على أن يكون أخذنا عنهم مقترنا بالتمحيص النقدي «فإذا كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه.»
6
هذا هو شيء مما بدأ به ابن رشد كتابه «فصل المقال»، فكان حريصا منذ البداية على أن يطمئن بأن الفلسفة جائزة، بل هي واجبة بحكم الشريعة، وهو موقف - كما نرى - يجعل للشريعة أسبقية منطقية على الفلسفة، فكأنما أحكام الشريعة عنده هي بمثابة المسلمات الأولى، التي يشتق منها ما يجوز بالنسبة إلى الفكر الفلسفي وما لا يجوز. وفي رأينا أن ذلك الموقف من ابن رشد يتعارض مع طبيعة الوقفة الفلسفية إذا أخذت على حقيقتها؛ لأن الفلسفة على حقيقتها تأبى المسلمات، مما قد يثير عندنا شيئا من الريبة في أن يكون ابن رشد قد كان يداري العامة حتى لا يتهموه بالزندقة، وهي ريبة تشبه تلك الريبة التي استشعرها ابن رشد نفسه إزاء الغزالي، حين قال عنه: «إنه مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف.»
7
ثم يعلل تقلبه هذا في «تهافت التهافت» بأنه ربما كان مداراة للعامة، لينفي عن نفسه الظنة بأنه يرى رأي الحكماء، فيقول ابن رشد في ذلك: «كبوة أبي حامد هي وضعه هذا الكتاب (تهافت الفلاسفة)، ولعله اضطر إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.»
8
ومعنى هذا كله، هو أن ما زعمه ابن رشد عن نفسه (في مناهج الأدلة، ص185) من سيره مرة من الشريعة إلى الفلسفة، ومرة من الفلسفة إلى الشريعة، على تطابق في الحالتين من حيث النتيجة، ليس صوابا كل الصواب؛ إذ كان سيره من الفلسفة إلى الشريعة أقل رتبة من السير الآخر المضاد؛ لأنه اشترط على نفسه فيه أن يكون مستندا إلى إيمان مسبق بالشريعة، فإذا قيل - كما يقال أحيانا - إن كتاب «فصل المقال» قد جاء دفاعا عن الفلسفة ضد أعدائها، استدركنا على هذا القول بأنه كان دفاعا منقوصا في جانب من أهم جوانبه.
3
قلنا إن الشريعة والحكمة تتأديان إلى حقيقة واحدة، فما الذي يضمن لنا ألا تتعارضا؟ هنا يجيب ابن رشد جوابا لا يقنع إلا المؤمنين مقدما بشريعة الإسلام. ومؤدى جوابه هو أن الشريعة حق والحكمة حق، ولما كان الحق لا يتعدد، كانت الشريعة والحكمة هوية واحدة، وإن اختلفتا في طريقة التعبير، وهذه هي عبارة ابن رشد في ذلك، يقول: «وإذ كانت هذه الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا - معشر المسلمين - نعلم، على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني (يقصد مجال الفلسفة) إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.»
9
অজানা পৃষ্ঠা