نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالا للرجال يحتذونه؛ إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعانا. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراما وصلوها أعواما.
ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالا رائعا من الوفاء يحتذينه؛ إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن، فلا يفرطن في أعراضهن ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمنا طويلا، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة وصابرت وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فخضد شوكتهم واستأصل شأفتهم.
فالإلياذة خشنة كخشونة الرجال، والأوديسة لطيفة رقيقة فيها كثير جدا من رقة النساء، وهي رقة جعلت صمويل بطلر الأديب الإنجليزي العظيم يؤمن بأن هوميروس لم ينظم الأوديسة ولم يعرفها ولا تمت إليه بسبب، وبأنها من نظم فتاة من جزيرة صقلية استطاعت أن تدرس هوميروس والميثولوجيا اليونانية دراسة هادئة ثم فرغت إلى نظم الأوديسة فأتمت عملها في سهولة وفي يسر، وأخرجت هذه الدرة الفريدة التي تسمو في كثير من فصولها إلى ذروة الإلياذة إن لم تزد عليها.
لشد ما يدهش المرء لهذه الفكرة الغريبة التي قذف بها منطق بطلر! إن كثيرا من القرائن تؤيد هذا الرأي، بيد أننا لا نميل كثيرا إلى الأخذ به؛ لأن الأخذ به شرود خطير مبالغ فيه عن حيز الأدب اليوناني القديم، وقليل من الاستقراء في المآسي التي ألفت بعد هوميروس تهدم رأي بطلر وآراء الذين تشككوا في صحة نسبة الأوديسة إلى هوميروس، فثلاثية إسخيلوس «الأورستيه» مثلا والتي تتركب من مآسيه أجاممنون وحاملات الكئوس والإيومينيدز قد أشير إليها في الأوديسة (الكتاب الحادي عشر)، إذ يقص أوديسيوس على ألكينوس الملك رحلته إلى هيدز (الدار الآخرة) وما تحدث إليه به الكاهن تيرزياس عن أوبة أجاممنون، وما حدث له من الغيلة على يدي زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجستوس ثم ما كان من ثأر الفتى أورست لأبيه وقتله أمه ... إلخ.
فهذه الثلاثية التي أخذها إسخيلوس من الأوديسة وقدمها للمسرح تنقض وحدها دعوى الأديب بطلر؛ لأن الفتاة الصقلية التي يزعم أنها نظمت الأوديسة لم تكن قد وجدت بعد.
وقد جاء سوفوكلس فوضع مسرحيات كثيرة - معظمها مفقود بكل أسف - متخذا موضوعاتها من صميم الأوديسة، ومما وصل إلينا من أسمائها تلك المسرحية الجميلة المسماة نوزيكا، وقد أحذ فكرتها من الكتاب السادس، وهي المسرحية التي يروى أن سوفوكلس نفسه قد قام فيها بتمثيل دور الفتاة نوزيكا ابنة الملك ألكينوس حينما ذهبت إلى شاطئ البحر في سرب من وصيفاتها تغسل أثواب عرسها وتنشرها في الشمس فوق أغصان أشجار الغابة التي كان أوديسيوس مختبئا فيها بعد نجاته من الغرق.
وهناك أدلة كثيرة تهدم ما رآه بطلر خطأ في نسبة الأوديسة إلى مؤلف غير هوميروس ولم أعثر في الكتب التي درست فيها ملك الشعراء من يوافق الأديب الإنجليزي على وجهة نظره هذه.
والذي يقرأ مآسي اليونانيين القديمة يلاحظ أن الشعراء قد عنوا بالإلياذة أكثر مما عنوا بالأوديسة، فأخذوا من الأولى أضعاف ما أخذوا من الثانية. وقد لا يكون بعيدا أن إسخيلوس قد أخذ من الإلياذة ستين مأساة على أقل تقدير من الثمانين التي ألفها والتي قال فيها إنها فتات من موائد هوميروس الغنية، وكذلك أخذ سوفوكلس كثيرا من مآسيه التي وضعها للمسرح.
والإلياذة حقيقة بهذا الالتفات من شعراء اليونان فهي النهر العظيم الجياش المتدفق الذي تفرعت منه الأوديسة والإلياذة الصغيرة والإلياذات الكثيرة التي ألفها شعراء القرن الثالث قبل الميلاد في كل من أثينا والإسكندرية، والتي لا نستطيع هنا أن نحصرها ولا أن نتكلم عنها. •••
وليس من شك في أن شخصية أخيل هي أبرع شخصيات الإلياذة ولا غرو، فقد سمى هوميروس إلياذته «قصيدة غضب أخيل!» وروح أخيل هي كهرباء الحماسة في الإلياذة من أولها إلى آخرها.
অজানা পৃষ্ঠা