أما طروادة؛ فيعطف عليها أبوللو وتنحاز إلى صفوفها فينوس. أليس باريس قد قضى بالتفاحة لها من دون هيرا ومينرفا؟
لذلك تكاد تكون حرب الإلياذة قائمة بين قبيلين متفاوتين في الطبائع، فأحدهما أقرب إلى الآلهة منه إلى الناس والآخر أقرب إلى الناس منه إلى الآلهة، وفي ذلك ما فيه من ميل هوميروس الذي يبدو هواه مع اليونانيين في الإلياذة التي نملكها، والتي هي من تمحيص اليونانيين من أهل أثينا والإسكندرية.
على أن هذا الميل لم يكن حادا أو مبالغا فيه كما هي الحال في القصص الشرقي الذي خلفته لنا عصور البطولة، ومن نحو قصة عنترة أو أبي زيد أو سيف بن ذي يزن، فالغالب في هذه القصص أن يطبع الراوي سامعيه بطابع خاص، فيجعل هواهم في جهة واحدة بحيث يطربون أبلغ الطرب وأشده إذا جال عنترة جولة فأطاح برءوس مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين، أو إذا انهزم الزناتي أمام أبي زيد، لا، لم يفعل هوميروس كما فعل هؤلاء، فهو بالرغم مما جعل لأبطال الإغريق من شرف النسب وكرم الحسب، وبالرغم مما أنهى به الإلياذة من فتح طروادة وإشعال النيران فيها وقتل أبطالها البارزين، قد خصهم بنوع عجيب من البطولة يرفعهم درجات فوق الأبطال الإغريق؛ وذلك أنه جعلهم أناسا وجردهم في المعمعة من هذه الحضانة الربانية التي خلعها على أخيل وغير أخيل، ومع ذلك فقد صبروا وصابروا ولقوا جموع اليونانيين بمثل الشجاعة التي لقيهم اليونانيون بها، فلم يجبنوا ولم يهنوا ولم يتخاذلوا عند اشتداد اللقاء، وكانوا يقتلون ويقتلون، وكانت الكرة تكون لهم مرة ولخصومهم مرة، وكانت لهم مواقف عجيبة مشرفة تنتزع من القارئ استحسانه أو رثاءه، وقد استطاع هوميروس أن يستدر دموع سامعيه وهو يصور وداع هكتور لزوجه وولده، وفزع هذا الولد العجيب وأبوه يتناوله من يدي أمه ليقبله القبلة الأخيرة التي لم يره بعدها؛ لأنه ذهب ليصاول أخيلا فيقتله أخيل بمساعدة الآلهة، لا لأنه أقوى منه وأشد مراسا.
لقد استطاع هوميروس أن يستدر دموعنا وهو يصور لقاء أخيل لبريام المحزون وقد ذهب - وهو ملك طروادة - يرجو بطل الإغريق وزعيم الميرميدون في أن يدع له جثة ولده هكتور، وأن يخلي بينه وبينها، فما كان من أخيل إلا أن أصاخ ودموعه تنزف، فترك الجثة؛ جثة هكتور الذي قتل بتروكلوس حبيب أخيل ووكيله على جنده وأعز الناس إلى نفسه، والذي بكيناه أحر البكاء حينما قتل وحينما انتزعت أسلابه، وحينما جيء به إلى معسكر أخيل معفرا بتراب المعمعة، وحينما سهدت عليه العيون وسهرت عليه حبيبة أخيل.
وهكذا يرتفع هوميروس بأبطاله في الناحيتين، ويوزع إعجاب القارئ على المعسكرين مما سنبينه فيما يلي. •••
كان هوميروس يخفض الآلهة إلى مراتب الناس فيجعل لهم من الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة أو ما ليس يتوفر إلا للآلهة.
وعجيب أن تتخذ آلهة هوميروس مثلها العليا من البشر الذين خلقتهم بأيديها؛ لأن هوميروس - على ما يبدو في ملاحمه - لا يرى الحياة الدائبة النشيطة المفعمة بالغرائز المتضاربة إلا في محيطها المرئي المعترف به الذي يتكون منا نحن البشر، ولكي تتم الصورة الشعرية التي هي روح ملاحمه، والتي تفوق بها على ضريبه هسيود، تراه يلجأ إلى الأساطير يلون بها فصوله، وليثير بغرابتها شوق سامعيه، وليجدد فيهم الحماسة التي هي أولى غايات الملاحم؛ لذلك تراه يعقد مجالس الآلهة للتشاور فيما ينبغي أن تكون الوسيلة لنصرة فلان أو لخذلان فلان، فإذا اجتمع شمل الأولمب فلا بأس أن تثور الحفائظ بين أرباب وأرباب وبين ربات وربات، ولا بأس أن يعير أحد الآلهة فلكان إله النار بما وقع بين زوجة فينوس وبين مارس إله الحرب من خطيئة وفسوق
9
ولا بأس أن يدس هرمز أنفه في الموضوع فيصرح أن مارس معذور جد معذور فيما حدث له من الصبوة إلى فينوس، وأنه أول من يشتهي أن يكون الذي وقع لمارس كان قد وقع له.
وليس يرى هوميروس بأسا في أن ينزل الآلهة في معمعان الحرب ينافحون عن الأبطال الذين ينتمون إليهم، ففي الكتاب العشرين من الإلياذة يستأذن الآلهة سيد الأولمب فينقسمون فريقين، فتكون هيرا ومينرفا وهرمز وفلكان في صفوف الإغريق، وينحاز أبوللو ومارس وديانا وفينوس إلى صفوف الطرواديين، فإذا ثار النقع واضطرمت الحرب، والتقى أخيل وهكتور (الكتاب العشرون) وقعقعا بالسلاح، وأوشك هكتور أن يظفر ببطل أبطال اليونان عندما يسقط رمحه، تتقدم مينرفا فجأة وعلى عجل فتأخذ الرمح من فوق الأرض وتناوله لأخيل فتنقذه من قتلة لم يكن فيها شك ولا عنها متحول، وهي تفعل مثل ذلك في الكتاب الثاني والعشرين فتنقذ أخيل وتمهد له بذلك فيقتل هيكتور، ومع أن مينرفا هي ربة الحكمة في الميثولوجيا اليونانية فهوميروس في هذا الموقف ينحط بها إلى أسفل مراتب الإنسان؛ لأنها تكون سببا في قتل رجل عظيم مثل هكتور يدافع عن وطنه ويذود عن حمى بلاده، وهي لا تتسبب في قتله فقط بل تحرمه فرصة نادرة أوشك أن يبطش فيها بأخيل.
অজানা পৃষ্ঠা