بعد قليل كان رشيد قد نام، أما إبرهيم فأصيب بأرق شديد وهواجس منعته من النوم، فاستلقى وأطلق فكره في مجال التصورات، وكان بين حين وآخر يستعيد ما مر به في العشية ويسائل نفسه: «أما كان يجب علي أن أضربه لينال جزاءه؟ ولو فعلت ذلك فبأي عينين كانت تنظر إلي الفتاة؟» وطال به الأمر حتى نبا جنبه عن الفراش فنهض وخرج من الغرفة، ومشى الهويناء في الرواق المؤدي إلى غرفة الطعام وهو لا يدري إلى أين يذهب حتى إذا بلغها، أراد أن يعود ليصعد إلى السطح، وكان إلى جانب باب قاعة الطعام مربع منكشف اتخذه بعض القرويين محلا لهم، وكان منارا بقنديل ضئيل النور، فاقترب إبرهيم من ذلك المربع وجعل يتأمل النيام وأكثرهم من النساء والفتيات، ولا فرش تحتهم سوى بسط وأغطيتهم شراشف خفيفة، ونظر تحت ضوء القنديل رأس فتاة تدلى منه شعر مسود ستر بعض وجهها الأسيل وعنقها الجيداء، وللحال عرف الراقصة القروية وكانت نائمة بين أترابها، فخفق فؤاده لهذه المفاجأة وتقدم من حافة المربع المرتفعة، وقعد عليه يتأمل وجه الفتاة وعينيها الساحرتين فتململت الفتاة تحت نظره ولكنها لم تستيقظ؛ لأن النوم كان مثقلها.
وبقي إبرهيم في مكانه ساهرا يكلأ الفتاة ويسامر نجواه، حتى انقطعت ضوضاء القوم في الخارج وهدأت الرجل، وفيما هو كذلك لاحظ أشباحا تقترب نحوه ثم تعود أدراجها، وبدا له أن لهذه الأشباح قصدا، وأنه يرى بينها قامة جرجس وطريقة خطوه، فما برح مكانه حتى طلع الفجر وقامت الراهبات إلى صلواتهن.
في ذلك الصباح برحت الراقصة وزمرة من رفيقاتها الدير عائدة إلى قريتها، وغادر إبرهيم ورشيد صيدنايا إلى دمشق، حيث أسعفا بالعلاج ورجعا بعد ذلك إلى بلدتهما في لبنان، وبعد مدة قصيرة شفيت جراحهما شفاء تاما. •••
منذ ذلك الحادث طرأ على حياة إبرهيم تغير كبير لم يخف على أحد من الذين كانت لهم به صلة، فتبدلت أطواره من النشاط والانشراح إلى الفتور والتأمل، وانقطع عن التحدث إلى رفقائه، كما كان يفعل من قبل، وصار يفضل الصمت وأخذت علائم الكآبة تظهر على محياه، فلاحظ أصحابه ذلك منه وعبثا حاولوا أن يعيدوه إلى سابق عهده، وانتقل رشيد إلى بيروت لمتابعة دروسه فلم يعد إبرهيم يراه، وظل وحده في البلدة يستعيد حوادث صيدنايا ويحاول أن يستجلي غوامضها، ثم ابتدأ يشعر بسأم مما هو فيه، فجرب أن يصرف صيدنايا عن فكره ولكن عبثا ففي الشتاء في لبنان، لا يستطيع ذو العاطفة أن يبعد فكره عن التصورات؛ لأن تساقط الثلج في الخارج وتوهج نار الموقد في الداخل والسكون الذي يشمل الطبيعة، كل هذه العوامل تطلق للفكر مجال التصور، وتفتح إلى النفس طريقا للمؤثرات، فرأى أن يسلو بالمطالعة وكاد ينجح لولا صور كانت تنتصب أمامه فتقاطع مطالعاته أو أفكاره الأخرى، وتجلب معها كل الذكريات التي اكتنفتها، ألا وهي صور الفتاة الراقصة في صيدنايا حين كانت ترقص، وحين زارته بعد جرحه وزودته نظرة لم يفقه معناها في الحال، ولكنه أخذ يشعر بتأثيرها أكثر فأكثر مع مرور الزمان، وابتدأت معانيها تنجلي له مع تعاقب الأيام، حتى صار يشعر لأول مرة في حياته بذلك الشعور السري العجيب، الذي يدفع الوعل إلى الهيام على وجهه في أيام الربيع، حاكا بقرونه الجديدة سوق الأشجار وأغصانها حتى إذا التقى بوعل آخر حاله كحاله، التحم وإياه بمعركة فاصلة تشتبك فيها قرونهما اشتباكا يقضي على كليهما بالهلاك، بل إنه أبصر في الحلم وعلا عظيما وقف على قنة جبل عال، وقد اعلولت قرونه إلى الجو، ثم رآه ينقض على وعل آخر عظيم مثله، فسره ذلك وأقلقه معا.
ظلت الحال بإبرهيم على هذا المنوال إلى أن حسر الثلج عن وجه الأرض، وأورق الشجر ونور الزهر، واكتست الأرض حلة سندسية فلها إبرهيم قليلا بمناظر الطبيعة، فكان يخرج للتفرج كل صباح وكل مساء، ولكنه لم يعد إلى مرحه السابق، وزال هذا الفصل وجاء الصيف وعاد رشيد من المدرسة إلا أن الصديقين لم يجتمعا إلا نادرا، إلى أن لم يبق لعيد سيدة صيدنايا سوى أيام معدودة، ففي صباح يوم جميل أقبل رشيد على إبرهيم عند الفجر ودعاه إلى النزهة؛ لأن له ما يريد أن يحدثه به، فلبى إبرهيم الدعوة وسار الاثنان إلى إحدى الغابات البعيدة ليكون انفرادهما تاما وهناك اضطجعا تحت أشجار الصنوبر، فقال رشيد: «هل تذكر ذلك الشاب الذي بارزناه في صيدنايا في العام الماضي؟» - «أذكر.» - «كنت وعدتك بأن أحدثك في الأمر الذي دعاني إلى مبارزة ذلك الشاب، وقد رأيت أن أفي بوعدي الآن: أنت لا بد تذكر الفتاة التي دخلت إلى غرفتنا ونحن جريحان وتفقدت حالنا.» فخفق قلب إبرهيم خفقانا شديدا ولكنه ظل صامتا ينتظر تتمة حديث صديقه الذي تابع: «اعلم أن هذه الفتاة رصيفة التلمذة، وكانت تأتي كل سنة إلى مدرسة البنات القومية في بيروت، وذلك الشاب الذي بارزته من بلدتها ومن عائلة لها نفوذ كبير فيها، وأظنك لم تنس أنه يدعى جرجس، ففي ذات يوم جاء جرجس إلى بيروت وذهب إلى مدرسة البنات حيث قابل الفتاة بحجة أنه يحمل إليها كتابا من أبيها، وفي اليوم التالي قام بزيارة أخرى للفتاة، وكنت أنا هناك في زيارة لنسيبة لي هي صديقة حميمة للفتاة، فجرى له معها حديث حاد انتهى بأن الشاب حاول اختطافها فأسرعت وحلت بينه وبين تنفيذ ما عقد العزيمة عليه، فحقد علي جرجس منذ ذلك اليوم، وصار كلما رآني تهددني وتوعدني، إلى أن كان ذات يوم اتفقنا فيه على المبارزة، فاقترحت أن يكون ذلك في دير صيدنايا فقبل وهكذا كان كما تعلم.
أما الفتاة فلم تكن تعلم شيئا من أمري، ولكني وقفت من نسيبتي على الكثير من أمرها، فعلمت أن الفتاة تدعى نجلا، وأنها مضطرة إلى مجاملة جرجس؛ لأن أمه كانت قد اعتنت بها في صغرها بعد وفاة أمها، وهي كانت ترجو منها أن تفعل ذلك من أجلها، والظاهر أن أم جرجس كانت تأمل أن تولد هذه المجاملة حبا ينتهي بزواج الاثنين؛ لأنها أحبت صفات نجلا وأخلاقها، وكانت الفتاة تحب الأم وتفعل ما يرضيها، ولكن البون الشاسع بين نفسها ونفس جرجس يجعل مبادلتها إياه الحب أمرا مستحيلا، وعلمت أيضا أن أم نجلا كانت قد نذرت عن ابنتها زيارتين لدير صيدنايا، وأن الابنة تريد أن توفي نذر أمها وهو ما جعلني أقترح على جرجس أن تكون المبارزة هناك؛ لأني كنت موقنا أنه سيتبعها إلى هناك، ولقد ماتت أم جرجس منذ بضعة أشهر وزال ما كان يدعو نجلا إلى مجاملة ابنها، فكتبت إلى صديقتها نسيبتي تقول: إن جرجس يلاحقها الآن ملاحقة شديدة تتألم منها، وذكرت لها في آخر الكتاب أنها ذاهبة إلى صيدنايا في عيد العذراء؛ لكي تقوم بالزيارة الثانية من أجل أمها، ويقيني أن جرجس سيتبعها إلى هناك هذه المرة كما في المرة السابقة ويحاول اختطافها هناك؛ لأنه قد لا يجد فرصة أوفق من هذه للقيام بذلك.»
عند هذا الحد انتهى حديث رشيد ، أما إبرهيم فإنه كان يصغي إلى الحديث المتقدم بصمت وإمعان، ثم إنه استرسل في تأملات عميقة، واستغرق فيها استغراقا لم يعد يعي معه على شيء، فقام رشيد وانصرف على مهل دون أن يتنبه إبرهيم إلى انصرافه، أخيرا انتبه ووجد نفسه وحيدا فتعجب من حاله، ونهض وعاد إلى البيت وقد نسي كل القصة التي حدثه بها رشيد، ولكن أمرا واحدا رسخ في ذهنه ورسا رسو الجبال، فلم يعد شيء في العالم يتمكن من زحزحته: نجلا - صيدنايا.
في تلك الليلة حلم إبرهيم كثيرا، ومرة أخرى أبصر في حلمه وعلا عظيما على قمة جبل عال، رافعا رأسه مطاولا بقرونه السحاب، وحدق إبرهيم في قرونه فوجدها محددة كرءوس الحراب، ثم نظر إلى عينيه فوجدهما ترسلان أشعة تشبه الأشعة التي ترسلها الشمس من خلال الغيوم، فهي مستقيمة وحادة، وكان منظره وهو يتنشق الهواء بلهفة؛ لعله يجد فيه رائحة مخصوصة يرتاح إليها، منظرا رائعا يأخذ بمجامع القلب، أخيرا رآه يتنشق الهواء بسرعة بمنخريه اللذين كانا يهتزان للشم، ويحول رأسه نحو جهة معلومة وينطلق كالسهم! فتململ إبرهيم في فراشه واستيقظ وإذا الفجر قد لاح، ولكنه لم ينهض حالا، بل ظل مستلقيا يتأمل في حلمه والوعل العظيم الذي رآه.
ظل إبرهيم منفردا خاليا بنفسه، متحاشيا الاجتماع بأي كان من أصدقائه ومعارفه كل الأيام القليلة الباقية لمجيء عيد سيدة صيدنايا، وكان صامتا هادئا، وفي هدوئه دلائل انصباب الفكر على مسألة معينة هامة، كان ذلك الهدوء أشبه شيء بستار المرسح المسدل الذي يدل على الاستعدادات المتخذة وراءه، فبعث تصرفه هذا على استغراب معارفه أمره استغرابا شديدا، فمن جميع تصرفاته الغريبة لم يستغربوا أكثر من تصرفه الجديد الذين وقفوا حياله حيارى لا يدرون ما يبدون ولا ما يعيدون، وهم الذين كانوا يعدون أنفسهم صحبه وتلاميذه، ويدافعون عن كل تصرفاته السابقة ويردون التهم التي كان جماعة يحاولون إلصاقها به لمجرد أنهم لم يكونوا يستطيعون فهم أطواره وشذوذه عن أساليب تفكيرهم وطرائق فهمهم، وابتدأ ضعاف الثقة منهم يشكون في مصير هذا البطل، الذي كان آية في القوة والبطش، ومثالا للشجاعة والإقدام، وقدوة صالحة في الاعتماد على النفس، وأخذ بعضهم يتكهن بأفول نجمه وتداعي بنائه الفخم، فوقع ذلك عند الفريق الذي ظل يوده ويحترمه ويؤمن به وقعا أثار أسفهم الشديد، وكاد يؤدي إلى الشقاق بينهم وبين أولئك المتكهنين.
وقع عيد سيدة صيدنايا هذه المرة في يوم أحد، فلما كان الصباح استيقظ إبرهيم باكرا ونهض إلى تمريناته وحمامه البارد، وكان نشيطا في قوته، رائق النفس، مرتاح البال، ثم بادر إلى لوازم سفره فجمعها في حقيبة يدوية صغيرة وودع أهل بيته بعبارات مقتضبة، وتوجه إلى صديق له عنده سيارة وقال له: «هلم نسافر معا يا أنيس.» - «ماذا؟ هذا أنت يا إبرهيم؟ وإلى أين نسافر؟» - «إلى صيدنايا، فإن لي نذرا يجب علي أن أوفيه هناك في هذا العيد.»
অজানা পৃষ্ঠা