إذن؛ فالتسليم بوجود قوتي الجذب والدفع فرض ضروري، العقل مقسور على التسليم به، وفي ذلك يجاريه العلم كرها، ولو أنه يعجز عن إثبات وجود هاتين القوتين بطرقه المعروفة.
في بقاء القوة
أي في حقيقة أن كمية القوة الموجودة في الكون ثابتة لا تزيد ولا تنقص. يقول العلامة «سبنسر»: إن هذا الاعتقاد أساس كل العلوم الحديثة، وإنه النبع الفائض الذي نستمد منه العلم بكل النواميس الطبيعية. يقول: إن كل النواميس الطبيعية الأخر ليست سوى توابع تعود إلى هذه الحقيقة العظمى، وكل الاستقراء العلمي «يفرض» أن القوة ثابتة؛ لأنها إذا لم تكن كذلك أصبحت أدوات قياس الأبعاد، التي هي في ذاتها عبارة عن قياس القوة الجاذبة، وكل أدواتنا الأخرى التي نحقق بها استنتاجاتنا العلمية تتغاير بين يوم وآخر أو بين ساعة وأخرى. وبذلك تصبح كل المعارف الطبيعية غير ممكنة؛ لذلك كان مبدأ بقاء القوة - ولو لم نستطع أن نثبته علميا - اعتقادا إلزاميا ضروريا.
والعلامة سبنسر يعتقد أن هذا الفرض وإن كان أساس العلم الطبيعي، إلا أن «العلم» يعجز عن إدراكه وإثبات وجوده بطرقه المعروفة التي تعتمد على الحواس. وهذا مثال حق يثبت قاعدة أن كثيرا مما لا يمكن أن يدركه العلم الطبيعي يجب أن يعتقد بوجوده؛ إذ لولا هذا الأمر لتحلل ذلك الهيكل النظامي الذي ترتكز عليه معرفتنا.
هذه أمثال ثلاثة. وفي مستطاعنا أن نأتي بأمثال أخرى. فالعقل ووجوده في ذوات غير ذواتنا لا يمكن إثباته بالطرق العلمية، وكذلك الأثير والاعتقاد بتفوق العقل على المادة، والشجاعة على حب الملاذ، والاعتقاد بوجود السببية العلمية، كل هذه الأشياء تقسر على الاعتقاد بوجودها عقلا باعتبارها فروضا ضرورية، في حين أن العلم يجاري العقل فيها ولا ينكرها عليه، بل هو مضطر إلى اتخاذها قاعدة يبنى عليها، ولو أنه يعجز عن إثبات وجودها بالأسلوب العلمي.
هذا هو الفرض الضروري. فلنحاول من ثم في تطبيقه على بعض الأشياء التي تقوم عليها معرفتنا؛ لنعرف الفرق بينه وبين الفرض الإمكاني، ولنجعل الفكرة في وجود الله محورا يدور من حوله البحث. (9) الاعتقاد بوجود الله فرض ضروري
يعتقد كثير من أصحاب العقول الراجحة في هذا الزمان أنه ليس في الفلسفة من شيء هو أبعد من ألفة العقل من تلك الفكرة التي يطلق عليها اصطلاح «الناسوتية» أنثروبومورفزم
Anthropomorphism ؛ أي الفكرة القائلة بتزويد الله بشيء من الخصائص الإنسانية. على أن الاعتقاد بأن الخالق مكون على حسب نماذجنا العقلية، أو أنه صورة من صور الفكر الإنساني، هو اعتقاد فيه من الباطل بقدر ما في القول بأن الأرض مركز النظام الشمسي، وأن الإنسان محور العالم.
وعلى الرغم مما في هذا النقد من الصحة ومطابقة الواقع ، فإن محاولة الاعتقاد بأن علة الكون من الممكن إدراكها بما يبعد عن إدراك ذواتنا، أمر بعيد عن الإمكان بحكم الطبيعة، بل قول هراء لا أثر له من الحقيقة.
خذ لذلك مثلا «اسبينوزا»؛ فإنه أبعد الفلاسفة عن الاعتقاد بأن الخالق مكون على نموذج عقله، وقد مضى في فلسفته متخيلا أنه اجتاز هذه العقبة الكئود بأن جعل الخالق عبارة عن «امتداد وفكر»، غير أن دكتور «مارتينو» قد نقض هذه الفكرة متسائلا: «من أين أتى لاسبينوزا فكرة «الامتداد» إلا من النظر في حالات جسمه الطبيعية، ومن أين أتى له أن الله «فكر» إلا من النظر في حالات عقله؟» ذلك لأن الامتداد والفكر ليسا سوى شيئين هما أخص ما تتصف به الأجسام والعقول.
অজানা পৃষ্ঠা