لا؛ إنه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحريته التي ظفر بها بمصادفة قد لا تعود، هكذا اعتزم «أطلس» ودنا من «هرقل» وقال له: ابق حيث أنت حاملا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالقبول والرضا؛ أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزواهر؟ إذن فليحملها راضيا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضل عليه بصنيع واحد صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظة قصيرة، حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذها، وفعل ما طلب إليه «هرقل» فعله؛ وكيف يتردد في قبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاء حرية يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟
ألقى «أطلس» بالتفاحات على الأرض، وحمل السماء عن «هرقل» حتى يضع «هرقل» على كتفيه الوسائد والحشايا التي تهون عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي ألقي عليه، لكن «هرقل» لم يكد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضى تاركا أطلس في مكانه القديم، يشقى بأداء واجبه الذي فرض عليه بحكم وجوده.
قلت: ماذا تعني؟
قال: أعني ما قلته؛ إن عبء الحياة ثقيل، مهما تكن صورته، ولا يشدنا إليه أو يشده إلينا إلا هذه الأنفاس نتنفسها، ولو كتمها حامل العبء لاستراح من أداء هذا الواجب الثقيل.
قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرق صاحبها هي الحياة المريضة؛ فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزاء جسمك إلا إذا اعتل، إنك لا تشعر بوجود عينيك أو أذنيك أو معدتك أو قلبك إلا إذا أصابتها أو أصابته العلة ؛ أما إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فلن تشعر بمجرد وجودها، فضلا عن أن تحس الألم من حملها. إن حياتك - فيما أرى - قد مرضت فأحسست بوجودها ثم بحملها وثقلها، كأنما هي زائدة أضيفت إليك وليست منك ولا أنت منها. ولست أعجب الآن أن أرى حياتك المريضة هذه قد برزت فوق ظهرك قتبا كبيرا.
قال: قل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضقت ذرعا بثقلها. •••
شغلني «أحدب النفس» طول الليل؛ ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس، الذي يحمل عبء حياته قتبا بارزا على ظهره؛ شغلني طول الليل، يملأ أحلامي إذا غفوت، وتمثل صورته أمام عيني إذا صحوت، وما زلت طول ليلي بين غفوة وصحو حتى كان الصباح.
ترى لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدمل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركز انتباهه فيها فوضحت له علتها وبرز أمام عينيه سخفها؟ ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسرت في دمه، وخفيت عن بصره؟ يجوز؛ كما تكرر لفظة وتركز سمعك في جرسها، فسرعان ما تنفر من صوتها المنكر، بعد أن لم تكن قد فطنت لنكره حين استخدمتها غير آبه لها ولا ملتفت إليها؛ خذ كلمة إمبراطور وكررها عدة مرات: إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور؛ صوت عجيب منكر، ظهر نكره وشذوذه حين ألقينا إليها السمع، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس هيبة وجلال.
كذلك صاحبنا «أحدب النفس»؛ ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعم النظر في معنى حياته، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاس فاترة واهية من هواء فاسد، لا شيء أكثر من ذلك؛ وهو لهذا يعجب كيف يجوز أن يشد وثاقه إلى الأرض بخيوط واهية كهذه على كره منه؟
وأحسست برغبة قوية في نفسي أن ألقى هذا الرجل لقاء آخر، فقصدت في المساء إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقيته فيه أول مرة، ووقفت طويلا أرقب من بعيد، حتى رأيته يسري في غير صوت بين الظلال كأنه الشبح؛ إنك لا تخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يميزه، وله مشية خاصة يتأرجح فيها الجذع وتلتف الساقان.
অজানা পৃষ্ঠা