الله، قائلة إن طريق هذه المعرفة هو «السمع» لا «العقل»، أي أنه يكفي للإيمان بوجود الله أن يكون صاحب الشرع قد ألقى هذه الحقيقة على مسامع الناس، والشأن في معرفة وجود الله هو نفسه الشأن في كل ما يطلب منا الإيمان به، كالمعاد وغيره، مما لا مدخل فيه للعقل. هذا هو وجه النقص في الحشوية؛ لأنها كانت بموقفها ذاك - بعبارة ابن رشد فيها - «مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع، مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى، ودعاهم من قبلها إلى الإقرار به.» إذ دعا الناس إلى التصديق بوجود البارئ بأدلة عقلية منصوص عليها في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى:
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
وأراني مضطرا إلى السؤال في هذا الموضع - لأنه موضع نموذجي يمثل ما سوف يتكرر في كتاب «مناهج الأدلة» من أوله إلى آخره - كيف يكون التمثيل لفكرة ما، بآيات من القرآن الكريم، دليلا عقليا برهانيا، وهو نوع الأدلة الذي يجده ابن رشد مميزا للعلماء؟ إننا إذا اتخذنا من آية ما مقدمة نبني عليها قياسنا، كان القياس قائما على منقول لا على معقول، مما يزيل عنه صفة البرهان، اللهم إلا إذا كان المعنى الذي أراده ابن رشد هو ما قد يرد في الآية من موضوعات كونية تصلح للبحث العقلي؛ ففي الآية السابقة - مثلا - ذكر لموضوع «خلق» الله للناس في حاضرهم وفي ماضيهم، ليكون ذلك بمثابة الإشارة إلى ما يمكن التحول إلى بحثه بحثا عقليا، وهو في هذا المثل موضوع «الخلق»، وكيف يفهم بالبراهين العقلية، إما أن يكون ذكر الآية في حد ذاته هو البرهان، فذلك ما أعجز عن رؤيته، وأقول ذلك تعليقا على ما فهمته من المقدمة المستفيضة التي قدم بها المرحوم الدكتور محمود قاسم لتحقيقه لكتاب «مناهج الأدلة»، والتي شعرت خلالها في مواضع كثيرة منها، بأنه يرى أن ذكر الشواهد القرآنية هو في ذاته برهان عقلي على ما يراد إقامة البرهان عليه من الشريعة.
وكأنما تخيل ابن رشد في تعليقه على قصور الرؤية الحشوية، أن أنصار هذه الطائفة قد ردوا على اعتراضه، بقولهم إنه إذا كانت الأدلة العقلية مطلوبة للوصول إلى معرفة الشريعة، لوجب أن يعرض النبي عليه السلام تلك الأدلة العقلية عندما عرض دعوته إلى الإسلام، وهو اعتراض أراه وجيها، لم يجب عليه ابن رشد بما يتناسب مع قوته، إذا قال ما معناه إن العرب جميعا تعترف بوجود الله سبحانه، فلم يكن من الضروري لصاحب الدعوة أن يسوق فيها من الأدلة على وجوده أكثر من أدلة شرعية، فإذا كان بين الناس من لا تسعفه قواه العقلية في متابعة تلك الأدلة، فهؤلاء وحدهم هم الذين يكون إيمانهم قائما على السماع.
ثم ينتقل ابن رشد إلى طوائف الأشعرية وسائر المتكلمين، فيجدهم على نقيض الحشوية؛ إذ هم يريدون ألا يكون التصديق بوجود الله إلا بالعقل، وطريقة ذلك عندهم هي أن يضعوا المقدمات التي يظنون بها اليقين، ثم يستخلصون منها النتائج، مثال ذلك أن يضعوا المقدمات الآتية؛ ليقيموا عليها حدوث العالم، ثم ليقيموا على هذا الحدوث وجود الله الذي أحدثه، والمقدمات هي: (1)
الجواهر لا تنفك عن الأعراض. (2)
الأعراض حادثة. (3)
অজানা পৃষ্ঠা