إلى هوميروس الخالد.
مقدمة
هوميروس
لزمت هوميروس أعواما ثلاثة أقرؤه وأدرسه وألخصه فما ضقت به ولا نفرت منه، بل ازددت له حبا وبه إعجابا. وكنت كلما تركته فترة أحسست شوقا عجيبا إلى أدبه يجذبني ويلح علي فأعود إليه، فيخيل إلي أنه قد شرع يغني لي، ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عودا على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس
1
وديوميدز وأوديسيوس في جانب من المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى، ينصرون أو يخذلون.
ما أجمل هوميروس!
لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافا شديدا، لكن اختلافهم فيه لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بدا من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته فيهما معا، وأن يطبعهما بطابعه الخاص فلم لا يكون هذا المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكون أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، ولا يزالون ينهلون. هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟!
ألا يكون التواتر صحيحا في أربعة قرون ويكون صحيحا في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريده من الإلياذة ومن الأوديسة ومن غير الإلياذة والأوديسة، وكان هيرودوتس خبيرا بأدب بلاده وبتاريخ هذا الأدب، وكان يعرف أن الإلياذة والأوديسة لم تكونا معروفتين بحالهما الذي تواتره الناس عن هوميروس قبل هوميروس. حقا؛ لقد كانت الأساطير التي حشدها في ملحمتيه معروفة قبله بأجيال، لكنه كان أول من نظمها في هذا العقد الجميل الرائع الذي قبس منه إسخيلوس، والذي حام حوله يوربيديز، والذي ظل موردا لجميع شعراء الكلاسيك من غير استثناء.
لقد كتب هيرودوتس تاريخه في زمن استقرار الحضارة اليونانية ونضوجها، ونحن نلمح في تاريخه روح النقد والتمحيص، والبحث والتحقيق، فهو إذا روى لم يثبت إلا ما يراه متفقا عليه من الناس، فإذا رآهم يتفقون على شيء لا يطمئن إليه ضميره لم يبال أن يقول بعد إثبات ما اتفقوا عليه: أما رأيي فهو كيت، أو أنا أعتقد كذا ... ولم يكن يبالي كذلك أن يدلي برأيه في الآلهة، فقد صرح أنه لا يدري من أين نشئوا، وأن شيئا عن ذواتهم لم يكن معروفا إلى زمنه. وذهب إلى أبعد من هذا، فقرر أنهم جميعا من صنع هوميروس وهسيود؛ اللذين وضعا للإغريق ذلك الثبت الطويل من الآلهة وأنصاف الآلهة، ثم راحا يوزعان عليهم ذلك الاختصاص العجيب من مقاليد البر والبحر والأفلاك والهواء والنور والظلمة والحكمة والفنون ... وقد رفض ما ذهب إليه الشعراء من أن هذا التوزيع وذاك اللاهوت بطقوسه التي تعارفها الناس كانا موجودين قبل هوميروس وهسيود، وأكد أن الميثولوجيا اليونانية كلها لم تعرف إلا بعدهما.
অজানা পৃষ্ঠা