يبتدئ القوم يتقاطرون إلى صيدنايا قبل العيد بأيام، ثم تفد جموعهم في اليوم السابق للعيد ويوم العيد الأول - مدة عيد سيدة صيدنايا ثلاثة أيام - وهم يستخدمون وسائل النقل العصرية كالسيارات والدراجات النارية، بدلا من العربات والخيل والحمير وغيرها التي كانت تستعمل قبلا حتى عهد قريب، وطريق صيدنايا سهلة غير أنه لا يزال قسم منها غير معبد، فكلما مرت سيارة أثارت غبارا، ولكن القادمين قلما يبالون بالغبار، فلا ينتصف نهار العيد الأول إلا وغرف الدير وكنيسته وساحاته الداخلية وسطوحه قد غصت بالجموع، ولم يعد فيها متسع للجموع الأخرى التي لا تنقطع وفودها كل ذلك النهار، فيحدث هرج ومرج عظيمان تضطرب لهما البلدة الصغيرة، وبينما الجماهير في غدو ورواح إذا بالشبان يؤلفون فرق «العراضات» التي تتجول في كل مكان ويملأ هتافها كل تلك الناحية، أما أهل البلدة فبعضهم ينصرفون إلى إعداد بيوتهم؛ لنزول القادمين الذين يضيق بهم الدير على رحبه، والبعض الآخرون يعدون المآكل من لحم مشوي، وبيض مسلوق، وخبز وجبن وزيتون، أو يجيئون بالعنب والتين وأنواع البزور إلى الدير ليبيعوها للزائرين، ويدور في الدير رقص «الدبكة» فيؤلف الرجال حلقاتهم وتؤلف النساء حلقاتهن، ولا يخلو الأمر من جاهل أو أحمق لا يعرف آداب السلوك والمعاشرة، أو هو يعرفها ولا يعرف أن يحافظ عليها، فيكون سببا في تشويه العيد على القوم وعلى نفسه.
وأهم ما يسترعي انتباه الزائر القادم إلى العيد لأول مرة من شئون الخلق المزدحمين هناك: ملابس القرويات وحللهن الخاصة بالأعياد، فللقرويات السوريات حلل زاهية الألوان، بديعة المنظر، حتى إنه يحق لهن أن يباهين بها قرويات العالم في سلامة الذوق وجمال المظهر، وملابس قروياتنا إجمالا جميلة ولها رونق الزي القومي، بيد أن قرويات معلولا يمتزن بزي خاص هو من أجمل أزيائنا القروية القومية، وبقية زي القرويات السوريات القديم الأصلي.
قلت: إنه لا يخلو الأمر في الحوادث الشعبية؛ مثل عيد سيدة صيدنايا، من جاهل أو أحمق يعكر بسوء تصرفه صفو الأفراح، والظاهر أن الجهال والحمقى لا يتركون فرصة تمر دون أن يغتنموها لإظهار جهلهم وحماقتهم، فاجتمع منهم في عيد سيدة صيدنايا سنة 1930 عدد غير يسير، إلا أن واحدا منهم امتاز عنهم بجرأته وإقدامه، وجعل للحادث التالي أهمية روائية ما كان ليكتسبها لولا الأعمال المرسحية والأدوار التمثيلية التي أتاها.
كان بين القادمين إلى دير صيدنايا في عيد السنة المذكورة شاب من لبنان ربعة إلى الطول، مرير القوى، مسمور الجسم، في قامته استقامة الرمح، ذو صدر يشبه بارتفاعه برجا حصينا، وهو مستوي الوقفة، معتدل الخطوة، ولعينيه بريق تظهر فيه قوة روحه، وهيئته إجمالا تدل على أنه غير ميال كثيرا إلى الهزل، بيد أنه كان يحب مشاهدة الألعاب ويسر بها سرور الطفل، والناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبت أخلاقهم وفسدت طباعهم من شبان هذا العصر، الذين لم يحصلوا حين نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة، ولا من الذين أنشبت مخالبها بهم المشارب القديمة الفاسدة التي لا تجر على من يتمسك بها في القرن الحاضر إلا الوبال، كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر، وأسميته إبرهيم، لا أريد أن أدعوه باسمه الحقيقي ولا أن أذكر اسم البلدة التي جاء منها؛ لكيلا تتحول الحكاية إلى أمر شخصي وتفقد صفة الواقعة الروائية المقصودة، ومن المؤكد أن إبرهيم لم يأت إلى صيدنايا للقيام بفروض كنسية؛ لأنه كان يحب الله والطبيعة حبا خاليا من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديم القرابين، ويهرب من الطقوس، ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية؛ لذلك كان إعجابه بالمشاهد الكثيرة التي وقعت عليها عيناه المتقدتان شديدا، بل كان ابتهاج الطفل يبدو على وجهه كلما رأى حلل القرويات المزركشة الزاهية.
لإبرهيم في بلدته سيرة بطولة مشهورة يعرفها كل الذين يهتمون بتناقل سير الأبطال، وكان الشبان الذين يعرفونه ينظرون إليه نظرهم إلى مثال فخم لقوة الجسد والروح، حتى إنه إذا وجد بينهم وخطر لهم أن يدخلوا على الأسود في عرائنها، أو أن يتصدوا لمحاربة جيش مسلح ولا سلاح لهم إلا العصي، أقدموا موقنين بالفوز، وفيما سوى ذلك كان هذا الشاب مشهورا بغرابة الأطوار، من ذلك أنه كان يكره الظهور ويأنف من عرض قوته البدنية العظيمة على الناس، فخالف بذلك عادة الفتيان الذي لا يكادون يطمئنون إلى شيء من القوة في عضلاتهم، حتى يعمدوا إلى إظهاره والمفاخرة به، وكان يبتعد عن مخالطة الناس خصوصا الجنس اللطيف، فكان يفارق كل مجلس يضم سيدات أو آنسات، ويعرض عن الحسان اللواتي كن يخفين في صدورهن شوقا لاعجا للاجتماع به مثيرا كوامن غيظهن بعدم مبالاته وعبثه، حتى أخذن يتناقلن عنه حكايات مختلفة القصد منها الحط من شأنه، وشاركهن في غيظهن كل الشبان الذين كانوا يحسدونه؛ لعلوه عن مستواهم في القوة البدنية وقوة الإرادة، فجعلوا يذيعون عنه حكايات قصدوا منها أن يطعنوه في رجولته، أما هو فكان يترفع عنهم ويمر بأقاصيصهم مرور الكرام، ومع ذلك لم ير بدا من تأديب واحد أو اثنين بلغت بهما الوقاحة حدا حملهم على الاقتناع بما كانوا يختلقونه عنه.
مما يجب ألا يغفل ذكره هنا أمر له علاقة كبيرة بنهاية هذه القصة، وهو أن إبرهيم سئل مرة: كيف يجب أن تكون امرأته فيما لو أراد أن يتزوج؟ وكان السائل صديقا حميما لإبرهيم، فأجابه: أنه يرى انتخاب امرأة صحيحة الجسم، قوية البنية، مليئة، مكتنزة، موردة الخدين، وافرة العقل، حسنة المدارك، تعرف كيف تدير شئون بيتها ويكون من صحتها صحة لأولادها.
دخل إبرهيم الدير وأخذ يتجول في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه، ثم إنه أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة التي أمامه، فوقعت عينه على حلقة «دبكة» في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات، والجمع يحدق بها من جميع النواحي حتى صارت حلقة ضمن حلقات، وبينما هو يتمتع بمرأى حلقة الرقص إذا بإحدى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الحلقة، وتأخذ في رقص فردي مبتكر بينما رفيقاتها يتابعن الدبكة حولها، وكانت الفتاة معتدلة القد، هيفاء القوام، تلعاء الجيد، أسيلة الخد، ذلفاء الأنف، حوراء العينين، وطفاء الأهداب، وكانت لابسة حلة أرجوانية، شادة وسطها بنطاق مذهب، معلقة في أذنيها الصغيرتين قرطين كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافة شعرها بمنديل تتعلق به قطع نقود فضية، ومن فوقه وشاح أبيض مسدل على ظهرها، لم يكن إبرهيم قد رأى من قبل راقصة مثل هذه، ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب بمرآها أيما إعجاب، وأخذ يتأمل قدها الجميل وهيئتها اللطيفة، ويراقبها في خطوها وتنقلها، وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتمايلها، صفات تتجلى فيها قوة عاطفتها وشدة إحساسها، وكانت بين حين وآخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز، وتلقي على ما حولها ومن حولها نظرات فيها كل معاني عدم المبالاة.
وقف صاحبنا ينظر إلى هذه الراقصة برغبة عظيمة وارتياح تام، ولأول مرة في حياته شعر بخفقان في قلبه، وأحس حرارة شديدة تغشى سطح بدنه دون أن ينتبه إلى هذه الحالة الجديدة التي صار إليها، ولو رآه على هذه الحالة من يعرفه جيدا، لعجب كثيرا من استئناسه بمرأى الفتيات، وإعجابه بمظهر الراقصة الحسناء وهو الذي كان يهرب من النساء، ومن كل مجتمع نسائي هربا، ولا يرغب في أن يرى منهن إلا من كانت ممتلئة البدن.
لا شك في أنه لو انتبه إبرهيم إلى نفسه في هذه الآونة ورأى الحالة التي هو عليها، لكان أخلى مكانه بغاية السرعة وهرب جريا على عادته وهزأ من نفسه، كيف أطاق أن يطيل النظر إلى حلقة من النساء، ويبتهج بمرأى فتاة غريبة جدا عن نوع الجمال الذي كان يملأ تصوراته؟! ولكنه لم ينتبه قط، لأن الرقصة كانت آية في الذوق والإبداع، ولها مدلولات نفسية تثير كوامن الشعور، لم يكن هو الوحيد الذي ترك كل شيء آخر وأقبل لمشاهدة الراقصة الأنيقة، بل إن الباحة التي كانت ترقص فيها كانت كلها أعناقا متطاولة نحوها.
أخيرا أتمت الراقصة رقصها الفردي فأقبلت عليها رفيقاتها يهنئنها وسط عاصفة من التصفيق توردت لها وجنتاها، أما إبرهيم فبقي في مكانه لا يصفق ولا يهتف، ولكن عينيه كانتا تراقبان ما يجري في الأسفل باضطراب وقلق، فإن فريقا من الجمهور المزدحم في الباحة مؤلفا من أولئك البلهاء الذين يظنون الفطنة كل الفطنة في انتهاز مثل هذه الفرصة للتلذذ بأتفه الملذات وأحقرها، كملامسة أجساد الفتيات والنظر إلى وجوههن عن كثب بوقاحة، وصلابة جبين تظهر فيهما الغريزة الحيوانية بوضوح تام - أطبق على الراقصات وضرب حولهن نطاقا ضيقا أصبح اختراقه من الصعب عليهن، إذا لم يكن من المستحيل، فتضايقن جدا وعبثا نظرن إلى من حولهن نظرات ملؤها التضرع، وكان بين الجمع شاب أخذ يشق طريقه نحو الفتيات، وعليه دلائل الجذل الممزوج بالخبث، فاغتاظ إبرهيم جدا من هذه الحال، خصوصا من الشاب الذي كان يتقدم نحو الفتيات، وليس في هيئته ما يدل على أنه يقصد الإفراج عنهن، ولم يتمالك أن انحدر إلى الساحة وطلب من جمهور الرجال الواقفين هناك أن يفسحوا له مجالا للتقدم، ولما رأى أنهم قابلوا طلبه بعدم الاكتراث، ابتدأ يجذب بعضهم ويدفع آخرين بقوته الملكارثية حتى شق لنفسه بين الجمع طريقا عريضة كافية لمرور شخص واحد دون انزعاج، فلما بلغ المكان الذي انحصرت فيه الفتيات، كان الشاب الذي انسل بين الجمع قدامه قد سبقه وجعل يحادث الراقصة الحسناء بتودد، أما هي فامتعضت من وجوده وازدادت اضطرابا لما رأت مضايقة القوم لها ولرفيقاتها، فلما رأت إبرهيم مقبلا والرجال تتطاير من يديه ذات اليمين وذات اليسار، دهشت دهشا عظيما ثم إنها لم تلبث أن أدركت أنه آت للإفراج عنها وعن رفيقاتها فأكبرت نخوته وشجاعته، فتقدم إبرهيم إلى هذه الفتاة ووقف لحظة يبادلها النظر وهو لا يدري ماذا يفعل، وكأن الفتاة أيضا لم تكن تدري ماذا تفعل، ثم خاطبها قائلا: «أيتها الآنسة، إن الطريق مفتوحة لك ولرفيقاتك.» فأجابته بصوت خريد وقد تضرج خداها: «إني أشكرك من كل قلبي فإنك قد أنقذتنا وحدك.» وعلى الأثر غضت نظرها وانطلقت في الممر الذي افتتحه إبرهيم وسارت رفيقاتها في أثرها.
অজানা পৃষ্ঠা